عندما يفقد العالم الثقة في الدولار الأميركي
تاريخ النشر: 19th, April 2025 GMT
من أغرب التداعيات التي تفرزها حرب الرسوم الجمركية على الاقتصاد الأميركي، انخفاض قيمة الدولار وما يتبعها من فقدان المستثمرين الثقة في الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترامب، مما يعيد للأذهان ما أصاب الجنيه الإسترليني عقب العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 مع اختلاف السياق في الحالتين.
ترتفع العملات وتنخفض باستمرار بسبب المخاوف من التضخم، وتحركات البنوك المركزية، إلى جانب عوامل أخرى.
عززت الإدارات الأميركية السابقة من الحزبين الجمهوري والديمقراطي هيمنة الدولار على التجارة عبر الحدود، كملاذ آمن، لعقود من الزمن، لأنها تساعد على إبقاء تكاليف الاقتراض الأميركية منخفضة، وتسمح لواشنطن باستعراض قوتها في الخارج، وهي مزايا هائلة قد تختفي إذا تضررت الثقة بالولايات المتحدة.
يقول الخبير الاقتصادي بجامعة كاليفورنيا باري آيكنغرين "لقد بُنيت الثقة والاعتماد العالميان على الدولار على مدى نصف قرن أو أكثر. لكن هذا الاعتماد قد يتلاشى في لمح البصر".
إعلانومنذ منتصف يناير/كانون الثاني الماضي، انخفض الدولار بنسبة 9% مقابل سلة من العملات، وهو انخفاض نادر وحاد، ليصل إلى أدنى مستوى له في 3 سنوات.
لا يعتقد العديد من المستثمرين، الذين يخشون ترامب، أن الدولار سيتزحزح سريعا عن مكانته كعملة احتياطية عالمية، بل يتوقعون انخفاضا بطيئا. لكن حتى الانخفاض يعد مخيفا بما فيه الكفاية، بالنظر إلى الفوائد التي ستفقد بسببه.
ومع تداول معظم سلع العالم بالدولار، ظل الطلب على العملة الخضراء قويا حتى مع مضاعفة الولايات المتحدة للدين الفدرالي خلال 12 عاما، وقيامها بأمور أخرى من شأنها عادة أن تدفع المستثمرين إلى الفرار.
وسمح ذلك للحكومة الأميركية والمستهلكين والشركات بالاقتراض بأسعار فائدة منخفضة بشكل غير طبيعي، مما ساهم في تسريع النمو الاقتصادي ورفع مستويات المعيشة.
كما تسمح هيمنة الدولار للولايات المتحدة بالسيطرة على دول أخرى مثل فنزويلا وإيران وروسيا من خلال حرمانها من عملة تحتاجها للشراء والبيع مع الآخرين. لكن الآن، أصبح هذا "الامتياز الباهظ"، كما يطلق عليه الاقتصاديون، معرضا للخطر فجأة.
المزايا تتآكلوقال بنك "دويتشه بنك" في مذكرة للعملاء في وقت سابق من أبريل/نيسان الجاري "إن خصائص الدولار كملاذ آمن تتآكل"، محذر في الوقت نفسها من "أزمة ثقة".
وفي تقرير أكثر تحفظا صادر عن شكرة "كابيتال إيكونوميكس" ومقرها لندن تضمن القول "لم يعد من المبالغة القول إن وضع الدولار كاحتياطي، ودوره المهيمن الأوسع نطاقا أصبحا موضع شك إلى حد ما على الأقل".
وتقليديا، كان الدولار يرتفع مع انخفاض الطلب على المنتجات الأجنبية بسبب الرسوم الجمركية. لكن الدولار لم يفشل هذه المرة فحسب، بل انخفض، مما حير الاقتصاديين وأضر بالمستهلكين، وفقد الدولار أكثر من 5% مقابل اليورو والجنيه الإسترليني، و6% مقابل الين منذ أوائل أبريل/نيسان الجاري.
إعلانكما يعلم أي مسافر أميركي إلى الخارج، أنه يمكنه شراء المزيد مع ارتفاع الدولار، وشراء أقل مع انخفاضه. والآن ترتفع أسعار النبيذ الفرنسي والإلكترونيات الكورية الجنوبية ومجموعة من الواردات الأخرى، ليس فقط بسبب الرسوم الجمركية، بل أيضا بسبب ضعف العملة.
وأي فقدان لوضع الملاذ الآمن قد يؤثر على المستهلكين الأميركيين بطريقة أخرى، مثل ارتفاع أسعار الفائدة على الرهن العقاري وصفقات تمويل السيارات، حيث يطلب المقرضون مزيدا من الفائدة مقابل المخاطر الإضافية.
الديون الفدراليةالأمر الأكثر إثارة للقلق هو احتمال ارتفاع أسعار الفائدة على الدين الفدرالي الأميركي المتضخم، الذي بلغت نسبته بالفعل 120% من الناتج الاقتصادي السنوي الأميركي، وهو أمر محفوف بالمخاطر.
يقول بن ستيل، الخبير الاقتصادي في مجلس العلاقات الخارجية الأميركي إن "معظم الدول التي تعاني من هذا الدين مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي ستتسبب في أزمة كبيرة، والسبب الوحيد الذي يجعلنا ننجو من ذلك هو حاجة العالم إلى الدولار للتداول به".
البدائلويضيف ستيل "في مرحلة ما، سيبحث الناس بجدية عن بدائل للدولار"، وقد فعلوا ذلك بالفعل، بمساعدة بسيطة من منافس اقتصادي أميركي.
ومنذ سنوات تبرم الصين صفقات تجارية باليوان مع البرازيل لشراء المنتجات الزراعية، ومع روسيا لشراء النفط، و مع كوريا الجنوبية لشراء سلع أخرى.
كما تقدم الصين أيضا قروضا باليوان للبنوك المركزية التي تحتاج بشدة إلى السيولة في الأرجنتين وباكستان ودول أخرى، لتحل محل الدولار كممول طوارئ وملاذ أخير.
مخاطرةوقال لاري فينك، رئيس مجلس إدارة شركة "بلاك روك" الأميركية، في رسالته السنوية للمساهمين حول هيمنة الدولار "إذا استمر العجز في التفاقم، فإن أميركا تخاطر بفقدان هذا المركز لصالح الأصول الرقمية مثل بيتكوين".
من جهته يرى ستيف ريتشيوتو، الخبير الاقتصادي في مجموعة الخدمات المالية "ميزوهو فايننشال"، أن "الجميع ليس مقتنعا بأن السبب الرئيسي لانخفاض قيمة الدولار هو فقدان الثقة بالولايات المتحدة".
إعلانويعتقد أن ضعف الدولار يعكس توقعا لارتفاع التضخم بسبب الرسوم الجمركية، ولكن حتى لو لم يكن المستثمرون مرتاحين للاحتفاظ بالدولار، كما يقول، فإنهم في الواقع لا يملكون خيارات كثيرة. لا توجد عملة أو أصل آخر، مثل اليوان أو البيتكوين أو الذهب، ضخم بما يكفي للتعامل معه.
ويقول ريتشيوتو"ستفقد الولايات المتحدة عملتها الاحتياطية عندما يوجد من يسحبها منها. في الوقت الحالي، لا يوجد بديل".
السياسة المتقلبة تخيف المستثمرين، وربما يكون الأمر كذلك، لكن ترامب يختبر حدوده، و لا يقتصر الأمر على الرسوم الجمركية فحسب، بل على الطريقة المتقلبة التي طبقها بها فعدم القدرة على التنبؤ يجعل الولايات المتحدة تبدو أقل استقرارا وموثوقية، وأقل أمانا لأموالهم.
وهناك أيضا تساؤلات حول منطقه في تبرير هذه السياسة، ويقول ترامب إن الرسوم الجمركية الأميركية ستخفض العجز التجاري، وهو ما يستشهد به كدليل على أن الدول "تستغل" أميركا.
ولكن عند حساب الرسوم الجمركية، نظر إلى العجز التجاري في السلع فقط، وليس في الخدمات التي تتفوق فيها الولايات المتحدة. يعتقد معظم الاقتصاديين أن العجز التجاري ليس علامة ضعف وطني على أي حال، لأنه لا يعيق النمو الاقتصادي والازدهار.
كما هدد ترامب مرارا وتكرارا بتقليص استقلالية مجلس الاحتياطي الفدرالي، مما أثار مخاوف من أنه سيجبر على خفض أسعار الفائدة لتعزيز الاقتصاد حتى لو كان ذلك يُهدد بتفاقم التضخم الجامح.
هذه طريقة أكيدة لدفع الناس إلى التخلي عن الدولار. بعد أن صرح رئيس مجلس الاحتياطي الفدرالي جيروم باول الأربعاء الماضي بأنه سيتريث قبل اتخاذ أي إجراءات بشأن أسعار الفائدة، انتقده ترامب بشدة قائلا: "لا يمكن إقالة باول بالسرعة الكافية".
ويستذكر الاقتصاديون المنتقدون لإعلان ترامب عن الرسوم الجمركية في الثاني من أبريل/نيسان حدثا آخر، وهو أزمة السويس عام 1956، التي قصمت ظهر الجنيه الإسترليني.
إعلانكان الهجوم العسكري على مصر سيئ التخطيط والتنفيذ، وكشف عن عجز سياسي بريطاني أدى إلى تراجع الثقة في البلاد، وانخفض الجنيه الإسترليني بشكل حاد، وانهارت مكانته التي اكتسبها لقرون كعملة تجارية واحتياطية مهيمنة.
يقول آيكنغرين من شركة "بيركلي" البريطانية المتخصصة في الاستثمار والخدمات المالية "إن يوم التحرير، كما أسماه ترامب في الثاني من أبريل/نيسان، يمكن تذكره كنقطة تحول مماثلة إذا لم يكن الرئيس حذرا. وهذه هي الخطوة الأولى نحو منحدر زلق تفقد فيه الثقة الدولية بالدولار الأميركي".
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الولایات المتحدة الرسوم الجمرکیة أسعار الفائدة أبریل نیسان الثقة فی
إقرأ أيضاً:
بعد قرارات ترامب| الحرب الجمركية تصل إلى التعليم.. تخفيض عدد التأشيرات وزيادة الرسوم تدفع الطلاب الصينيين بعيدًا عن الحلم الأمريكي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أصبحت قرارات إلغاء التأشيرات وخفض تمويل الجامعات التي اتخذتها إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مصدر قلق للطلاب الدوليين. ويواجه الطلاب القادمون من الصين تحديات إضافية بسبب الحرب التجارية بين واشنطن وبكين وتزايد التشهير بالمواطنين الصينيين، وفقًا لطلاب وخبراء في هذا المجال.
وفي هذا السياق، عندما تم تأجيل تسجيل ياو، طالبة الأحياء البالغة من العمر 25 عاما، في برنامج الدكتوراه بسبب خفض التمويل في جامعتها الأمريكية، انضمت إلى قائمة متزايدة من الطلاب الصينيين الذين يستكشفون وجهات أخرى.
أمريكا تحظر منح التأشيرات للطلاب الصينيينوقالت «ياو»، المقيمة في شيكاغو، "اعتدت أن أعتقد أن السياسة بعيدة عني، ولكن هذا العام شعرت حقا بتأثير السياسة على الطلاب الدوليين"، ورفضت إعطاء اسم جامعتها المحتملة.
ظلت الصين تُشكّل أكبر هيئة طلابية دولية في الولايات المتحدة لمدة 15 عامًا، حتى تجاوزتها الهند العام الماضي. ووفقًا لبيانات "أوبن دورز"، بلغ الأثر الاقتصادي للطلاب الصينيين على الاقتصاد الأمريكي 14.3 مليار دولار أمريكي في عام 2023.
ولكن داخل الولايات المتحدة، تم تصوير المجتمع باعتباره تهديدًا للأمن القومي - يشبه الجواسيس الذين أرسلهم الحزب الشيوعي الصيني - وهددوا باقتراح تشريع يمكن أن يمنعهم من دخول الجامعات.
ونقلت وكالة رويترز، حديثها مع 15 طالبا صينيا، ثمانية منهم في الولايات المتحدة، والذين قالوا إن المشكلات المتراكمة أدت إلى زيادة المخاوف الأمنية وتكثيف القيود المالية، مما أجبرهم على إعادة التفكير في حلمهم الأمريكي.
منذ عودة ترامب إلى البيت الأبيض، تم حذف أكثر من 4700 طالب من قاعدة بيانات الهجرة الأمريكية، مما يجعلهم عرضة للترحيل.
شكل الطلاب الصينيون 14% من 327 تقريرًا لإلغاء التأشيرات جمعتها حتى الآن جمعية المحامين الأمريكيين للهجرة.
مع التهديدات التي أطلقتها الولايات المتحدة بشأن التأشيرات وخفض التمويل، بدأ الطلاب الصينيون يعيدون التفكير في حلمهم الأمريكي، حيث اختار بعضهم الآن الجامعات الأقرب إلى وطنهم.
في الشهر الماضي، أرسلت اللجنة الخاصة بالصين في مجلس النواب الأميركي رسائل إلى ست جامعات تطلب معلومات عن سياسات التسجيل للطلاب الصينيين في برامج العلوم والتكنولوجيا والهندسة والرياضيات المتقدمة، وتتساءل عن مشاركتها في الأبحاث الممولة من الحكومة الفيدرالية.
وكتب رئيس اللجنة جون مولينار، أن نظام تأشيرات الطلاب في الولايات المتحدة أصبح "حصان طروادة لبكين" الذي يوفر الوصول غير المقيد إلى مؤسسات البحث العلمي الكبرى ويشكل تهديدا للأمن القومي.
التلويح بالأمن القوميوحثت وزارة الخارجية الصينية الولايات المتحدة على "التوقف عن التلويح بالأمن القومي كذريعة كاذبة" لاتخاذ إجراءات تمييزية وتقييدية تستهدف طلابها.
واقترح الجمهوريون في مجلس النواب الأمريكي أيضًا "قانون وقف التطفل الشيوعي الصيني من خلال الدفاع عن الضمانات الفكرية في الأوساط الأكاديمية" والذي من شأنه أن يوقف تأشيرات الطلاب للمواطنين الصينيين.
قالت لجنة المائة، وهي مجموعة من الأمريكيين الصينيين البارزين ومقرها نيويورك، إن مشروع القانون يخون القيم الأمريكية ويضعف زعامة الولايات المتحدة في العلوم والتكنولوجيا والابتكار.
قال تشين ييران، أستاذ بجامعة ديوك، إن فكرة أن الطلاب الصينيين يسارعون إلى العودة إلى ديارهم لمساعدة بكين في المنافسة مع الولايات المتحدة هي فكرة خاطئة.
وأوضح تشين: "معظمهم لا يزالون يرغبون في البقاء في الولايات المتحدة. إنهم ينتمون إلى عائلات من الطبقة المتوسطة، ويدفعون الملايين (باليوان) لهذه السنوات القليلة، ويريدون استرداد استثماراتهم".
وأفادت الجامعات خارج الولايات المتحدة منذ ذلك الحين باهتمام متزايد بهذا المشروع.
قالت مديرة جامعة بوكوني الإيطالية في الصين الكبرى، سمر وو، إن الجامعة تلقت العديد من الاستفسارات من الطلاب.
وأضافت أن "العديد من الطلاب قالوا إنهم بسبب (الوضع السياسي) يتطلعون أكثر إلى بلدان أخرى، لأنهم لا يعرفون ماذا سيحدث إذا ذهبوا إلى الولايات المتحدة".
وكانت المؤسسات في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة تواجه أيضًا منافسة من الجامعات الصينية التي ارتفعت تصنيفاتها العالمية في السنوات الأخيرة.
وقالت بيبا إيبل، مؤلفة تقرير عن الطلاب الصينيين في مركز أبحاث التعليم البريطاني (HEPI)، إن "السمعة المتنامية للجامعات المحلية في الصين، فضلًا عن زيادة التمويل المخصص للبحث والتطوير، تجعل المؤسسات الصينية أكثر جاذبية".
تظل الولايات المتحدة الوجهة الأكثر بحثًا عن الصين على مواقع Keystone Education Group الإلكترونية، لكن الاهتمام انخفض بنسبة 5% منذ إعلان ترامب عن الرسوم الجمركية الإضافية، مع انخفاض عمليات البحث عن برامج الدكتوراه بنسبة 12%.
ستؤثر الرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على بكين بنسبة 145% على سلع بقيمة 400 مليار دولار يبيعها المنتجون الصينيون في السوق الأمريكية سنويا، كما ستؤدي إلى تباطؤ النمو في ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
الصين أكثر حساسيةوقال مارك بينيت، مدير قسم الرؤى في شركة كيستون: "ربما تكون الصين أكثر حساسية للتحولات في الظروف الاقتصادية والسياسات الدولية... التي تؤثر على ميزانيات الأسر والقدرة الإجمالية على تحمل تكاليف مواصلة التعليم في الولايات المتحدة".
وفي هونج كونج، قالت الجامعة الصينية في هونج كونج إن ترتيبات التأشيرة التي تسمح للخريجين بالبقاء والبحث عن عمل جعلت المدينة وجهة شعبية.
لي واحدة من هؤلاء الطلاب. بعد ثلاث سنوات في نيويورك، قررت عدم خوض إجراءات التقديم الشاقة للحصول على البطاقة الخضراء الأمريكية، واختارت الانتقال إلى هونغ كونغ لإكمال دراساتها العليا والعمل.
"عندما أدركت أن هناك إمكانيات أخرى قد تكون موجودة في حياتي، لم أعد أشعر بالإحباط الشديد إزاء ما أملكه الآن"، كما قال لي.
العدد الورقي