سامح قاسم يكتب | إبراهيم داود.. شاعر خارج العبارة
تاريخ النشر: 18th, April 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
هناك شعراء يعبرون في المشهد كنجومٍ ساطعة ثم ينطفئون، وهناك من يبنون حضورهم كما تُبنى الحجارة في جدار بيتٍ قديم: ببطء، وبيدٍ تعرف أثر الزمن. إبراهيم داود من هذا النوع الأخير. ليس شاعرًا يلهث خلف الضوء، بل يكتفي بأن يضيء القصيدة ويمضي، كما تفعل شمعة صغيرة في غرفةٍ غارقة بالصمت.
ولد في الريف، وخرج منه دون أن يغادره تمامًا. بقيت في لغته تلك الرهافة الريفية، التي ترى في تفاصيل اليومي ما يستحق القصيدة. لم يأت إلى الشعر من بوابات النقد أو الثرثرة الثقافية، بل دخل إليه كما يدخل شخصٌ عادي إلى المعبد، بقدمين حافيتين وقلبٍ خائف.
قصيدته لا ترفع صوتها، ولا تتباهى بمعجمها. لكنها تعرف طريقها إلى القلب. هو شاعر اللمحة، لا الخطابة. شاعر النظرة القصيرة، لا البيان الطويل. حين يكتب، كأنما يُمسك بخيطٍ غير مرئي يربط القارئ بالحياة من جهةٍ أكثر هشاشة.
في دواوين مثل تفاصيل وأنت في القاهرة، يكتب عن المدينة، عن الحزن، عن الحب، عن الغياب، دون أن يرفع راية أيٍّ منها. لا يحبّ الانفعالات الجاهزة، ولا يثق في الدموع السهلة. لغته تشبه تنفّسًا عميقًا وسط الضوضاء، تنبّهك إلى ما كنت تراه دون أن تدرك أنه يُرى.
الكتابة عند داود ليست مجرّد مهارة، بل موقف. لا يتعامل مع الشعر كحرفة، بل كطقسٍ له هيبة. في إحدى مقابلاته يقول: الشعر هو الفن الذي لا يُكتب إلا شعرًا. جملة تُلخّص مشروعه: الإيمان بالشعر من حيث هو شعر، لا مادة خام لرواية، أو تعليق سياسي، أو تمرين بلاغي.
كل هذا يتجلى في اختياراته، في صمته، في ابتعاده عن صخب الجوائز حتى وهو يفوز بها، وفي إحساسه بأن الشعر ليس استعراضًا، بل استجابة خفية لما لا يُقال. كأنّ كل قصيدة لديه محاولة لإنقاذ شيءٍ صغير من الضياع: لحظة، إحساس، ظلّ على الجدار.
حين تقرأ إبراهيم داود، لا تخرج بانطباعٍ حاسم، بل بشيءٍ يشبه الوَجَل. كأنك تكتشف أنك نسيت أن ترى. وكأن القصيدة ليست غاية، بل مرآة تعكسك وأنت لا تدري. ومن بين كل هذا البساط، يبقى أثره، كغبارٍ خفيف على الذاكرة، لا يُمحى بسهولة.
المصدر: البوابة نيوز
إقرأ أيضاً:
سامح قاسم يكتب | محمود الورداني.. صائد الخسارات النبيلة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أن تكتب كأنك تلتقط ما يتساقط من ذاتك في الطريق، أن تتقصّى أثرك لا لتخلّده، بل لتفهم كيف تسرّب منك، هذا ما فعله محمود الورداني طوال تجربته الأدبية والإنسانية. ليس كاتبًا بالمعنى الذي يُدرّس، بل شاهقٌ في هامشيّته، كثيفٌ في بساطته، وصدقه ليس موقفًا أخلاقيًا بل شرطًا وجوديًا. هو من أولئك الكتّاب الذين يكتبون لا ليقولوا شيئًا، بل لأنهم عاجزون عن التزام الصمت، ولأن ما في داخلهم أَثقل من أن يُحتمَل بلا ورق.
الورداني لا يكتب من علٍ، بل من زقاق ضيّق في شبرا، من عنابر السجن، من ليل الخنادق، من العتمة التي لا ينتبه لها الضوء، من وجوه العابرين الذين لا يُسجَّلون في قوائم "الرواة".
كتابته ليست واقعية ولا رمزية، بل تمشي على حافة الهاوية: لا تُجمل القبح، ولا تفضحه، بل تنظر فيه طويلًا حتى يتعذّر على القارئ أن يُحوّله إلى خبر عابر.
في روايته الموجعة "نوبة رجوع"، يُفكك محمود الورداني مفهوم البطولة كما تُسوّقه السلطة، ويعيده إلى مكانه الأصلي: في جسد الجندي، في خوفه، في تردّده، في نظرته الملتبسة إلى العالم. إنها ليست رواية عن الحرب، بل عن الحرب التي تظل في الرأس، وتظلّ تنهش الروح حتى بعد العودة، حتى بعد أن تنطفئ صافرات الإنذار. لم يكتب عن النصر، بل عن ما بعده، عن تلك اللحظة التي يشعر فيها المحارب أنه لم يعد يخصّ أحدًا، لا السلطة، ولا الثورة، ولا نفسه.
وفي "رائحة البرتقال"، يتجاوز سرد الحكاية إلى ما يشبه التلمّس داخل الذاكرة، لا بصفتها أرشيفًا، بل ككائن هشّ، حيّ، معطوب. المدينة ليست خلفية، بل بطلة منسية. العاطفة ليست موضوعًا، بل هواء تتنفّسه اللغة. اللغة هنا مشروخة، ومقصودة أن تكون كذلك. كل جملة كأنها خارجة من فم مرتجف، وكل فصل كأن الكاتب يكتبه وهو ينظر خلفه، لا خوفًا، بل كمن يتحقق من أن ماضيه لا يلاحقه.
أما كتابه الساحق في فرادته "الإمساك بالقمر"، فهو عمل لا يُصنَّف، لأنه لا يريد أن يُصنَّف. ليس سيرة ذاتية، ولا رواية، ولا شهادة. إنه قوس من الكتابة يتّسع لكل ما لا تقوله السير الرسمية: الشكّ، والسجن، وتحوّلات الجسد، وتآكل الحلم، وتحلل الرفاق. هنا، يكتب محمود الورداني كمن يكتب من الداخل، لا عن الذات، بل من داخل الذات. كمن يحفر في اللحم ليصل إلى العظم، لا ليعرضه، بل ليفهم كيف انكسر.
الورداني لا يكتب عن الطبقة، بل من داخلها. لا يكتب عن الناس، بل كواحد منهم. ومن هنا تأتي خطورته: إنه لا يسمح للقارئ بأن يتفرّج. يسحبك معه إلى الحارة، إلى العتمة، إلى عرق الظهيرة في المصنع، إلى همهمة الرفاق في الزنزانة. لا يبحث عن مجاز، بل عن ما هو أوضح من أن يُقال: الألم حين لا تجد له اسمًا، والخذلان حين يصبح روتينًا، والحنين الذي لا يعود إلى شيء بعينه.
ولذلك، فإن محمود الورداني هو كاتب "المواربة النبيلة". لا يصرخ، بل يوشوش. لا يقدّم خلاصات، بل شكوكًا. لا يفتح النوافذ، بل يريك كيف يُمكن لظلّ صغير أن يُنقذ نهارًا بأكمله. هو كاتب يتقن الصمت، لكنه يعرف تمامًا متى يقول الكلمة التي لا تُنسى.
وفي زمن تُشترى فيه الأصوات، وتُباع فيه الحكايات كسلع في أسواق الجوائز، يبقى الورداني شاهدًا نادرًا على ما يُنسى. كاتبًا لا يعيد صياغة العالم، بل يجلس على رصيفه، ويكتب عنه كما هو، لا كما ينبغي أن يكون. وهذا وحده يكفي. بل هذا، وحده، هو الأدب.