يشتمل كتاب "الجنون في مسرح القسوة ثورة على دكتاتورية العقل وتمرد على الأنساق الثقافية" للأديب نوزاد جعدان، على 3 فصول "العقل والعقلانية بين الثقافتين الغربية والعربية"، و"الجنون وإثبات الهوية المفقودة"، و"حضور الجنون في مسرح القسوة".

يهدي الكاتب دراسته، إلى أنطونان أرتو الذي يلهمنا إلى الآن، وإلى كل مجنون مختلف يخرج كاللوتس من المستنقعات، ويزهر على الرغم من كل ذلك.

تبلورت مشكلة الدراسة في التساؤل الرئيسي التالي: الربط دائماً بين الجنون بصفته المرضية والإبداع، ومدى تأثير اللاعقل ونجاحه في مسرح القسوة، وإلى أي مدى ساهم اللاعقل في إيجاد مسرح متفرد ومختلف؟

وتهدف الدراسة للتعرف على مدى ارتباط الإبداع بالسلوك الشخصي عبر تجربة أنطونان أرتو المسرحية، وآلية تأثير الفطرة والموهبة على الإبداع وتفوقها على الأسس والمفاهيم الثابتة، والتوضيح أن اللاعقل وحده لا يمكن أن ينتج عملا فنياً ذا قيمة إبداعية.

ويحدد جعدان فرضيات الدراسة، في أن الأعمال الفنية تنتج من خلال توظيف قدرات العقل ولكن بمنحى مختلف، وأن الفن هو انعكاس للواقع المعاش وحال المجتمع ووضع الفنان هو ما ينقل واقع المجتمع.

مغايرة في التفكير

وفي ختام هذه الدراسة الصادرة عن دار ماشكي للطباعة والنشر والتوزيع في العراق، يوصي الكاتب بمجموعة من الأمور المهمة، منها إعادة النظر في مفهوم الجنون بالمعنى المتداول، واعتباره ظاهرة اجتماعية نفسية نسبية، وليس ظاهرة مرضية تستوجب إقصاء المجانين من الحياة العامة وتهميشهم، كما يدعو إلى توظيف نظريات أرتو في السينما العربية والاستفادة منها، ولا سيما أنه يعتمد على لغة الصورة وليس على الكلمة، فالسينما كتابة بالصور وليس بالكلمات، ويوضح أن المغايرة في التفكير ليست وسيلة لإسقاط صفة الجنون على المبدع، وأن بعض علماء النفس الأوائل ربطوا بين بعض الظواهر الفنية والمرض النفسي، لأنهم خلطوا بينه وبين مفهوم الاستجابة للضغوط النفسية والاجتماعية.

ويذكر أن الفنان المبدع يتسم بشخصية مختلفة عن العوام، تتمتع بحساسية عالية تجاه الأحداث من حوله، ما يجعله يتفاعل معها في علاقة تبادلية، ومن العبث أن نطلب منه أن يكون شأنه شأن باقي الناس، لأننا نقتل إبداعه بذلك وروح الخلق فيه، وحري بنا تشجيعه بدلاً من نعته بالمجنون، واحترام اختلافه مهما كان متطرفاً، فالحياة متطرفة بكل أشكالها.

انتصار للمجانين

ويشير جعدان إلى أن مسرح أرتو فيه انتصار لكل مجانين العالم على حساب دكتاتورية العقل والمسارح المتماهية مع المنطلق العقلاني الصرف، موضحاً أن البحث في الطقوس الأولى لإنسانيتنا يفضي بنا إلى مراسي الفن الأصلية المختبئة داخلنا، وداعياً إلى الاستفادة من تجارب مسارح غير مستكشفة في الوطن العربي، وبخاصة مسارح إفريقيا وشرق آسيا، لما تحتويه من جماليات، وشعريات مسرحية غير معروفة لدينا.

يذكر أن نوزاد جعدان من مواليد حلب ويقيم في الإمارات، حاصل على ليسانس إعلام في جامعة دمشق، وماجستير في الأدب المسرحي في الأكاديمية العربية في الدنمارك، وهو طالب دكتوراه في الأدب المسرحي في الأكاديمية نفسها، ويعمل في دائرة الأشغال العامة بالشارقة منذ عام 2012.

صدر له 5 مجموعات شعرية هي، حائطيات طالب المقعد الأخير، وأغاني بائع المظلات، وسعيد جداً، وسكاكين أليفة، وأمشي على يدي، وله أيضاً مجموعة قصصية "خزانة ترابية"، وله أيضاً عدة إصدارات في المسرح منها، وطن شبه منحرف، وبطولة مطلقة، وعسس في ليل لا ينعس، وقريباً سيصدر له "أغاني نسيم" أناشيد للأطفال.

ولجعدان إصدارات في مجال السينما منها، رواد السينما الهندية في جزأين، كما يعمل على ترجمة الأدب، وله مختارات من الشعر العالمي، ومختارات شعرية من الهند وباكستان، وأنامل النسيم، كما ترجم رواية ديفداس، وهو مؤسس حركة شعراء وفنانين من أجل عالم مختلف، التي ضمت كوكبة من الشعراء والفنانين من مختلف أنحاء العالم، وقد فاز بالعديد من الجوائز العربية والدولية، منها جائزة الشارقة للإبداع العربي في مجال المسرح المركز الأول عام 2016.

المصدر: موقع 24

كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني

إقرأ أيضاً:

الرد على الوليد آدم مادبو- بين أزمة الخطاب وامتحان العقل

في لحظات المفصل التاريخي، حين تتبدل المصائر ويُعاد تشكيل الوعي الجماعي، يكون للعقلاء والتاريخ كلمتهم، وهي كلمة قد تأتي متأخرة، لكنها تحمل قسوتها التي لا ترحم. غير أن هذه الكلمة ليست بالضرورة صرخةً في الميادين أو خطبةً على منابر الجدل، فقد تكون صمتًا مدويًا في وجه الخطاب الشعبوي، أو تأملًا باردًا في مسرح العواطف الملتهبة. والعقل، في صورته الأصيلة، ليس نزاعًا بين الذوات، بل سيرورةٌ لفهمٍ أعمق، حيث لا يكون العقل مجرد سلطةٍ إجرائية تحكم المواقف، بل معيارًا يزن المقولات في ميزان الحقيقة.

كتب الدكتور الوليد مادبو مقاله الأخير في نقد الأستاذ شوقي بدري، مستخدمًا لغةً مشحونةً بالتقريع، تتداخل فيها الذاتية مع الموضوعية، والنقد مع الاستعداء. غير أن الأزمة هنا ليست في حدّة اللغة فحسب، بل في الطبيعة الاستدلالية التي أسس عليها مقاله، والتي تستدعي وقفةً نقدية تتجاوز الشخصي إلى الكلي، من حيث طبيعة التفكير ومنهجية التحليل.

المغالطة المنهجية الخطاب بين الشخصي والتاريخي
ليس من الحكمة أن يُقرأ الواقع بمسطرة الذات، فتُختزل التناقضات المركّبة في ازدواجية "المهرّج والعالم"، أو "المؤدلج والمستقل". فالفكر في جوهره ليس مجرد تراكم أسماء أو انتماء أكاديمي، بل هو ميدانٌ مفتوحٌ للجدل الحر والتفاعل المعرفي. حين يجعل الكاتب من ذاته معيارًا للفرز بين "المتطفلين" و"الجادين"، فإنه يقع في مأزق فلسفي عميق: كيف يمكن للعقل أن يكون حكمًا وهو طرفٌ في الخصومة؟

يتخذ مادبو في طرحه موقفًا يتأرجح بين المدافع عن القيم والمحلل البارد، لكنه في جوهر خطابه يستخدم لغةً معياريةً أخلاقية تحاكم الآخر من منطلق ذاتي. وهنا يظهر التناقض: كيف يمكن استدعاء معايير الفكر النقدي، بينما يُمارس الإقصاء والتهكم في ذات اللحظة؟ إن النقد الفلسفي، كما صاغه فلاسفة مثل هابرماس أو ألتوسير، ليس خطابًا يعتمد على الشخصنة، بل هو تفكيكٌ لبنى التفكير وإعادة بناء المفاهيم وفق منطقٍ متماسك، لا وفق انفعالات اللحظة.

إشكالية السلطة المعرفية والاستعراض الخطابي
حين يلجأ الكاتب إلى تعداد الشخصيات التي تتلمذ على أيديها – من طه عبد الرحمن إلى الجابري – فإنه يسعى إلى تأسيس سلطةٍ معرفية قائمة على الانتماء أكثر من البرهان. لكن العلم، كما أشار إليه غاستون باشلار، لا يُكتسب بالانتساب إلى الأسماء، بل بالقدرة على مساءلة الأفكار دون تحصينها بهالةٍ من القداسة. فالسؤال الفلسفي الحقيقي ليس "مع من درست؟"، بل "كيف تفكر؟"، وهذا ما لم يقدمه المقال.

إن استدعاء المرجعيات الفكرية لا يصنع معرفة، بل قد يكون مجرد تمرينٍ خطابي لإضفاء الشرعية على موقفٍ مسبق. ولذلك، فإن الوعي الفلسفي يقتضي تفكيك المسلّمات بدلًا من إعادة إنتاجها في قوالبَ جديدةٍ لا تخرج عن النسق نفسه.

قراءة التاريخ: بين السردية الخطية والتعقيد البنيوي
يتحدث مادبو عن التهميش كمسارٍ امتد لقرنين من الزمان، مصورًا التاريخ بوصفه خطًّا مستقيمًا من القهر والاستعلاء العرقي. غير أن قراءة التاريخ من هذا المنظور تعكس اختزالًا شديدًا لجدلية السلطة والمجتمع، حيث تُختصر الصراعات السياسية والاقتصادية في ثنائية "مضطهِد ومضطهَد".

إن تحليل التاريخ لا يمكن أن يكون فعلًا انتقائيًا يستدعي فقط ما يخدم موقفًا آنيًا، بل هو عملٌ بنيوي يُعيد تشكيل الوعي وفق تعقيد العلاقات الاجتماعية والسياسية. وكما أشار ميشيل فوكو، فإن السلطة لا تعمل ككيانٍ أحادي، بل تتجلى في أنماطٍ متغيرةٍ من الهيمنة والتفاوض والمقاومة، مما يجعل من أي تفسيرٍ أحادي للتاريخ نوعًا من التبسيط الأيديولوجي الذي يفقده قيمته التحليلية.

ازدواجية الخطاب ومشكلة المعيارية الانتقائية
إن وصف الجيش السوداني بأنه "غير قومي وغير مهني" مع الدعوة لمقاومته، في الوقت الذي يُنتقد فيه الدعم السريع باعتباره فاقدًا للمشروعية، يكشف عن مشكلةٍ معيارية في الخطاب. فإذا كان الجيش يعاني من أزمةٍ بنيوية، فإن الدعم السريع لا يخرج عن كونه تجلّيًا أكثر فجاجةً لنفس الإشكاليات، مما يجعل من غير المنطقي انتقاد أحدهما باعتباره "إرثًا يجب مقاومته"، بينما يُعامل الآخر بوصفه "خطأً تكتيكيًا يجب تصحيحه".

هنا تبرز إشكاليةٌ فلسفية تتعلق بازدواجية المعايير في الخطاب السياسي: كيف يمكن رفض منظومةٍ كاملة، ثم التعامل مع أحد منتجاتها على أنه "حالة استثنائية" تستحق المراجعة بدلًا من الإدانة المطلقة؟ إن النقد المتماسك لا يكون بالانتقاء، بل بالقدرة على الاحتفاظ بثبات المعايير بغض النظر عن الظرف السياسي.

في البدء كان العقل حاجة السودان إلى خطابٍ متزن
إن الأزمة السودانية اليوم ليست أزمة أشخاص، بل أزمة وعي، حيث يُستبدل النقد العقلاني بالهجوم الشخصي، ويُستبدل التحليل العميق بالسرديات التبسيطية. فحين يتنادى البعض بالألقاب، متناسين جوهر القيم التي يدّعون الدفاع عنها، يكون التاريخ في موقف الحكم، حتى وإن تأخر في النطق بكلمته.

لكن السؤال الذي يظل معلقًا في الهواء- هل ننتظر أن يحكم التاريخ أم نحاول أن نحكم عقولنا قبل أن تصدر الأحكام؟ إن وعي اللحظة يقتضي الخروج من دائرة الشخصنة إلى فضاء النقد الفلسفي، حيث تُختبر الأفكار لا الأشخاص، وتُناقش الخطابات لا الذوات. فالتاريخ قد يكون قاسيًا، لكن العقل أحيانًا يكون أشد قسوة، حين يُطالبنا بأن نكون على مستوى ما ندّعيه من قيمٍ ومبادئ

zuhair.osman@aol.com  

مقالات مشابهة

  • مدير تعليم الفيوم: القائد الناجح له بصمة مميزة في المجتمع.. صور
  • حسام موافي: هناك ارتباط بين الإغماء وكهرباء القلب
  • ارتباط السماء بالأرض في رمضان
  • مصطفى عيسى لـ«البوابة نيوز »: رمضان شهر الإبداع وأنظم وقتي بين القراءة والرسم والكتابة
  • نصيحة ذهبية للشباب المقبل على الارتباط: متضيعش شقى عمر الناس
  • العقل الطفولي والعقل الراشد
  • "الهاكا" ترفض 49 شكاية تتعلق بحرية الإبداع وتدوينات ومقالات في صحف إلكترونية
  • مجلس شباب «تمكين المجتمع» يضيء على القيم الاجتماعية
  • قمر الدم المخيف يضيء السماء قريبًا.. كيف تشاهده؟
  • الرد على الوليد آدم مادبو- بين أزمة الخطاب وامتحان العقل