مدخل:
في يونيو من العام 2021، ومن خلال سلسلة مكوّنة من نحو ثماني حلقات تحقيقية اسْتِقصائية بعنوان:
الجَيشُ والسِّياسةُ.. كَيفَ دَخَلَ العَسكَر في صِرَاعَ السُّلطة في السٌودان؟
حاولت تسليط الضوء على واحدة من أعقد القضايا في تاريخ الدولة السودانية المعاصرة:
كيف أصبح الجيش طرفًا أصيلًا في صراع السلطة؟ ومن المسؤول عن إدخاله في هذا المسار؟
وقد شكلت تلك السلسلة نواة مشروع أوسع، شرعتُ من خلاله في إعداد كتاب يحمل ذات العنوان،
وهو عمل بحثي توثيقي وتحليلي، ما يزال قيد الإعداد، وقد يرى النور قريبًا.


سأحاول عبر هذه السلسلة من المقالات أن أقدّم مقتطفات منتقاة من الكتاب،
تستعرض مراحل العلاقة بين الجيش والسياسة، وتُحلل ديناميكيات السلطة،
وتطرح الأسئلة الجوهرية التي ظلّت معلقة لعقود دون إجابة واضحة.

(2)
منذ استقلال السودان عام 1956، ظل الجيش السوداني لاعبًا رئيسيًا في المشهد السياسي، ليس فقط كحامٍ للسيادة الوطنية، بل كمنافس مباشر على السلطة.
لكن السؤال الجوهري الذي يفرض نفسه هو: من الذي أدخل العسكر في صراع السلطة؟ وهل كانت المؤسسة العسكرية تسعى للسلطة من تلقاء نفسها، أم أن هناك من مهد لها الطريق؟
(3)
ضعف النخب السياسية بعد الاستقلال
عقب الاستقلال، وُجد السودان في حالة من الارتباك السياسي والمؤسسي. الحكومات المدنية المنتخبة فشلت في إدارة التنوع العرقي والديني والجغرافي، ووقعت في فخ الصراعات الحزبية والطائفية.
الأحزاب السياسية – وعلى رأسها حزب الأمة والحزب الاتحادي الديمقراطي – انشغلت بصراعات الزعامة والمصالح، دون أن تضع مشروعًا وطنيًا متماسكًا. هذا الفشل أدى إلى فقدان الثقة في المدنيين، وخلق فراغًا سياسيًا كبيرًا.

انقلاب 1958: بداية عسكرة السلطة
في نوفمبر 1958، استغل الفريق إبراهيم عبود ذلك الفراغ، ونفذ أول انقلاب عسكري في السودان، مستندًا إلى حالة التذمر من فوضى السياسة المدنية. هذا الانقلاب لم يأتِ نتيجة طموح عسكري منفرد فقط، بل بموافقة ضمنية من بعض الساسة الذين رأوا فيه “حلاً مؤقتًا”.

(4)
تأثير المناخ الإقليمي
في الخمسينات والستينات، كانت المنطقة العربية تشهد موجة من الانقلابات العسكرية، بقيادة شخصيات مثل جمال عبد الناصر في مصر، وعبد الكريم قاسم في العراق، وحافظ الأسد في سوريا لاحقًا.
هذه النماذج ألهمت الكثير من ضباط الجيش السوداني، الذين بدأوا يرون في أنفسهم رواد تغيير، وليس مجرد منفذين لتعليمات الدولة المدنية.

الأحزاب السياسية واللعب بورقة الجيش
المفارقة أن الأحزاب السودانية نفسها كانت أحد الأسباب في عسكرة الدولة.

في انقلاب 1969، تحالفت قوى اليسار (خصوصًا الحزب الشيوعي) مع الضباط القوميين العرب لإسقاط الحكومة المدنية.

في انقلاب 1989، خططت الجبهة الإسلامية القومية لانقلاب عسكري عبر تحالفها مع العميد عمر البشير، ووصلت إلى الحكم عبر البوابة العسكرية.

(5)
انقلاب 25 أكتوبر 2021 في السودان يُعدّ محطة مفصلية في التاريخ السياسي السوداني الحديث.
في هذا اليوم، قام قائد الجيش السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان بحلّ مجلسي السيادة والوزراء، واعتقل عدداً من القيادات المدنية، وعلى رأسهم رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، معلناً توليه السلطة منفرداً.
خلفية الانقلاب:
جاء الانقلاب بعد فترة من التوتر بين المكونين المدني والعسكري في الحكومة الانتقالية، التي شُكلت عقب سقوط نظام عمر البشير في أبريل 2019، بموجب اتفاق “الوثيقة الدستورية”. وكان يُفترض أن تقود هذه الشراكة البلاد نحو انتخابات ديمقراطية.
مٌبررات البرهان:
برّر البرهان الانقلاب بأنه خطوة لتصحيح مسار الثورة، وإنقاذ البلاد من “الاقتتال” و”الانقسامات السياسية”. لكن قوى الثورة اعتبرت ما جرى انقلاباً عسكرياً أعاد البلاد إلى مربع الحكم الشمولي.

تداعيات الانقلاب:
احتجاجات جماهيرية: خرجت مظاهرات حاشدة في الخرطوم ومدن أخرى، رافضة للانقلاب، وواجهتها قوات الأمن بعنف مفرط، ما أدى إلى سقوط عشرات القتلى ومئات الجرحى.

عزلة دولية: أدانت الأمم المتحدة، الاتحاد الإفريقي، والولايات المتحدة الانقلاب، وتم تعليق المساعدات الاقتصادية الدولية للسودان.
عودة حمدوك مؤقتاً: في نوفمبر 2021، عاد عبد الله حمدوك لمنصبه بموجب اتفاق سياسي مع البرهان، لكنه استقال لاحقاً في يناير 2022، معلناً فشل جهوده في التوافق بين المكونين المدني والعسكري.

الأثر السياسي:
أعاد الانقلاب السلطة بشكل فعلي للعسكر، مما أعاق العملية الانتقالية، وأدخل البلاد في أزمة سياسية ممتدة، وانعكس ذلك في زيادة عدم الاستقرار، والانهيار الاقتصادي، وتصاعد التوترات الأمنية، وصولاً إلى الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 بين الجيش وقوات الدعم السريع.
مع مرور الزمن، لم يعد الجيش أداة تُستخدم من قبل المدنيين، بل أصبح هو من يُدير اللعبة السياسية. توسعت سلطته، وامتد نفوذه إلى الاقتصاد عبر مؤسسات وشركات ضخمة، وأصبح يملك أوراق القوة العسكرية والمالية وحتى الإعلامية.

مسؤولية مشتركة
القول إن الجيش “انقض” على السلطة في السودان لا يكفي لفهم المشهد، فالحقيقة أن العسكر دخلوا الحياة السياسية من بوابات فتحتها الأحزاب السياسية المتصارعة، والنخب الضعيفة، والتدخلات الإقليمية، وضعف بنية الدولة المدنية.

لذا فإن أي حل مستقبلي لعلاقة الجيش بالسياسة لا بد أن يتضمن إصلاحًا حقيقيًا للنظام السياسي المدني، وليس فقط إبعاد العسكر عن الحكم.

بهاء الدين عيسى
التيار

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

حزب المؤتمر: تحرير سيناء ذكرى خالدة تجسد بطولة الجيش المصري وحكمة القيادة السياسية

هنأ اللواء الدكتور رضا فرحات، نائب رئيس حزب المؤتمر وأستاذ العلوم السياسية، الرئيس عبد الفتاح السيسي، رئيس الجمهورية والقائد الأعلى للقوات المسلحة، والفريق أول عبدالمجيد صقر، القائد العام للقوات المسلحة وزير الدفاع والإنتاج الحربي، وقادة وضباط وجنود القوات المسلحة الباسلة، وكافة أبناء الشعب المصري، بمناسبة الذكرى الثالثة والأربعين لتحرير سيناء.

وأكد الدكتور رضا فرحات في بيان له أن هذه الذكرى العطرة تظل محفورة في وجدان الأمة المصرية، حيث تجسد أسمى معاني البطولة والتضحية والفداء مشيرا إلى أن الخامس والعشرين من أبريل ليس مجرد ذكرى عابرة، بل هو يوم تاريخي خالد يشهد على عظمة مصر وقدرتها على تجاوز التحديات واستعادة حقوقها المغتصبة.

وأضاف نائب رئيس حزب المؤتمر أن تحرير سيناء يمثل بحق ملحمة وطنية متكاملة، جمعت بين البطولة العسكرية الفذة للقوات المسلحة المصرية، وبين الحكمة السياسية والقيادة الرشيدة التي قادت مسيرة النضال حتى تحقيق النصر مؤكدا أن هذا اليوم يمثل انتصارا لإرادة الشعب المصري الذي وقف صفاً واحداً خلف قيادته وجيشه العظيم.

وأشار أستاذ العلوم السياسية إلى أن الدولة المصرية تحت قيادة الرئيس عبد الفتاح السيسي تواصل مسيرة البناء والتعمير في سيناء الحبيبة، حيث تشهد تنمية شاملة غير مسبوقة في كافة المجالات لافتا إلى أن المشروعات العملاقة التي تنفذها الدولة في سيناء تؤكد أن هذه الأرض الغالية أصبحت نموذجا للتنمية المستدامة.

وأكد أستاذ العلوم السياسية أن مصر ستظل قلعة شامخة وصخرة صلبة في وجه كل التحديات، بفضل تضحيات أبنائها البواسل وقوة قواتها المسلحة التي هي درع الأمة وسيفها المسلول مؤكدا أن أبطال القوات المسلحة كتبوا بدمائهم الطاهرة تاريخا من البطولة والإخلاص سيظل محفورا في ذاكرة الأمة جيلاً بعد جيل داعيا الله أن يحفظ مصر وشعبها وقادتها، وأن تظل دائما وأبدا دار أمن وسلام.

مقالات مشابهة

  • حزب المؤتمر: تحرير سيناء ذكرى خالدة تجسد بطولة الجيش المصري وحكمة القيادة السياسية
  • البرهان يتسلم رسالة من غوتيريش حول إحلال السلام بالسودان
  • ???? انقلاب حميدتي
  • مصر وجيبوتي تعربان عن قلقهما من تدهور الأوضاع السياسية والأمنية في جنوب السودان
  • محافظ إدلب يبحث مع مدير الشؤون السياسية سبل التعاون للنهوض بالواقع السياسي للمحافظة
  • حماية الإعلام الحر في السودان- “السودانية 24” بين مطرقة السلطة وسندان الحقيقة
  • ما أسباب وتداعيات محاولات الانقلاب المتكررة في بوركينافاسو؟
  • تحليل أمريكي: الحوثيون يرسخون وجودهم في ساحل البحر الأحمر بالسودان والصومال كقواعد انطلاق مستقبلية (ترجمة خاصة)
  • العبودية الطوعية في الإسلام السياسي: قراءة في فلسفة الهيمنة
  • مآلات الصراع على السلطة في جنوب السودان .. هل ينجح سلفاكير في إقصاء مشار من المشهد؟