في ضوء التغيير السياسي الجذري الذي شهدته سوريا عقب سقوط نظام الرئيس المخلوع بشار الأسد في 8 ديسمبر/كانون الأول 2024، وبعد اتخاذ حكومة الرئيس أحمد الشرع خطوات عدة في إطار ترتيبات المرحلة الجديدة يبرز ملف العدالة الانتقالية كأحد أكثر الملفات حيوية، والتي ينبغي على الحكومة التعامل معها، بهدف معالجة الإرث الثقيل من الانتهاكات الجسيمة، وترسيخ العدالة والسلم الأهلي، وفق ما دعت له الشبكة السورية لحقوق الإنسان.

وقالت الشبكة في تقرير لها استعرضت خلاله بالتفصيل رؤيتها لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا إن العدالة الانتقالية تعد المنهج الأمثل لتحقيق تعافٍ شامل من آثار النزاع، وبناء أسس راسخة لدولة تقوم على سيادة القانون، واحترام حقوق الإنسان، وتعزيز المصالحة الوطنية، مما يضمن استقرارا دائما.

وتضمنت رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان عرضا للإطار القانوني لإنشاء وإدارة هيئة وطنية متخصصة لتولي مهمة تحقيق العدالة الانتقالية، مشيرة إلى ضرورة مراعاة أركان العدالة الانتقالية، والتي تضمن إنشاء محاكم مختصة وجبر الضرر وإصلاح المؤسسات، وفيما يلي استعراض لأبرز ما جاء في الرؤية.

View this post on Instagram

A post shared by الجزيرة (@aljazeera)

الإطار القانوني

وبحسب رؤية الشبكة السورية لحقوق الإنسان، يقوم المجلس التشريعي -الذي سيشكل عقب الإعلان الدستوري- بإعداد قانون تأسيسي لتشكيل الهيئة المختصة يحدد مسار عملها ومسار العدالة الانتقالية عموما.

إعلان

ويستند القانون التأسيسي إلى التشريعات الوطنية ذات الصلة ويتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، مما يعزز مصداقية الهيئة ويكسبها شرعية وطنية ودولية.

وأكد التقرير على أهمية استقلالية الهيئة الوطنية للعدالة الانتقالية استقلالا كاملا عن السلطة التنفيذية، مع ضرورة عملها في ظل نظام قضائي مستقل ومحايد، وأن تتولى مهام الكشف عن الحقيقة وتوثيق الانتهاكات وتعويض الضحايا، وأن تساهم مع السلطة القضائية في تشكيل محكمة خاصة لمحاسبة مرتكبي جرائم الحرب والجرائم الجسيمة.

وتكون المحكمة الدستورية ومجلس القضاء الأعلى على رأس النظام القضائي الذي يتولى بدوره إنشاء المحكمة الخاصة بقضايا العدالة الانتقالية وصياغة القانون الجنائي الذي يختص بمحاكمة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية.

وفي ضوء ذلك حدد التقرير 4 أركان أساسية لتحقيق العدالة الانتقالية في سوريا، وهي:

المحاسبة الجنائية. كشف الحقيقة والمصالحة. جبر الضرر والتعويض وتخليد الذكرى. إصلاح المؤسسات، تحديدا القضاء والأمن والجيش.

المحاسبة الجنائية

وعلى مدار 14 عاما تمكنت الشبكة السورية لحقوق الإنسان من جمع قائمة موسعة لمرتكبي الجرائم تضم أسماء نحو 16 ألفا و200 متورط، بينهم 6724 فردا من القوات الرسمية التي تشمل الجيش وأجهزة الأمن و9476 فردا من القوات الرديفة التي تضم مليشيات ومجموعات مساندة قاتلت إلى جانب القوات الرسمية.

ونظرا للتحديات الكبيرة التي تواجه جهود المساءلة والمحاسبة أكد التقرير على ضرورة التركيز على محاسبة القيادات العليا من الصفين الأول والثاني في الجيش وأجهزة الأمن التابعة للنظام السابق، والذين تورطوا مباشرة في ارتكاب الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان خلال الفترة الممتدة من مارس/آذار 2011 وحتى ديسمبر/كانون الأول 2024.

ومن المهم إنشاء إطار قانوني واضح ومحدد للمحاسبة الجنائية تضعه لجان قانونية مختصة تضم خبراء محليين ودوليين تشكلها هيئة العدالة الانتقالية.

إعلان

وتقوم هذه اللجان بمهمة مراجعة وإصلاح القوانين المحلية الحالية وصياغة قوانين وتشريعات جديدة تتوافق مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان، وتتكامل مع مبادئ وأحكام القانون الدولي.

وبحسب التقرير، ينبغي الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية أو قبول اختصاصها بشكل واضح في الإطار القانوني.

ولضمان فاعلية المحاسبة الجنائية أشار التقرير إلى أهمية الاعتماد على لجان تقصي الحقائق التي تؤدي دورا محوريا في جمع الأدلة الجنائية والوثائق اللازمة وتقديمها إلى المحاكم المختصة بقضايا العدالة الانتقالية، مع التركيز على استرداد الأدلة والوثائق المخزنة في المؤسسات الأمنية والعسكرية والمدنية.

وأوضح التقرير أن المحاكم المختلطة تمثل خيارا عمليا وفعالا في الحالة السورية، بالنظر إلى التحديات التي يعاني منها النظام القضائي الوطني، كضعف الموارد وإرث الفساد المترسخ من العهد السابق، فهي تضمن الحفاظ على سيادة الدولة والملكية الوطنية لعملية المحاسبة، مع التزام كامل بالمعايير الدولية لحقوق الإنسان.

وأكد أيضا على أهمية الاستفادة من الآليات الدولية المتاحة لمحاكمة مجرمي الحرب الذين فروا خارج البلاد، بما في ذلك استخدام مبدأ الولاية القضائية العالمية، وتفعيل الاتفاقيات الثنائية والإقليمية لتسليم المطلوبين إلى الجهات القضائية المختصة.

الحقيقة والمصالحة

أكد التقرير أهمية إنشاء لجان متخصصة لكشف الحقيقة تتولى مهام توثيق الانتهاكات وتحديد مرتكبيها ودعم جهود العدالة والمساءلة بهدف ترسيخ أسس المصالحة الوطنية.

ويتم ذلك عبر اعتماد منهج يركز على الضحايا عبر توثيق شهاداتهم ورواياتهم، مما يسهم في صياغة ذاكرة وطنية مشتركة بشأن الانتهاكات وجمع شهادات المتورطين بالانتهاكات بهدف فهم البنية التنظيمية لهذه الجرائم، وتحديد مصير المفقودين كخطوة جوهرية في عملية كشف الحقيقة، وإعادة الكرامة للضحايا والتخفيف من معاناة ذويهم.

إعلان

ووفقا للتقرير، تؤدي لجان الحقيقة دورا محوريا في تحقيق مستوى من العدالة المحلية دون الاعتماد الكامل على النظام القضائي الرسمي، ويتم ذلك عبر تشكيل مجالس عرفية ولجان مصالحة في مختلف المحافظات السورية.

وتضم هذه المجالس وجهاء المجتمع من شخصيات قيادية ووجهاء عشائريين ورجال دين مع الاستفادة من تجارب المجتمع السوري التي طورت على مدى السنوات الماضية، وآليات الصلح العشائري، والتي تشمل حلولا تقوم على الصفح أو التسامح بموجب اتفاقيات تراضٍ أو دفع الدية أو الاعترافات العلنية كبديل للعقوبات التقليدية.

جبر الضرر والتعويض

أكد التقرير على أهمية إعداد وتنفيذ برامج شاملة لجبر الضرر والتعويض تتضمن تقديم الدعم المادي والمعنوي للضحايا، وضمان إعادة إدماجهم بشكل فعال في المجتمع، وذلك من خلال لجان متخصصة تتولى مهام تحديد الفئات التي يشملها برنامج التعويض، وتحديد طبيعة الأضرار التي يمكن التعويض عنها، سواء كانت اقتصادية أو جسدية أو نفسية، وتصميم هيكل متكامل للتعويضات يشمل التعويضات الفردية والتعويضات الموجهة للمجتمعات المتضررة والتعويضات المقدمة على شكل خدمات، إضافة إلى جبر الضرر المعنوي.

ولا يقتصر التعويض المادي على المنح المالية المباشرة فقط، بل يمكن أن يشمل أيضا منح الضحايا خدمات تفضيلية في مجالات الصحة والتعليم وغيرها، وإعادة حقوق الملكية وتمويل مشاريع الإسكان وتأهيل البنية التحتية، ودعم التأهيل الاقتصادي الفردي والجماعي، إضافة إلى إنشاء برامج لتعويض خسائر الدخل.

وعلى صعيد الدعم المعنوي للضحايا، يمكن أن يشمل برامج إعادة التأهيل النفسي والاجتماعي والدعم القانوني.

ومن الممكن تقديم تعويضات رمزية كاعتراف علني بالتضحيات التي قدمها الضحايا، وتقديم الاعتذارات العلنية من قبل مرتكبي الجرائم.

ومن طرق تخليد ذكرى الضحايا إقامة النصب التذكارية، وتخصيص أيام وطنية لإحياء الذكرى، وإنشاء المتاحف والمراكز الأرشيفية التي توثق الانتهاكات، وإطلاق أسماء الضحايا على الأماكن العامة، وإدماج إرث الثورة والانتهاكات في مناهج التعليم الوطنية، إلى جانب الاعتراف الرسمي بالتضحيات التي قدمها الشعب السوري، وتقديم الاعتذارات العلنية من الأطراف المسؤولة.

إعلان إصلاح المؤسسات

أكد التقرير أن إصلاح مؤسسات الدولة كافة يعد ضرورة ملحة نظرا لما شهدته من فساد وتدهور خلال عهد النظام السابق، لكنه شدد على منح الأولوية في المرحلة الانتقالية للمؤسسات القضائية والأمنية والعسكرية، كونها الأكثر تورطا في الانتهاكات الجسيمة التي استهدفت الشعب السوري خلال سنوات النزاع.

ويمثل إصلاح القضاء أولوية أساسية في المرحلة الانتقالية بهدف تعزيز آليات المساءلة، والحد من الإفلات من العقاب، وترسيخ الاستقرار السياسي والاجتماعي، وفق خارطة طريق، أبرز محاورها إعادة هيكلة مجلس القضاء الأعلى والقوانين الناظمة لاستقلال القضاء، وإلغاء المحاكم الاستثنائية ودمجها في إطار القضاء العادي، وتعزيز الشفافية في آليات تعيين وترقية القضاة، وتحسين ظروفهم المعيشية، وإشراك المجتمع المدني والجهات الدولية في دعم عملية الإصلاح القضائي

وعلى صعيد القطاع الأمني، وضع التقرير إطارا متكاملا للإصلاح الأمني في سوريا يرتكز على محاور عدة، هي إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية وتحديد مهامها وصلاحياتها بشكل واضح، وإصلاح العقيدة الأمنية بما يضمن حماية المواطنين واحترام حقوق الإنسان، وتطوير نظام واضح للتجنيد والتوظيف ضمن الأجهزة الأمنية، وتعزيز مبادئ الشفافية وآليات المساءلة والرقابة الداخلية.

أما عملية إصلاح المؤسسة العسكرية السورية فقد أقر التقرير بأنها ستكون في مرحلة ما بعد سقوط الأسد وتفكك الجيش السابق عملية طويلة ومعقدة، لكنها تظل ضرورة حتمية لاستعادة الاستقرار وبناء دولة قوية ومتماسكة، واستعادة الثقة بين المواطنين والقوات المسلحة.

وتتطلب هذه العملية إجراءات أساسية تشمل نزع سلاح المجموعات المسلحة كافة، وتفكيك الهياكل العسكرية الموازية ودمج جميع الفصائل ضمن جيش وطني موحد، وإعادة هيكلة المؤسسة العسكرية على نحو يضمن عدم تكرار الانتهاكات السابقة.

إعلان

ووفقا للتقرير، يتطلب إصلاح المؤسسة العسكرية اعتماد خطة شاملة تتضمن عددا من المحاور، أهمها سن التشريعات الضرورية لعملية الدمج والمساءلة، وإنشاء هيكل تنظيمي جديد يعكس التنوع المجتمعي ويعزز الهوية الوطنية، وإنشاء هيئة مدنية مستقلة للإشراف والمحاسبة ومراقبة عملية الإصلاح وضمان الشفافية.

وخلص التقرير إلى أن الالتزام بمسار العدالة الانتقالية يعد ضرورة وطنية لضمان عدم تكرار مأساة الماضي، وتحقيق الاستقرار الدائم الذي يطمح إليه السوريون بعد عقود من الاستبداد والنزاع المدمر.

وشدد على أن نجاح هذه الرؤية يتطلب التزاما جماعيا من جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك الضحايا والناجون ومؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والمجتمع الدولي، كما أنه لا يمكن لأي ركن من أركان العدالة الانتقالية الأربعة أن يحقق الفعالية المنشودة بمعزل عن بقية الأركان.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات الشبکة السوریة لحقوق الإنسان العدالة الانتقالیة أکد التقریر فی سوریا

إقرأ أيضاً:

تحوّل بفعل الناس.. طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا

في كتابهما الذي سيصدر في يوليو/تموز 2025  للباحثين باتريك هيني وجيروم دريفون بعنوان "تحوّل بفعل الناس: طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا"، يرصد المؤلفان التحولات المتسارعة التي طرأت على الهيئة منذ عام 2019. يستند الكتاب إلى مقابلات مع قادة الهيئة، بمن فيهم الرئيس السوري أحمد الشرع (المعروف سابقا بأبو محمد الجولاني)، إضافة إلى شهادات من دبلوماسيين ومعارضين وشخصيات مستقلة.

ويستفيض الباحث باتريك هيني في شرح التحوّل الجذري الذي طرأ على هيئة تحرير الشام وزعيمها، وهي تحوّلات يرى أنها لم تكن لحظة مفاجئة أو انقلابًا أيديولوجيًا معلنًا، بل سلسلة من التعديلات التكتيكية والتكيّفات المحلية المتدرجة عبر السنوات.

في حلقة جديدة من برنامج (Centre Stage)، الذي تنتجه الجزيرة الإنجليزية، تحدّث الباحث والمؤلف المتخصص في الشأن السوري باتريك هيني عن التحولات العميقة التي طرأت على هيئة تحرير الشام. وفي بداية الحوار، أشار هيني إلى أن الهيئة ليست معنية أساسًا بالحكم أو الإدارة بقدر ما هي تنظيم ثوري بطبيعته، يسعى إلى إحداث تحولات كبرى على الأرض. وقال "هم ثوار، لا يمكنهم معاداة المجتمع، ويدركون أنهم في موقع ضعف، وبالتالي عليهم أن يتعاملوا مع الواقع بحذر ومرونة".

إعلان

وأضاف أن التحول الحاسم الذي غيّر مسار الحرب في سوريا جاء حين نجحت الفصائل المسلحة، وعلى رأسها هيئة تحرير الشام، في السيطرة السريعة على مناطق واسعة في البلاد، من إدلب إلى حماة وحمص، وصولًا إلى العاصمة دمشق، وأطاحت بنظام بشار الأسد، الذي حكم سوريا لأكثر من نصف قرن. هذا الإنجاز، بحسب هيني، لم يكن متوقعًا حتى من قادة الهيئة أنفسهم، بما فيهم الشرع.

وأوضح هيني أن أحد العوامل التي عجّلت بهذا التقدم هو "ضعف محور المقاومة"، في إشارة إلى تراجع نفوذ إيران وحزب الله نتيجة الضغوط الإقليمية، وانشغال روسيا بحربها في أوكرانيا. هذه الظروف أوجدت "نافذة فرص"، رأت فيها الهيئة إمكانية للعودة إلى العمل العسكري بعد فترة من الجمود عُرفت بـ"الصراع المتجمّد".

ورأى هيني أن زعيم هيئة تحرير الشام لم يكن مرتاحًا للدور المفروض عليه كـ"حاكمٍ لِجَيْب صغير" في إدلب، بل كان يسعى إلى أدوار ملحمية تتناسب مع طبيعته الثورية. وأضاف "هو لا يرى نفسه مسؤولًا إداريًا عن مخيمات ولاجئين وأشجار زيتون، بل قائد ميدان، رجل معارك وتحوّلات كبرى".

"زعيم هيئة تحرير الشام لم يرَ نفسه مسؤولًا إداريًا عن مخيمات ولاجئين وأشجار زيتون، بل قائد ميدان، رجل معارك وتحوّلات كبرى، التقيت به عدة مرات خلال السنوات الماضية، وهو شخصية تمتلك رؤية واضحة لما تريده. يُحسب له أنه نجح في قيادة حركته عبر تحولات أيديولوجية عميقة، وتمكن من الحفاظ على وجوده واستمراريته في صراع يمتد لأكثر من 14 عامًا"

وعن شخصيته، قال هيني "التقيت به عدة مرات خلال السنوات الماضية، وهو شخصية تمتلك رؤية واضحة لما تريده. يُحسب له أنه نجح في قيادة حركته عبر تحولات أيديولوجية عميقة، وتمكن من الحفاظ على وجوده واستمراريته في صراع يمتد لأكثر من 14 عامًا".

ووصفه بأنه إستراتيجي وبراغماتي في آن معًا، يمتلك القدرة على التكيّف واتخاذ قرارات مفصلية ضمن تعقيدات المشهد السوري. واعتبر أن ما نشهده اليوم من تغيّرات على الأرض هو نتيجة مباشرة لهذا التحول الذي قاده الجولاني داخل الهيئة.

في الأيام التي أعقبت سقوط النظام، يرى هيني أن الوضع بدا أفضل مما كان متوقعًا، لكنه يصف المشهد بأنه لا يزال هشًا ويعتمد على كيفية إدارة ما بعد الصراع، وهو ما سيتضح أكثر في قادم الأيام.

​هيئة تحرير الشام تحوّلت إلى كيان يسعى لإدارة مدنية معتدلة، مركّزة على الحوكمة والتواصل مع المجتمع الدولي (الجزيرة) من مقاتل إلى حامٍ للحريات

يطرح المحاور سؤالًا لافتًا: كيف يمكن لرجل كان قبل سنوات يقاتل ضمن قيادة "جبهة النصرة" ويتبنّى "خطابًا متطرفًا"، أن يتحول اليوم إلى زعيم يعلن التزامه بضمان الحريات الشخصية، ويطالب بعدم المساس بالمباني الحكومية أو بالأقليات؟

إعلان

يرد هيني بأن هذا هو "سؤال المليون دولار"، مؤكدًا أن ما حدث لا يمكن اختصاره بجملة واحدة أو تفسير سريع، لكنه محاولة لفهم مسار متراكم من التغيّرات، وليس مجرد تبديل علني في الخطاب أو الأيديولوجيا.

وأوضح أن هذه التحولات جاءت نتيجة ضغوط وتعقيدات عدة، بعضها محلي وبعضها الآخر إقليمي ودولي. فقد وجدت الهيئة نفسها مضطرة للتعامل مع واقع جديد، من أبرز ملامحه الوجود التركي العسكري في الشمال السوري، وتكوين بيئة مجتمعية يغلب عليها الإسلام الصوفي التقليدي، لا السلفي الجهادي، وهو ما تطلّب مقاربة جديدة في العلاقة مع السكان.

تراجع الأجنحة المتشددة

يصف هيني ما حدث داخل الهيئة بأنه "دائرة فاضلة" من التحول التدريجي: كل خطوة تكيف جديدة كانت تواجه مقاومة داخلية من التيارات الأكثر تشددًا، وكانت تلك المقاومة تُواجه من القيادة، مما أدى تدريجيًا إلى تقليص نفوذ هؤلاء المتشددين.

ومن أبرز الأمثلة على هذا التحول، قبول الهيئة عام 2017 بإقامة "حكومة الإنقاذ السورية" كجسم إداري بديل، وهو ما اعتُبر تحولًا في نهجها من العسكرة إلى نوع من الحوكمة، حتى وإن كانت تحت سيطرتها المباشرة.

كما اضطر قائد هيئة تحرير الشام إلى تبرير مواقف صعبة أمام جمهوره الداخلي، من قبيل القبول بهدنة فرضتها تركيا مع روسيا بعد 9 أشهر من المواجهات العنيفة، وبيع ذلك الخطاب الجيوسياسي في سياق شرعي جهادي داخلي، وهو ما شكّل تحديًا فكريًا وتنظيميًا كبيرًا.

يختم هيني هذا الجزء بالتأكيد على أن هذه التغيّرات التراكمية مكّنت الهيئة من تقليص المعارضين داخلها، وصولًا إلى مرحلة احتكار شبه كامل للمشهد العسكري والمدني في إدلب ومحيطها، وهو ما يُمهّد، برأيه، لفصل جديد من صراع طويل لم يقل كلمته الأخيرة بعد.

النموذج الإداري في إدلب

في حديثه عن التجربة الإدارية لهيئة تحرير الشام في إدلب، يوضح باتريك هيني أن التحديات التي واجهتها الهيئة بعد الانتقال من العمل العسكري إلى الحوكمة كانت كبيرة ومعقدة، من بينها إدارة الشأن الديني، وخاصة المساجد وخطب الجمعة.

في إدلب وحدها، كان هناك أكثر من 1200 مسجد، يديرها خطباء وأئمة من أبناء المجتمعات المحلية، غالبهم لا ينتمون إلى التيارات السلفية أو الجهادية، بل يمثلون ما يُعرف بـ"الإسلام الشعبي" التقليدي. أمام هذه المعادلة، اتخذت الهيئة قرارًا لافتًا بعدم إقصاء هؤلاء الخطباء، بل تركتهم في مواقعهم، مع منحهم حرية نسبية في اختيار موضوعات خطبهم، رغم تقديم الهيئة مقترحات ثلاثية كل خميس لخطبة الجمعة.

يقول هيني إن هذا القرار كان خطوة ذكية تعكس إدراك الهيئة لحقيقة وضعها؛ "هي ليست حركة جماهيرية واسعة كالإخوان المسلمين، بل قوة عسكرية انتقلت إلى الإدارة، وتدرك أنها لا تستطيع استفزاز المجتمع أو فرض قطيعة معه، لذا اختارت سياسة الاحتواء والتكيّف بدل المواجهة".

إعلان التعامل مع الأقليات

واحدة من أكثر النقاط حساسية في أي مشروع حوكميّ لفصيل عسكري إسلامي هي كيفية التعامل مع الأقليات الدينية، لا سيما المسيحيين. هنا يشير هيني إلى تجربة فريدة حصلت في إدلب، حيث بدأت الهيئة بمقاربات تصالحية أعادت بعض المسيحيين إلى مناطقهم، بعد أن كانوا قد غادروها تحت ضغط الحرب.

يؤكد هيني أن هذه التجربة الإيجابية انتقلت تدريجيًا إلى مدينة حلب، حيث لاحظ سكانها من المسيحيين أن أقرانهم في إدلب لم يواجهوا اضطهادًا طائفيًا أو ممارسات تمييزية. ويقول "المسيحيون بدؤوا يتناقلون فيما بينهم أخبار إدلب، من إدلب إلى حلب، وظهر أن ما جرى هناك لم يكن سيئًا، بل على العكس كان يحمل نموذجًا يمكن التفاهم معه".

هذه السياسة، بحسب هيني، أسهمت في إبقاء جزء من المسيحيين في حلب وعدم مغادرتهم البلاد، وأنتجت ما يشبه "الإرث الإيجابي" في إدارة التنوع الديني. هذا الإرث تكرّر لاحقًا في مناطق أخرى كحمص، والساحل، ودمشق، حيث تبنّت الهيئة -أو الجهات التي تأثرت بنموذجها- أسلوبًا إداريًا يقوم على تجنّب العنف الطائفي، والسماح بعودة الأقليات إلى بيوتها، ومعاملتها على قدم المساواة مع بقية مكونات المجتمع.

يختم هيني هذا الجزء بالإشارة إلى أن ما حدث في إدلب لم يكن مجرد استثناء عابر، بل "نموذج تم تعميمه"، حيث تحوّل إلى ما يشبه خارطة طريق (بلو برينت) في التعامل مع الأقليات والتنوع، تم استنساخه لاحقًا في مناطق أخرى خاضعة لسيطرة المعارضة أو على تماس مباشر مع هيئة تحرير الشام.

هذا النموذج، القائم على تقليص الخطاب الطائفي، واحتواء الرموز الدينية التقليدية، والتفاوض مع المكونات الاجتماعية المختلفة، يُمثّل -في رأي هيني- مزيجًا من البراغماتية والتعلم السياسي الميداني، وهو ما لم تستطع أي فصائل أخرى تحقيقه بالفعالية نفسها.

نظام الأسد جثم على صدر الشعب السوري لأكثر من 5 عقود (الفرنسية) بعد سقوط الأسد

عقب الإطاحة المفاجئة بنظام بشار الأسد، وجد أبو محمد الجولاني نفسه فجأة في واجهة المشهد السوري، لا كقائد ميداني فقط، بل كأمر واقع يُنظر إليه اليوم باعتباره أحد اللاعبين الأساسيين في إدارة المرحلة الانتقالية. هذا التحوّل، بحسب باتريك هيني، يضع المجتمع الدولي أمام سؤال صعب: هل يمكن الوثوق بالجولاني؟

إعلان

رغم أن هيئة تحرير الشام لا تزال مصنّفة منظمة إرهابية من قبل الولايات المتحدة والأمم المتحدة وعدد من الدول الغربية، فإن الواقع الجديد يفرض على هذه الجهات مراجعة موقفها. فالرجل الذي يُنظر إليه اليوم كأحد "صنّاع المرحلة" يتحدث عن التعايش، وحرية المرأة، والأمن في الشارع، وكلها مواقف تتعارض جذريًا مع خلفيته الجهادية.

يرى هيني أن "البراغماتية بدأت تفرض نفسها حتى في الغرب"، مشيرًا إلى نقاشات جارية في مستويات عالية حول إمكانية تعديل التصنيف، وقد صدرت بالفعل إشارات مرنة من بعض الدول. وأضاف "إذا كانت هناك حاجة للتعامل مع الجولاني، فربما يكون من الحكمة تقييمه وفقًا لمسيرته منذ لحظة التحول، وليس ماضيه فقط، لأن سجلّه في السنوات الأخيرة يُظهر أداءً أفضل بكثير".

"البراغماتية بدأت تفرض نفسها حتى في الغرب، ومن الحكمة تقييم (الشرع) وفقًا لمسيرته منذ لحظة التحول، وليس ماضيه فقط، لأن سجلّه في السنوات الأخيرة يُظهر أداءً أفضل بكثير"

دمشق بعد الثورة

يتوقف هيني عند التعقيد الذي تمثله دمشق، العاصمة التي تمثل كل رمزية النظام السابق، والتي تضم مزيجًا طائفيًا وعرقيًا معقّدًا. وهو يتساءل: هل يستطيع الزعيم، الذي أدار إدلب بنجاح نسبي، أن ينجح في إدارة دمشق؟ الأمر غير محسوم، خاصة مع وجود نخبة علوية ومسيحية وإدارية كبيرة داخل مؤسسات الدولة لا تزال باقية.

ويؤكد أن المعضلة الحقيقية في المرحلة المقبلة هي في كيفية إقامة توازن بين هيئة تحرير الشام وحلفائها، من جهة، وبين بقايا الدولة السورية والنخبة السياسية، والمعارضة في الخارج من جهة أخرى. هذه "المثلثات المتقابلة"، كما يسميها هيني، ستكون حاسمة في تحديد شكل النظام المقبل وهوية المشروع السياسي الجديد، الذي -ولأول مرة منذ أكثر من عقد- يتم صياغته من دمشق، لا من إدلب.

يلفت هيني النظر إلى التعقيد الإقليمي والدولي الذي يفاقم المشهد، حيث تتقاطع مصالح قوى كبرى مثل الولايات المتحدة، وتركيا، وإيران، وإسرائيل، إضافة إلى الفاعلين المحليين مثل الأكراد وقوات سوريا الديمقراطية، وتنظيم الدولة (داعش) الذي لا يزال حاضرًا بشكل مبعثر في البادية والجنوب الشرقي.

إعلان

وأكد أن الشمال الشرقي لسوريا، الغني بالنفط والمفتوح على الصراعات الدولية، سيكون مسرحًا مهمًا في مستقبل التوازنات. ويضيف "المشهد لا يقتصر على دمشق، فالنزاع في الشرق حول السيطرة على الموارد والسكان وطبيعة النفوذ الدولي سيبقى عنصرًا محوريًا في رسم مستقبل البلاد".

هذه اللحظة، رغم ما تحمله من قلق وتحديات، تمنح السوريين –للمرة الأولى منذ سنوات – إحساسًا بفرصة جديدة (الأناضول)  لحظة الغموض

أما عن اللحظة الحالية، فيصفها هيني بأنها واحدة من أكثر المراحل غموضًا في تاريخ سوريا الحديث. فالمعركة على دمشق قد تواجه قريبًا "أزمة تشبّع" بسبب تراكم الملفات والمسؤوليات. ويطرح تساؤلات فنية: هل لدى القيادة آليات تفويض؟ هل يمكنها بناء مؤسسات قابلة للاستمرار؟ ومتى ستنفتح على المجتمع الدولي؟ كلها أسئلة بدون إجابة واضحة.

حين سُئل عن مصدر الأمل في سوريا بعد كل هذا العنف والدمار، أجاب هيني بأن الأمل اليوم يُقاس بالسلب، أي بمجرد غياب النظام السابق. يروي عن صديقه الكردي الذي قال له "لأول مرة منذ 13 عامًا أشعر أنني حر، لا أعرف من الجولاني، ولا ما الذي سيأتي، لكنني أعرف شيئًا واحدًا: لم نعد تحت حكم الأسد، ونستطيع أن نتنفس".

وختم حديثه بالتأكيد على أن هذه اللحظة، رغم ما تحمله من قلق وتحديات، تمنح السوريين -للمرة الأولى منذ سنوات – إحساسًا بفرصة جديدة. لكن هذه الفرصة لا تعني شيئًا إن لم تقترن بتحمل المسؤولية، والانفتاح، وتأسيس نموذج مختلف عن الأنظمة الاستبدادية التي مزّقت العالم العربي منذ "الربيع العربي" وحتى اليوم.

مقالات مشابهة

  • تحوّل بفعل الناس.. طريق هيئة تحرير الشام إلى السلطة في سوريا
  • وزير الخارجية يشارك في اجتماع لجنة حقوق الإنسان بالشيوخ
  • أسرار المرحلة الانتقالية في سوريا: الشرع يكشف "الملفات الثلاثة الأخطر" وجنسية للمقاتلين الأجانب؟
  • التقرير الاقتصادي الفصلي لبنك عوده: تعدّد التحدّيات الاقتصاديّة التي تواجه العهد الجديد
  • حزب السادات: الرئيس السيسي يضع خريطة طريق لتجديد الخطاب الديني وبناء الإنسان
  • سياسيون: خطاب الرئيس السيسي يمثل خريطة طريق لبناء الإنسان وتجديد الخطاب الديني
  • السورية للتجارة تطرح عدداً من صالاتها بالمحافظات للاستثمار
  • الوطنية لحقوق الإنسان تناقش أخلاقيات الذكاء الاصطناعي
  • الوطنية للانتخابات تطلق تطبيق جديد يتناول كل ما يخص الهيئة
  • المستشار أحمد بنداري: الوطنية للانتخابات لها شخصية اعتبارية تقوم على العدالة والشفافية