حين يتقدم الخيال الآلي، ويتراجع الإنسان إلى الهامش، هل تظل السينما فنًا حيًا؟ هل نُسلب دهشتنا القديمة ونستبدلها بشاشة بلا نبض؟ أسئلة تتكاثف في زمن لم يعد فيه المخرج وحده هو الراوي، بل تشاركه خوارزميات وبرمجيات قادرة على خلق صور وحكايات، ولكن، ما الذي يبقى من السينما حين تُفصل عن لمسة الإنسان، وارتجافة الكاميرا، والفوضى التي تُنجب المعنى؟

في هذه المساحة يتحد أربعة من أبرز صناع الصورة والرؤية في العالم، وجاؤوا من تجارب وثقافات متباينة، ليواجهوا هذه الأسئلة لا من باب التنبؤ، بل من قلب التجربة، تحدثوا عن الذكاء الاصطناعي، وعن القيم التي لا تُستبدل، وعن الخيط الذي يربط الماضي بالحاضر، وعن السينما كفضاء للمقاومة والتأمل والانتماء.

ما بين المصور الذي لا يتخلى عن دفء البشر، والمخرج الذي يرى في البطء موقفًا سياسيًا، والمصممة التي تؤمن أن كل شخصية تُبنى من غرزة إبرة، والمخضرم الذي يقف على أطلال صناعة تتآكل، تنبثق رؤى مختلفة، لكنها تلتقي حول سؤال واحد: ما الذي يجعل الفيلم فيلمًا؟

بداية، وحول التحولات التقنية ومستقبل السينما، لا يرى داريوس خوندجي (وهو مصور سينمائي، ومصمم إضاءة فرنسي من أصل إيراني) -من وجهة نظره- مانعًا في أن يُنتج البعض أفلامهم بالاعتماد الكامل على الذكاء الاصطناعي، إذ يقول: "من يريد أن يصنع فيلمًا باستخدام الذكاء الاصطناعي فليتفضل ويفعل ذلك، هذا رأيي"، لكنه في المقابل لا يُخفي تمسكه العميق بالبعد الإنساني للعمل السينمائي، ويوضح قائلًا: "أنا أحب أن أصنع الأفلام مع الناس، أحب أن يكون حولي أشخاص عندما أصنع فيلمًا، وطاقم تصوير، ومخرج، ونساء ورجال يعملون معًا، هذه عملية جماعية".

ويتابع "خوندجي" موضحًا أن الذكاء الاصطناعي، رغم كونه أداة تقنية مفيدة، إلا أنه لا يثير فضوله في السياق الإبداعي، قائلًا: "ما أعرفه عن الذكاء الاصطناعي هو ما يقدمه لنا من تطورات تقنية، ولكنني لست فضوليًا بشكل كبير لأعرف ما يقدمه للناس في مجال السينما، فكتابة الأفلام كأنها كتب، والآن باتت الصور تُخلق من خلال التقنية، وهذه مسألة مختلفة تمامًا".

ورغم ذلك، لا يتخذ خوندجي موقفًا معاديًا للتكنولوجيا، بل يدعو إلى احترام حرية التجريب والابتكار، لكنه يُصر على أن الأولوية في السينما يجب أن تبقى لما يسميه "الخيال والمحادثة وتطوير الفكرة مع الفريق"، مضيفًا: "أنا لا أريد أن أقيّد خيال الناس، يجب أن يتقدم الناس دائمًا نحو المستقبل، ويكتشفوا، وأنا لست ضد التكنولوجيا إطلاقًا، لكن بالنسبة لي، فإن القصة، والخيال، وما يود الناس قوله، هو الأهم".

أما أكثر ما يُحبه في السينما، فيلخّصه بقوله: "أن ألتقي بأشخاص، وأن أعمل معهم، وأن نصنع فيلمًا سويًا، ربما هذا ما سنفقده مع الذكاء الاصطناعي". وحول رؤيته لتكوين الأسلوب الشخصي لدى صُنّاع الأفلام الشباب، يقدّم خوندجي نصيحة تنبع من تجربته الخاصة، فيقول: "كل شخص لديه شخصيته الخاصة، ومن الصعب إعطاء نصيحة مباشرة، لكن الأهم هو أن تتقبل اختلافك، وإذا أردت أن تصنع فيلمًا، فافعل ذلك وأنت تقبل اختلافك وتصنع شيئًا ينبع من ذاتك"، ثم يستعيد تجربته الشخصية قائلًا: "عندما كنت طفلًا، كنت أعلم أنني مختلف، لكنني كنت أريد أن أكون مثل الآخرين، نشأت في ضواحي باريس، وأردت أن أبدو مثل الفرنسيين الباريسيين، فقط لاحقًا اكتشفت أن اختلافي كان في الحقيقة شيئًا جيدًا، وعليّ أن أتقبله".

الفن مقاومة!

"المنظور الأمريكي للسياسة والعالم يفرض نفسه بقوة، لكنه ليس المسار الوحيد"، هكذا يفتتح المخرج والملحن والناقد السينمائي الفلبيني لافرينتي إنديكو دياز رؤيته الناقدة لهيمنة "هوليوود" على الصناعة السينمائية العالمية، ويؤمن بأن الفن -سواء في السينما أو الموسيقى أو الرقص- يحمل قوة جمالية قادرة على اختراق الحواجز وخلق سرديات بديلة، مضيفًا: "أمريكا بنت عبر السنين جدرانًا من الفاشية الثقافية، وفرضت سردية واحدة، وأسكتت الأصوات الأخرى، خصوصًا تلك القادمة من الدول الصغيرة أو الضعيفة، لكن بقطعة فنية واحدة جميلة، يمكننا أن نهدم هذه الجدران، أنا أؤمن بذلك".

وحول ما يُعرف بـ"السينما البطيئة"، وهي السمة التي تتسم بها معظم أعماله، يربط دياز بين الشكل الفني والزمن الوجودي، قائلًا: علينا أن نواجه هذا الزمن السريع والمتسارع، وعلينا أن نبطئ، وأن نتوقف، وأن نأخذ نفسًا عميقًا، فالسينما الحقيقية تتطلب منا هذا البطء لنشعر بالمشاعر ونعيش الجمال، ويرى أن البطء ليس مجرّد أسلوب، بل موقف ثقافي ضد السطحية والتسليع، مضيفًا: "علينا أن نبطئ حتى نتمكن من احتضان الجمال الحقيقي، والرؤية الحقيقية، هذا مهم جدًا".

أما فيما يخص علاقة السينما بالدول الفقيرة أو ما يُعرف بالجنوب العالمي، فيطرح دياز رأيًا صريحًا في ضرورة قلب الأولويات، منتقدًا النظرة السياسية والاقتصادية التي تهمّش الفن لصالح ملفات يعتبرها "أنظمة السلطة" أكثر أولوية، ويقول: "ما يجب أن يحدث هو العكس تمامًا، علينا أن نضع الفنون في الواجهة، ويجب أن تكون الثقافة هي التي تقود، لأنها تمسّ روح الإنسانية"، ويرى في هذا التهميش "الخطيئة الكبرى" التي ترتكبها الحكومات تجاه إنسانية شعوبها.

وفي جانب شخصي يكشف عن علاقة وجدانية بالأبيض والأسود، يقول دياز: "كل مرة أصنع فيها فيلمًا، أشعر أنني طفل، نشأت وأنا أشاهد أفلامًا بالأبيض والأسود، فالأبيض والأسود هو حبي الأول".

أما عن علاقته بالسينما العربية، فيوضح: "نشأت في الجزء المسلم من الفلبين، في ميندناو، لكن للأسف لم أتعرض للسينما العربية، فكل الشبكات الإعلامية هناك تسيطر عليها الصناعة الغربية وهوليوود، والسينما الإسلامية والعربية مهمشة، وهذا مؤسف، فقط الآن بدأت أحاول فهمها".

خيط سردي

رغم أن مصممة الأزياء المكسيكية آنا تيرّازاس لا تتناول الذكاء الاصطناعي مباشرة، إلا أن حديثها يضيء على جانب بالغ الأهمية في النقاش حول السينما والإنسان: هل ما زال هناك مكان للّمسات الهادئة التي لا تراها الكاميرا؟ وهل يمكن لصورة رقمية أن تحمل تعقيد النسيج البشري الذي يصنعه التعاون والإحساس والذاكرة؟ فمن خلال رؤيتها لدور تصميم الأزياء، تدافع تيرّازاس عن العملية الجماعية التي تقف خلف بناء الشخصية السينمائية، وترى أن التصميم ليس فعلًا شكليًا، بل سردية موازية تُحاك بالإبرة والخيط، وتُكتب بالصمت لا بالحوار، وتقول: "الكثير لا يعرفون التعقيدات الموجودة في عمل مصمم الأزياء، أو ما الذي يحتاجه الشخص ليصبح فعلا مصممًا للأزياء في فيلم معيّن، وهناك من يظن أن الفيلم يقوم على الإخراج أو التصوير فقط، متجاهلين دور الملابس في تشكيل الشخصيات، ونحن، كمصممي أزياء، نعطي الممثلين جلدهم الثاني، وبدونهم، سيبدون جميعًا متشابهين".

و"تيرّازاس" التي شاركت لأول مرة في ملتقى قمرة السينمائي في الدوحة، خصصت وقتًا طويلًا لإعداد ندوة لطلبة التصميم، جمعت فيها صورًا ونصوصًا لتُظهر أن تصميم الأزياء ليس قرارًا لحظيًا، بل عملية تحليل وبحث وتعاون مع الفريق، وتؤكد: "كل شيء في الفيلم يحتاج إلى تفكير وعمق، ولا يتعلق الأمر بقميص أو حذاء فقط، بل بقصة تُروى من خلال كل قطعة، هناك خيال وبناء تدريجي وشعور يُترجم بصريًا".

وتُبرز مثالًا واضحًا من تجربتها في فيلم باردو للمخرج أليخاندرو إيناريتو، حيث كان هدفه إبراز أهمية مصممي الأزياء في تشكيل الهوية البصرية للفيلم، وتقول: "أحيانًا، نحن كمصممين، لا يُسمع صوتنا إلا بدعم مباشر من المخرج، وبدونه لن يفهم الجمهور أبدًا حجم الجهد الكامن خلف تصميم شخصية واحدة"،

وتتابع عن تجربة أخرى في فيلم Spectre، الجزء الذي صُمّم أثناء مشهد يوم الموتى في المكسيك: "المشهد لم يتجاوز تسع دقائق، لكنه احتاج ستة أشهر من العمل، كل تفصيلة -من القبعات إلى الحقائب- صُنعت يدويًا، والناس يظنون أن هذه العناصر تُستأجر، لكن خلفها جيش من الحرفيين".

الأدوار باقية

أما المخرج المخضرم "جوني تو" من هونج كونج، فرأى أن الذكاء الاصطناعي ليس نهاية الطريق لصنّاع الأفلام، بل نقطة جديدة في مسار يتطلب التكيّف والبقاء، حيث قال: "لا داعي للقلق من الذكاء الاصطناعي، فهناك اليوم العديد من القنوات المختلفة لمشاهدة الأفلام، ومع وتيرة التقدم التكنولوجي، ستتطور أنواع جديدة من البرمجيات، لكن، حتى في ظل وجود الذكاء الاصطناعي، لن تنتهي أدوارنا كمبدعين في صناعة المحتوى، سنظل باقين"، ولهذا، يدعو تو المخرجين الشباب إلى توسيع آفاقهم وعدم الانغلاق على التجربة المحلية فقط، قائلًا: "يجب أن ينظروا إلى آسيا، إلى العالم، إلى الشرق الأوسط، حيث تُنجز أعمال استثنائية".

ويعكس جوني تو في رؤيته حالة الإحباط التي تعيشها صناعة السينما في بلده، إذ يرى أن المقارنة بهوليوود ليست واردة، بسبب ضعف حجم السوق والدعم المؤسسي، قائلًا: "هونج كونج لا تمتلك الحجم الكافي لدعم مشاريع كبيرة، والمستثمرون لا يرون جدوى من أفلام ضخمة، لذلك لا يوجد دعم كافٍ"،

ويُضيف إن التحولات التي طالت قطاع السينما لا تقتصر على مكان أو سياق بعينه، بل تشمل العالم كله، خاصة في الدول النامية، حيث لم يعد الفيلم مجرد شاشة، بل منصة سردية متعددة الوسائط، ويقول: "الأفلام اليوم ليست فقط أفلامًا، فهناك منصات كثيرة تُعرض عليها القصص من مسلسلات قصيرة، وأفلام قصيرة، ومنصات إلكترونية"، لكنه يلفت النظر إلى نقطة مركزية: "لكي تُحدث السينما تأثيرًا في بلدٍ نامٍ، لا يكفي أن تُفهم قصتك في الخارج، المهم أولًا أن تُفهم وتُقدَّر من قِبل شعبك".

وعند حديثه حول السينما العربية عبّر عن اهتمام بصري ووجداني بالعناصر الثقافية للمنطقة، قائلًا: الشرق الأوسط مليء بالغموض، والملابس، والتاريخ، والصحراء، والشخصيات المثيرة بصريًا، وهذه بيئة بصرية غنية، حيث شاهدت أفلامًا من إيران، والعراق، ولبنان، وتركيا، وعلى الرغم من أنني لست من هذه المنطقة، إلا أن قصصهم تمسّني بعمق.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی أفلام ا قائل ا فیلم ا التی ت یجب أن

إقرأ أيضاً:

بتشويه «فوضى الذكاء الاصطناعي» للواقع يمضي العالم إلى كارثة

تهيمن قناتان متوازيتان للصور على استهلاكنا البصري اليومي. في إحداهما، صور ولقطات حقيقية للعالم كما نعرفه، ففيها سياسة ورياضة وأخبار وترفيه. وفي الثانية، فوضى الذكاء الاصطناعي [أو ما يعرف بـ AI slop]، بمحتوى متواضع الجودة ليس فيه من الإسهام البشري إلا الحد الأدنى. بعض ما فيه تافه الشأن عديم المعنى، لا يعدو صورا كرتونية لمشاهير، ومناظر طبيعية خيالية، وحيوانات ذات سمات بشرية. وبعضه الآخر عرض خادش للحياء...ففيه تجد حبيبات افتراضيات لا يمكن أن تتفاعل معهن تفاعلا حقيقيا. ونطاق هذا المحتوى وحجمه مذهلان، فهو يتسرب إلى كل شيء، من صفحات التواصل الاجتماعي إلى الرسائل المتداولة على واتساب. فلا تكون النتيجة محض تشويش على الواقع، وإنما هي تشويه له.

وفي فوضى الذكاء الاصطناعي شيء جديد هو الخيال السياسي اليميني. فعلى موقع يوتيوب مقاطع فيديو كاملة ذات سيناريوهات مختلقة ينتصر فيها مسؤولو ترامب على القوى الليبرالية. وقد استغل حساب البيت الأبيض على منصة إكس صيحة إنشاء صور بأسلوب استوديو جيبلي، ونشر صورة لامرأة من الدومينيكان تبكي أثناء تعرضها للاعتقال على يد إدارة الهجرة والجمارك (ICE). والواقع أن السخرية السياسية باستعمال الذكاء الاصطناعي قد انتشرت على مستوى العالم.

فهناك مقاطع فيديو صينية من إنتاج الذكاء الاصطناعي تسخر من العمال الأمريكيين البدناء وهم يقفون في خطوط التجميع بعد إعلان التعريفات الجمركية، وقد أثارت هذه المقاطع سؤالا موجها للمتحدثة باسم البيت الأبيض الأسبوع الماضي وردا منها. فقد قالت المتحدثة: إن هذه مقاطع أنتجها من «لا يرون إمكانات العامل الأمريكي». ولإثبات مدى انتشار فوضى الذكاء الاصطناعي، كان علي أن أتأكد ثلاث مرات من أنه حتى هذا الرد نفسه لم يكن في حد ذاته محتوى ذكاء اصطناعي منفذا على عجل مختلقا خدعة أخرى لأعداء ترامب.

وليس الدافع إلى تسييس الذكاء الاصطناعي بالأمر الجديد، فهو ببساطة امتداد للبروباجندا المعهودة. ولكن الجديد هو مدى ديمقراطيته وانتشاره، وأنه لا يحتوي أشخاصا حقيقيين ويخلو من قيود الحياة الواقعية المادية، فيوفر بذلك ما لا حصر له من السيناريوهات الخيالية.

وانتشار محتوى الذكاء الاصطناعي عبر قنوات الدردشة الضخمة عظيمة الحضور، من قبيل واتساب، يعني غياب أي ردود أو تعليقات تشكك في صحته. فكل ما تتلقاه ينعم بسلطة من ثقتك في الشخص الذي أرسله إليك. لذلك أخوض صراعا دائما مع قريبة لي كبيرة السن، مطلعة على عالم الإنترنت، تتلقى سيلا من محتوى الذكاء الاصطناعي على واتساب بشأن حرب السودان وتصدقه. تبدو الصور ومقاطع الفيديو حقيقية بالنسبة لها، وترد إليها موجهة من أشخاص تثق فيهم. ويصعب على المرء حتى أن يستوعب قدرة التكنولوجيا على إنتاج محتوى يبدو حقيقيا إلى هذه الدرجة.

وبإضافة هذه القدرة إلى توافق المحتوى مع رغبات قريبتي السياسية، ستجد نفسك متعلقا به إلى حد بعيد، حتى لو اعتراك بعض من الشك فيه. فوسط الكم الهائل من القطط [في بعض الفيديوهات المختلقة]، يجري استعمال الذكاء الاصطناعي في خلق سيناريوهات سياسية، وتحسينها والوصول بها إلى درجة الكمال عبر تقديمها بلغة بصرية تؤجج الرغبة في الانتصار أو تعتمد على الشعور بالحنين.

يشير البروفيسور رولاند ماير، الباحث في الإعلام والثقافة البصرية، إلى «موجة حديثة من الصور المولدة بالذكاء الاصطناعي لعائلات بيضاء شقراء، تطرحها حسابات إلكترونية فاشية جديدة بوصفها نماذج لمستقبل مشرق». وهو لا يعزو ذلك إلى اللحظة السياسية الراهنة فحسب، وإنما إلى أن «الذكاء الاصطناعي التوليدي محافظ بطبيعته، بل ويقوم على حنين إلى الماضي». فالذكاء الاصطناعي التوليدي يقوم على بيانات مسبقة أثبتت الأبحاث أنها بيانات متحيزة بطبيعتها ضد التنوع العرقي، والأدوار الجندرية والميول الجنسية التقدمية، فتأتي منتجات الذكاء الصناعي بتركيز كبير على هذه المعايير.

يمكن أن نرى الأمر نفسه في محتوى «الزوجة التقليدية» [“trad wife”]، الذي لا يقدم ربات البيوت الجميلات الخاضعات فحسب، وإنما يقدم عالما رجعيا كاملا لينغمس فيه الرجال. وتغص جداول موقع إكس بنوع من المواد الإباحية غير الجنسية، حيث تلمع على الشاشة صور الذكاء الاصطناعي لنساء يوصفن بالحسن والخصوبة والخضوع. ويجري طرح سيادة البيض والاستبداد وتقديس التراتبيات الهرمية في العرق والجندر بوصفها سلة متكاملة من الحنين إلى ماض موهوم. فبات الذكاء الاصطناعي يوصف بالفعل بأنه جمالية الفاشية الجديدة.

لكن الأمر لا يكون دائما على هذا القدر من التماسك. ففي معظم الأحيان، لا تعدو فوضى الذكاء الاصطناعي محتوى فيه بعض المبالغة أو الإثارة بما يغري على التفاعل، ويوفر لمبدعيه فرصة ربح المال من المشاركات والتعليقات وما إلى ذلك. وقد تبين للصحفي ماكس ريد أن فوضى الذكاء الاصطناعي على فيسبوك ـ وهي الفوضى الكبرى على الإطلاق ـ ليست «محض محتوى غير مرغوب فيه» من وجهة نظر فيسبوك، وإنما هي «ما تريده الشركة بالضبط: فهي محتوى شديد الجاذبية». والمحتوى بالنسبة لعمالقة التواصل الاجتماعي هو المحتوى، فكلما كان أرخص، وقلت فيه الحاجة إلى جهد بشري، فذلك أفضل. وتكون النتيجة أن يتحول الإنترنت إلى إنترنت الروبوتات التي تدغدغ مشاعر المستخدمين البشريين وتؤجج فيهم أي أحاسيس أو عواطف تبقيهم منشغلين.

ولكن بغض النظر عن نوايا مبتكريه، يؤدي هذا السيل من محتوى الذكاء الاصطناعي إلى فقدان الإحساس بالواقعية وإرهاق الحواس البصرية. والتأثير العام لدوام التعرض لصور الذكاء الاصطناعي، ما كان منها تافها أو مهدئا أو أيديولوجيا، هو أن كل شيء يبدأ في اتخاذ مسار مختلف. ففي العالم الواقعي، يقف الساسة الأمريكيون خارج أقفاص سجن الترحيل. وتنصب الأكمنة لطلاب الجامعات الأمريكية في الشوارع ليجري إبعادهم. ويحترق أهل غزة أحياء. وتمضي هذه الصور والفيديوهات مع سيل لانهائي من الصور والفيديوهات الأخرى التي تنتهك القوانين المادية والأخلاقية. فتكون النتيجة ارتباكا عميقا. ولا يعود بوسعك أن تصدق عينيك، ولكن ما الذي يمكن أن تصدقه إن لم تصدق عينيك؟ فكل شيء يبدو حقيقيا للغاية وغير واقعي بالمرة، في آن واحد.

أضف إلى هذا ما نعرفه من التبسيط الضروري والإيجاز المستفز في (اقتصاد الانتباه)، وإذا بك في سيرك ضخم من التجاوزات. فحتى عندما يكون المحتوى شديد الجدية، يجري تقديمه بوصفه ترفيها، أو فاصلا، أشبه بنسخة مرئية من موسيقى المصاعد. فهل أفزعك هجوم دونالد ترامب وجيه دي فانس على زيلينسكي؟ حسنا، إليك رسم مصمم بالذكاء الاصطناعي لفانس في هيئة رضيع عملاق. تشعر بالتوتر والإرهاق؟ فها هو بلسم للعين في كوخ فيه نار موقدة والثلج يتساقط في الخارج. ولسبب ما، قرر فيسبوك أنني بحاجة إلى رؤية تيار مستمر من الشقق الصغيرة اللطيفة مع تنويعات من التعليقات التوضيحية مفادها أن «هذا هو كل ما أحتاج إليه».

وتؤدي التحورات السريعة للخوارزميات إلى إمداد المستخدمين بمزيد مما حصدته لهم معتبرة أنه مثير لاهتمامهم. والنتيجة هي أنه يستحيل ترشيد ذلك الاستهلاك حتى لأكثر المستخدمين اتزانا. لأنك تزداد انغماسا في عوالم ذاتية بدلا من الواقع الموضوعي. فتكون النتيجة انفصالا شديد الغرابة. ويضعف الشعور بالقلق والحاجة إلى العمل الذي ينبغي أن يوحي به عالمنا الممزق، وذلك بسبب طريقة عرض المعلومات. وإذن فها هي طريقة جديدة لكي نسير نياما نحو الكارثة وهي طريقة لا تقوم على نقص المعرفة، وإنما تنشأ بسبب الشلل الناجم عن تمرير كل شيء من خلال هذا النظام المشوه، فهو محض جزء آخر من العرض البصري المبالغ فيه.

مقالات مشابهة

  • كيف تعمل من المنزل باستخدام الذكاء الاصطناعي؟
  • يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
  • إطلاق النسخة الأولى من تقرير “حالة الذكاء الاصطناعي في دبي”
  • بتشويه «فوضى الذكاء الاصطناعي» للواقع يمضي العالم إلى كارثة
  • تفاصيل الدورة المقبلة من المهرجان الدولي لفيلم حقوق الإنسان بالرباط
  • خبراء: الذكاء الاصطناعي ليس بديلاً للبشر
  • هل يمكن أن يطوّر الذكاءُ الاصطناعي خوارزمياته بمعزل عن البشر؟
  • إطلاق أول برنامج دكتوراه في الذكاء الاصطناعي في دبي
  • الوطنية لحقوق الإنسان تناقش أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
  • ميتا: إنستغرام يستخدم الذكاء الاصطناعي لمنع القُصّر من الكذب بشأن أعمارهم