عربي21:
2025-04-26@19:31:23 GMT

كم كنا بعيدين عن العصر

تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT

ظللت على مدى سنوات طوال أسأل نفسي:  لماذا نكيل السباب للغرب، وننسب إليه كل الرذائل؟ صحيح أن الغرب الاستعماري مسؤول عن كثير من المآسي التي حاقت بنا، ولكنني ـ شخصيا ـ أحس بأنني أدين للغرب بالكثير، فقد شاءت ظروفي أن أنتمي إلى جيل تمتّع بالدهشة التي مصدرها الغرب. جيلٌ شهد الطفرات والتحولات الكبرى في مجال المخترعات والاكتشافات، بينما جيل الشباب المعاصر يرى أن كل ما هو مبهر من حوله، على أنه "عادي"، أما نحن فقط انبهرنا بالكتشاب والمايونيز والراديو والتلفزيون، والتلفون والسندويتش، وعموم الوجبات التي تتسم بـ"السرعة".

ولهذا فعندما يسرد أبناء وبنات جيلي ذكريات الطفولة والصبا لعيالهم، يحسبهم العيال ديناصورات أفلتت من الانقراض.

وأقرّ وأعترف بأن هناك محطات في حياتي، كلما زرتها هتفت بـ"المصري": كنا فين وبقينا فين. ففي الوقت الذي كان فيه الغرب يتأهب لغزو الفضاء، جعلتني بعض مخترعاته مهيأ نفسيا وعقليا لأهوال يوم القيامة، بحسبان أنني شهدت جانبا منها، وكنت وقتها تلميذا في المدرسة الابتدائية، وكان الجو شتائيا عندما ظهر سيف أبيض طويل ومتجانس الشكل بعرض السماء، فانفجرت آلاف الحناجر بالعويل والصراخ: ويي بيووو وي بيوو. هذه هي الصرخة التي صدرت عن حناجر أهلي النوبية، التي تقابلها باللهجة المصرية: يا لهوي، يا خرابي، يا مصيبتي، يا نهار أسود ومنيِّل. وكان الأكثر إيمانا يستنجدون بلسان نوبي فصيح: وو نور كمبو كقر. (يا الله يا قوي يا عزيز)، ثم بدأ قرع الطبول، وبدأ كل بيت في إعداد البليلة، من اللوبياء والذرة الشامية، فهذه عادتنا عند كسوف الشمس وخسوف القمر، وبإزاء كل الظواهر الطبيعية التي لم نكن نعرف لها تفسيرا.

أعترف بأن هناك محطات في حياتي، كلما زرتها هتفت بـ"المصري": كنا فين وبقينا فين. ففي الوقت الذي كان فيه الغرب يتأهب لغزو الفضاء، جعلتني بعض مخترعاته مهيأ نفسيا وعقليا لأهوال يوم القيامة، بحسبان أنني شهدت جانبا منها، وكنت وقتها تلميذا في المدرسة الابتدائية، وكان الجو شتائيا عندما ظهر سيف أبيض طويل ومتجانس الشكل بعرض السماء، فانفجرت آلاف الحناجر بالعويل والصراخ: ويي بيووو وي بيوو. هذه هي الصرخة التي صدرت عن حناجر أهلي النوبية، التي تقابلها باللهجة المصرية: يا لهوي، يا خرابي، يا مصيبتي، يا نهار أسود ومنيِّل.ولكن غالبية الناس كانت في حالة انهيار كامل بعد أن أدركوا انهم لم يحسنوا الاستعداد ليوم القيامة، وها هي السماء تنشطر نصفين، وستهوي على الرؤوس بعد قليل. فاندفع الناس يطلبون الصفح والعفو من أمهاتهم وآبائهم وأقاربهم وجيرانهم. ومنهم من سدد دينا كان ينكره على مدى عشر سنوات أو أكثر. وهرع بعض الحكماء إلى جدي الشيخ حاج فرحان، وكان فقيها عالما وكاتبا وشاعرا ويقضي معظم ساعات يومه في التأمل والاطلاع، ووجدوه ثابت الجأش وهو يقرأ: "إذا السماء انشقت، وأذنت لربها وحقت، وإذا الأرض مدت، وألقت ما فيها وتخلت"، ولم يعجب ذلك بعض من كانوا يريدون من الشيخ أن يطمئنهم بأن الأمر لا يتعلق بقيام الساعة، وصاح أحدهم بما معناه: ما هذا يا شيخ؟ أتيناك طالبين الطمأنينة فتشق علينا السماء والأرض؟ ولكن حاج فرحان واصل تلاوة القرآن دون أن يبدو عليه هلع أو وجل.

وفجأة لاحظ أحدهم أن السيف الذي كان يشق السماء صار يخبو، بل واختفت أجزاء منه. منهم المتشائم الذي قال إن الجزء الذي اختفى من السيف أو الخيط الأبيض، لابد أن يكون سقط على الخرطوم لأن أهلها فاسدون، ويقال إن عندهم متاجر تبيع الخمر الملون المصنوع في بلاد الكفار، ومنهم من قال إن الجزء الذي اختفي من الخيط عبارة عن فجوة ستسقط منها النيازك والشهب فيهلك الجميع. ولكن الطمأنينة عادت إلى القلوب بعد ان اختفى السيف الابيض تماما دون أن تأتي نفخة الصور. وظل أمر ذلك الخيط المرعب لغزا لأهل بلدتنا، وبعدها بسنوات كنت في الخرطوم ورأيت نفس ذلك الخيط في السماء، وبدأت أهمهم بسورتي الزلزلة والانشقاق، فصاح من كان معي متسائلا عن سر طنطنتي، فأشرت إلى السماء بيد مرتجفة، فانفجر رفيقي السخيف ضاحكا، وشرح لي أن الخيط ينجم عن نفث الدخان من الطائرات ''النفاثة''، وقال لي كلاما طويلا عن تكثف البخار. وفي ذلك اليوم أحسست ولأول مرة بالانتماء إلى القرن العشرين، ولو "بالتجنس".

ثم عشت جانبا مما حسبته من أهوال القيامة، وأنا طالب في المرحلة المتوسطة في بلدة "البرقيق"، وهي أيضا في قلب المنطقة النوبية. وكنا في الحصة الثالثة عندما سمعنا دويا يصم الآذان، ولأن تلك الحصة تعقب وجبة الفطور مباشرة، فقد حسبت الدوي ناجما عن تعاطي الفول، لأن الفول يسبب النعاس والهذيان، ثم لمحنا عبر النوافذ طائرا عملاقا يروح ويجيء فوق مبنى المدرسة، فانفتحت حناجرنا بالعويل، واندفعنا خارجين من غرف الدراسة عبر الأبواب والشبابيك، نجري في كل الاتجاهات، والطائر الوحشي يحوم من فوقنا، وحاول المدرسون تطويقنا وتهدئتنا، ولكن لم يكن هناك مجال لـ ''قُم للمعلم وفِّه التبجيلا''، فقد كانت مسألة حياة أو موت، ولا مجال للانضباط واحترام المعلم في يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون.

وفجأة سكت هدير ذلك الطائر الخرافي، فتحركنا ببطء لتحديد الوجهة التي طار إليها. وعندها نجح المدرسون في تهدئتنا، وطلبوا منا الانتظام في طابور طويل، وساروا بنا إلى الفسحة الشمالية المتاخمة للمدرسة، وكان الطائر جاثما هناك بلا حراك، ولاحظنا أن بعض الأشخاص يقفون قريبا من الطائر دون أن يمسهم سوء، فاستجمعنا شجاعتنا واقتربنا منه قليلا. وسمعنا مدير المدرسة يقول كلاما عن الهليكوبتر، وعن فريق من المساحين جاءوا ليحددوا موقع المستشفى المقترح، وأنهم حلقوا مرارا فوق المدرسة بحثا عن موقع مناسب تهبط فيه الهليكوبتر. انقلب خوفنا سرورا، بل وتجرأ بعضنا على لمس "الهلاك ـ وبتر" بأيديهم. وفي نوبة سخاء قال قائد الهليكوبتر إنه مستعد لحمل تلميذين والطيران بهما لبضع دقائق فوق المنطقة، فاندفعنا جميعا فارين صوب المدرسة.

ظلت سنة الهليكوبتر جزءا من التقويم في منطقتنا، مثل مجاعة "سنة ستة" (1306ه ـ 1988م) و''توسين قم'' أي سنة الفيضان، والمقصود بها عام 1946 الذي شهد فيضانا مدمرا.

وهأنذا أكتب هذه السطور على أداة من صنع الغرب، وسأضغط على زر صغير، فتصل إلى لندن في  غضون ثوان،  "سبحان الذي سخّر لنا هذا وما كنا له مقرنين".

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه الغرب السودان علاقات الغرب ذاكرة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

كاتب هندي: إبادة غزة حولتنا لشهود قسريين على بشاعة السياسة

تناول الكاتب إيتاي ملاخ في مقال نشره موقع "همكوم" الإسرائيلي كتابا جديدا للمفكر والروائي الهندي بانكاج ميشرا بعنوان "العالم بعد غزة: تاريخ"، يرى فيه أن تجاهل الغرب لمعاناة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية يتكرر اليوم من خلال موقفه من إبادة الفلسطينيين في غزة.

واعتبر ملاخ أن الكتاب يتضمن أيديولوجية منظمة في معظم فصوله، لكنه يميل في الغالب إلى السطحية والتبسيط ولا يمكن أن يكون كتاب تاريخ بما في الكلمة من معنى.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تايمز: جاسوس روسي خطط لتفجير طرد مفخخ بطائرة متجهة لأميركاlist 2 of 2غدعون ليفي: بسبب غزة هذا ما يخطر ببالي الآن عندما تدوي صفارة الإنذارend of list غيتو وارسو

ويذكر الكاتب أن ميشرا يفتتح كتابه بالإشارة إلى تمرد غيتو وارسو في أبريل/نيسان 1943، والذي عرف منظّموه أنه محكوم عليه بالفشل منذ بدايته لكنهم لم يتراجعوا.

وقد لخص مارك إدلمان، أحد الناجين من المذبحة التي حصلت بعد ذلك التمرد، الوضع قائلا: "لم نرغب بأن يذبحنا النازيون بصمت، أردنا فقط اختيار طريقة موتنا بأنفسنا".

أما الشاعر البولندي تشيسواف ميلوش، الذي سمع من شرفة منزله في ضواحي وارسو صرخات المذبحة، فقد وصف تلك الليلة الربيعية قائلا: "كانت صرخات بشر يُذبحون.. شعرنا بالخزي، فلم نستطع النظر في أعين بعضنا البعض".

غزة هي غرنيكا عصرنا

ويؤكد ميشرا في كتابه أن "إبادة غزة على يد إسرائيل" حولت الملايين إلى "شهود قسريين على شرور السياسة"، ويُقارن المشاهد التي يشاهدها العالم في غزة، مثل صورة الأب الذي يحمل جثة طفله مقطوعة الرأس، بأثر لوحة "غرنيكا" الشهيرة للرسام الإسباني بيكاسو.

إعلان

ويشير ميشرا إلى أن الغرب، بدلا من أن يرى في الهولوكوست حافزا لمكافحة الشر بجميع أشكاله، حوله إلى التزام أخلاقي بمحاباة اليهود ومحاربة معاداة السامية، متجاهلا كل المآسي الأخرى في العالم.

ويضيف ميشرا أن الاعتقاد بأن الغرب بعد 1945 أصبح ملتزما بحقوق الإنسان ليس إلا وهما، فحتى أثناء الهولوكوست لم يحرك الغرب ساكنا، وكثيرا ما رفض استقبال الناجين، وسرعان ما تصالح مع ألمانيا ونسي إرثها النازي، لأنها وقفت إلى جانبه في مواجهة الاتحاد السوفياتي.

زيف التفوق الغربي

يتابع ملاخ تحليل الكتاب، موضحا أن ميشرا يعتقد أن الفهم الغربي للهولوكوست سطحي، إذ يتم استخدام شعار "لن يتكرر مجددا" كذريعة تدعم التفوق الأخلاقي الغربي المزعوم، دون أن يُترجم ذلك إلى أفعال حقيقية عندما تحدث مآسٍ مشابهة.

ويعتقد الكاتب الهندي أن الغرب لا يرى في المجازر الحالية في غزة تهديدا حقيقيا لضميره، بل يميل إلى تبريرها بحجج سياسية، مضيفا أن غزة تقوّض الفرضية المشتركة بين التقاليد الدينية والعقلانية التنويرية بأن "الإنسان أخلاقي بطبعه".

فالتجاهل الغربي لما يحدث في غزة يفضح -حسب تعبيره- خواء هذه الفرضية، ويكشف زيف نظام دولي يدّعي الارتكاز على مبادئ إنسانية.

ميشرا: المجازر الإسرائيلية الآن قريبة من أهوال الهولوكوست، من خلال تجريد سكان غزة من إنسانيتهم، وتصويرهم كمصدر للشر المطلق، والتصريحات الإسرائيلية التي تكشف نوايا الإبادة، واستهداف المدنيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من القتلى، والتصاعد غير المسبوق في وتيرة القتل، ومنع الغذاء والدواء، والدمار الواسع الذي "يتجاوز نسبيا ما ألحقته قوات الحلفاء بألمانيا في الحرب العالمية الثانية من أضرار".

دلائل الفظاعة القصوى

يعدّد ميشرا ما يعتبره دلائل على اقتراب المجازر الإسرائيلية من أهوال الهولوكوست، من خلال تجريد سكان غزة من إنسانيتهم، وتصويرهم كمصدر للشر المطلق، والتصريحات الإسرائيلية التي تكشف نوايا الإبادة، واستهداف المدنيين الذين يشكلون الغالبية الساحقة من القتلى، والتصاعد غير المسبوق في وتيرة القتل، ومنع الغذاء والدواء، والدمار الواسع الذي "يتجاوز نسبيا ما ألحقته قوات الحلفاء بألمانيا في الحرب العالمية الثانية من أضرار".

ويرى ميشرا أن مجازر 7 أكتوبر/تشرين الأول أرعبت كثيرا من الإسرائيليين، وجعلتهم يخافون من تكرار الهولوكوست، لكن القيادة الإسرائيلية التي يصفها بـ"الأكثر تطرفا في التاريخ"، استغلت تلك المشاعر في حملة عسكرية تجاوزت بكثير حدود الدفاع عن النفس، والهدف -حسب تعبير المؤرخ عمر برتوف- هو "جعل غزة غير صالحة للحياة وإضعاف سكانها، حتى يموتوا أو يفرّوا".

الهدف هو جعل غزة غير صالحة للحياة وإضعاف سكانها حتى يموتوا أو يفرّوا

تبرير المذابح

ويتابع ملاخ بأن كتاب "ما بعد غزة" يربط بين الهولوكوست وما يجري في غزة حاليا من خلال السلبية الغربية في الحالتين، حيث يميل الغرب اليوم إلى تبرير الجرائم الإسرائيلية من خلال إلقاء اللوم الكامل على الفلسطينيين بسبب أحداث 7 أكتوبر/تشرين الأول، ويتجاهل مسؤولية إسرائيل عن حجم العنف والدمار.

إعلان

وأورد الكاتب في هذا السياق ما ذكره الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، عندما سُئل عن غزة في إحدى المناسبات، عندما ركّز على "فظائع" نُسبت لحماس -بعضها دون دلائل قاطعة- متجاهلا ما يحدث للفلسطينيين. كما قال رئيس الوزراء البريطاني كير ستارمر في أحد تصريحاته إن "من حق إسرائيل قطع الكهرباء والماء عن الفلسطينيين".

ويرى ميشرا أن وسائل الإعلام والمثقفين، والمؤسسات التعليمية وحتى رجال المال والأعمال في الغرب، جميعهم مسؤولون بدرجات متفاوتة عن التطبيع من العنف الإسرائيلي، وتبرئة إسرائيل وإسكات منتقديها.

وهم حقوق الإنسان

في خاتمة الكتاب، يطرح ميشرا السؤال التالي: لماذا يُقصي الغرب الفلسطينيين من قائمة الإنسانية والعدالة، في حين أنه يحتضن الأوكرانيين الفارين من الحرب التي تشنها روسيا؟

ويرى الكاتب الهندي أن الغرب كان بإمكانه كبح جماح إسرائيل دون أن يهمل محاسبة مرتكبي جرائم 7 أكتوبر/تشرين الأول، لكنه لم يفعل، تماما كما لم يفعل شيئا خلال الهولوكوست، مستنتجا في الأخير أن النظام الليبرالي العالمي القائم على حقوق الإنسان لم يكن إلا وهما.

مقالات مشابهة

  • بإسقاطه 22 طائرة.. اليمن يربك العدو الأمريكي ويفخخ السماء أمام طائراته
  • موسكو: اجتماع ويتكوف وبوتين استمر 3 ساعات وكان بنّاءً ومفيدًا
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • داعيا إلى الاصطفاف خلف القائد.. «مصطفى بكري» يكشف أبعاد المؤامرة على مصر
  • النرويج تنتقد صمت الغرب إزاء جرائم الاحتلال بغزة
  • إندبندنت: النظام الدولي يتفكك والتطبيع مع صور الإبادة تهديد للجميع
  • من الأرض إلى السماء.. هل بدأ عصر السيارات الطائرة؟
  • ظاهرة فلكية نادرة تضيء سماء الإمارات الجمعة.. لا تفوت المشهد الساحر
  • كاتب هندي: إبادة غزة حولتنا لشهود قسريين على بشاعة السياسة
  • نحو عالم ما بعد الغرب: الترامبية وإعادة توزيع مناطق النفوذ في العالم