في رواية الكاتبة المصرية سمر نور "آشا.. الجعران والقمر" خلطة ساحرة من واقع قديم يخص النوبة، وأساطيرها وحكاياتها المدهشة، حيث يتسبَّب شخص يُدعى (نُوري) في لعنة لقرية "الشبَّاك" النوبية بعد أن يقتل الابن الوحيد لدوجر ذي مكانة كبيرة بين سكان قاع النهر!

اللعنة تصيب سيدات القرية بعدم إنجاب الذكور تمامًا، ولأن نوري (حكيم القرية وكبيرها) يشعر بالذنب مما جناه على أهل القرية يفكر، رغم شيخوخته، في الإنجاب مجددًا من زوجته "فاتي" ويكون نصيبه أنثى مجددًا، بنتًا جميلة يسمِّيها "آشا"، تكبر وتتزوج من شاب ألقى به شاطئ النيل إليهم يدعى "كرم باش"، لكن آشا هذه تمنح النوبة ما لم يمنحه لها آلاف الرجال!

أسأل سمر كيف استطعتِ اختصار هذا الزمن الهائل الخاص بالنوبة في مساحة الرواية القصيرة؟ فتجيب: "أسلوبي منذ بدأت الكتابة يمتاز بالتكثيف والتركيز، ربما لأن بدايتي كانت مع القصة القصيرة، لذلك أنفر من الثرثرة، وأميل أكثر إلى الحذف في كل مراحل الكتابة.

بالنسبة للزمن الهائل الخاص بالنوبة، لم يكن الأمر اختصارًا لكنه زاوية رؤية، لم أرغب أن أقدم صورة للنوبة كما كانت في الواقع بل سعيتُ لتقديم عالمٍ متخيَّل يتخذ من قرية "الشباك" النوبية مكانًا بداية من القرن التاسع عشر، وتحديدًا من 1813 ولمدة خمسة عشر عامًا. واختيار الزمن والمكان له علاقة بتقصي جذور عائلية في النوبة القديمة، في زمن شهد تحولات كبرى، أو بالأحرى كان نتاجًا لفترة سابقة له من التحولات، لها أثرها على الشخصية النوبية من وجهة نظري. لم أرغب في أن يكون الزمن-التاريخ هو البطل، أو أن أنساق وراء أحداث التاريخ. طوال الكتابة كنت ممسكة ببطلتي وقررت إنصافها بعد أن ظلمتها الحكاية العائلية، فقد ركزت على الغريب ومنحته اسم "كرم باش" بينما لم تحكِ عن الجدة النوبية التي ورَّثت هويتها لأحفادها. قررت أن تكون روايتي عنها منذ كانت وليدة وحتى وضعت طفلها الأول".

وعن طريقة تحضيرها للرواية تقول: "لم يكن الأمر واضح المعالم في ذهني منذ البداية، كانت لديَّ حكاية غير مكتملة، مجرد جمل متفرقة يحتفظ بها ذهني من حكايات الطفولة، حكاية انتقلت عبر الأجيال عن جد غريب أتى إلى قريتي النوبية وتزوج جدتي، وكان الإمساك بحكاية متماسكة وتخيل عالم حي يحتاج إلى الكثير من البحث، للإلمام بالثقافة التي نبعتْ منها الحكاية. كوَّنتُ مكتبة عن التاريخ والجغرافيا والتراث النوبي عبر سنوات طويلة، تخطى عدد الكتب الستين مرجعًا في كافة التخصصات، معظمها أهداها إليَّ الكاتب النوبي يحيى مختار، لكن العالم الذي تكوَّن على مهل حمل أسئلته، وكان البحث عن الإجابات يستدعي مزيدًا من الكتب والتسجيلات والمناقشات، ومعظم الأصدقاء والأساتذة الذين استعنت بهم لم يكونوا على علم بما أقوم به تحديدًا، كنت أطلب منهم كتابًا بعينه أو أسأل حول خط معين في الرواية فيقترح عليَّ الكتب، أو حتى أناقش في تفصيلة فأستفيد من العصف الذهني معهم، كما سجلت مع بعض الكبار ممن عاصروا النوبة القديمة قبل التهجير، كما أن هناك أصدقاء قرأوا المسودة الأولى للرواية. ما أريد قوله إنه بالرغم من رحلة البحث الطويلة إلا أن الخيال هو الذي تحكَّم في النهاية، كان الواقع الذي رسمته من خلال القراءة مجرد تكئة معرفية للوصول إلى مناطق مختلفة من الخيال. وقد ذكرت بعض المراجع المستخدمة في نهاية الرواية لأني استخدمت منها الألعاب والأغاني تحديدًا بلا تغيير يذكر، أما الأساطير والحكايات فقد أعدت كتابتها وفقًا لخيالي ومدى توافقها مع عالمي".

الناس في عالم سمر نور يتحدثون عن سكان النهر وحكايات الجعارين وغيرها كأنها حكايات واقعية وتفاصيل يومية. ما الممتع في سرد الأسطوري وإيهامنا بأنه عادي جدًا كما حدث في الرواية؟ أسألها فتجيب: "الناس في المجتمعات القديمة كان يتعايشون مع الأسطوري باعتباره تفسيرًا لتفاصيل حياتهم اليومية، لم يكن هناك فاصل بين الواقعي والأسطوري بشكل قاطع، الأمر بدا ممتعًا بالنسبة لي في الكتابة، خصوصًا أنني أعدت كتابة الحكايات لأقرِّبها إلى زمن الرواية، فالحكايات الشعبية النوبية جُمِعت وكُتِبت في مرحلة متأخرة، مرتبطة ببناء السد العالي والتهجير، بل وفي مراحل أقرب من ذلك، لأن الاهتمام الأكبر كان بنقل الآثار أكثر من جمع التراث الشفاهي، بالتالي فالحكايات متأثرة بزمن جمعها. تخيلتُ ما يمكن أن تكون عليه الحكاية إذا رويتُها في زمن قديم بعيدًا عن التأثيرات المعاصرة، وهذا أمر لم يكن سهلًا، كما أني كنت أحتاج لحكايات مرتبطة بعالم روايتي وشخوصي، فمثلًا حكاية "الجعران والقمر" وهي حكاية أساسية في الرواية، عبارة عن مثل شعبي وحكاية مفسِّرة له في سطرين لا أكثر، لكني تخيلت من خلاله في روايتي أسطورة من أساطير الخلق، وهكذا فيما يتعلق بأسطورة كائنات النهر النوبية. طوال الوقت اهتممتُ بفكرة الطبقات الحضارية والثقافية في النوبة القديمة، وكيف أن كل تلك الحضارات والثقافات كانت منسوجة داخل الثقافة النوبية في سلاسة وبلا أي صراعات، كأن تجاورها شيء طبيعي".

تغطي الرواية زمنًا كبيرًا من أيام طرد المماليك ومطاردة فلولهم في الجنوب حتى اللحظة الحاضرة التي كان نظام العبودية لا يزال معمولًا به خلالها. تعلّق: "زمن البداية محدد بعام 1813 وهو عام ميلاد آشا ثم نستمر حتى تخطيها سن الخامسة عشرة تقريبًا، لكنَّ هناك زمنًا استعاديًّا نرجع فيه إلى مراحل سابقة مثل الحملة الفرنسية، وكما أشرت فإن الزمن أو التاريخ تكئة معرفية لكنه ليس هدف الحكاية. شخصياتي ليست تاريخية بالمعنى المعهود، وربما لم أذكر اسمًا لشخصية تاريخية سوى المستشرق بوركهارت أو محمد علي أو المماليك كجماعة عرضًا خلال أحداث الرواية، أما نظام العبودية فهو من المسكوت عنه في النوبة، ولا أعتقد أن هناك معلوماتٍ تخصه أكثر مما ذكرته، وأنا لا أستفيض فيما لا يخص عالمي، لذلك تخيلت نظام العبودية من خلال شخصيات لعائلة من العبيد ارتبطت بعائلة آشا، وقدمتُها باعتبارها شخصيات من لحم ودم وليست نماذج لنظام ما، وفي العموم فإن المجتمع النوبي فقير، وبالتالي لم تكن أعداد العبيد كبيرة في القرى النوبية وكانت تخص عائلات بعينها كما أوضحت، وربما لا يوجد في القرية كلها سوى تلك العائلة المذكورة، فالمعلومات القليلة عن هذا المجتمع يشير إلى أنهم كانوا أشبه بالخدم وليسوا عبيدًا بمنطق المدن القديمة، وسنرى تطورًا ما في الجزء الثاني من الرواية الذي أكتبه حاليًّا يوضح أكثر مصيرهم الذي دعا إلى السكوت عن وجودهم من الأساس في المجتمع النوبي".

لماذا استخدمتْ الرواية فكرة الحكاية المنفصلة حيث كانت فاتي الأم الكبيرة تنطق بجملة "حكاية حكاية من الله" ليعرف المستمعون أنها ستحكي لهم حكاية شيقة فينصتون لها، ثم ورثت آشا عنها هذه الملكة؟ أسأل وتجيب: "فاتي راوية وهي مكانة كبيرة في المجتمع النوبي وكانت تُورَّث عبر العائلات، فيشتهر في قرية ما أن هذه العائلة يخرج منها الرواة، ولا بد أن يتمتعوا بقدرة كبيرة على الحفظ والمعرفة بالتراث الحكائي داخل القرية، ومن هنا أتت فكرة الحكايات المنفصلة التي ترويها فاتي ثم من بعدها آشا لإيصال فكرة ما، أو للتمهيد لحدث ما، فكانت الحكايات المنفصلة مرتبطة بعالم الرواية وشخوصه".

وتضيف: "أعتقد أن أي عمل خيالي هو أسطوري بشكل أو بآخر، فنحن نصنع أساطيرنا الشخصية أو العائلية أو المجتمعية أو الكونية لنفسر العالم، لا يزال بداخلنا هذا البدائي الذي يخشى العالم ولا يفهمه، ونحن نكتب لنفهم ذواتنا وما حولنا، نكتب لنفسر العالم كما كان يحكي البدائي ليفسر عالمه".

ما جيلك مصريًّا وعربيًّا؟ تقول: "بدأت عام 1998 بكتابة القصة وحصلت في العام نفسه على جائزة نجيب محفوظ من نادي القصة لكني لم أنشر كتابًا قصصيًّا إلا عام 2004 وطوال الوقت أتحرك منفردة، ولديَّ حالة شعور بالاغتراب عن محيطي، فلا أستطيع تحديد جيل بعينه أنتمي له، لكن لديَّ مجموعات كبيرة من الكتَّاب من أجيال مختلفة أنتمي إلى عوالمهم الكتابية، وأشعر بقربي من أدبهم".

وأخيرًا حول طموحها للكتابة تقول: "طموحي هو الكتابة ذاتها، هو ألا أفقد القدرة على الجري وراء الأسئلة، حتى لو لم أحصل على إجابات شافية، والوصول إلى مناطق جديدة لم أطرقها في عالم الخيال، وألا تشغلني أسئلة خارج عالم الكتابة، تعرقل قدرتي على الاستمرار. لا أرغب في التنظير لخطواتي القادمة، يومًا ما في بداياتي قلت إني لن أكتب رواية أبدًا، وإن تركيبتي الشخصية أقرب إلى القصة، وما حدث هو أني كتبتُ الرواية بل لم أعد أستطيع النظر للعالم بمنطق القصة، ويومًا ما قلت إني ابنة القاهرة حتى لو كانت جذوري البعيدة نوبية، وبالتالي لن أكتب عن النوبة وسأظل منشغلة بالمدينة حيث وُلدت وعشت، وما حدث هو أني كتبتُ رواية "آشا.. الجعران والقمر" وأكتب حاليًّا الجزء الثاني منها، بالتالي كذلك أنا لا أعرف ما سأفكر فيه في المستقبل، وما سيقودني إليه الخيال، لكني أطمح أن أظل مستكشفة في عوالم الكتابة".

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: لم یکن

إقرأ أيضاً:

نصوص قبطية حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة

ahmed.elyas@gmail.com

تمهيـد
تناوت المصادر الرومانية والأكسومية معلومات عن تحركات سكانية كبيرة تحت اسم القبائل النوبية منذ نهاية الألف الأخير قبل الميلاد من المناطق الواقعة غرب النيل الأبيض بسبب الجفاف الذي ضرب تلك المناطق
وأدت تلك التحركات السكانية في منتصف القرن الرابع الميلادي إلى انهيار مملكة مروي وإلى تغيرات سكانية واسعة في مناطق وسط وشمال السودان. أنظر (Hillson, p 147-38, Samia, p 82, Henderson, p 93)

وأعقب تلك التجركات قيام ثلاث ممالك على النيل هي بالترتيب من الشمال إلى الجنوب مملكة نوباديا المعروفة في المصادر العربية باسم مملكة مريس وعاصمتها فرس شمال وادي حلفا، ومملكة المقرة وعاصمتها دنقلة، ومملكة علوة وعاصمتها سوبا. وقد اعتنقت تلك الممالك المسيحية في القرن السادس الميلادي، اتبعت مملكة نوباديا المسيحية على المذهب اليعقوبي مذهب الكنيسة القبطية، وكان بطرك الكنيسة القبطية في الإسكندرية يرسل الأساقفة لكنيسة نوباديا. واعتنقت مملكة مقرة المسيحية على المذهب الملكي الذي أقرته الإمبراطورية. البيزنطية التي كانت تحكم مصر. وكانت الكنيسة الملكية ترسل الأساقفة إلى مملكة المقرة.
وذكر ابن البطريق أن بطرك الكنيسة الملكية غادر الإسكندرية بعد فتح المسلمين مصر في السنة الثالثة من خلافة عمر بن الخطاب وأصبحت الكنيسة الملكية بدون بطرك حتى السنة السابعة من خلافة هشام بن عبد الملك (112ه/730 م). وأشرفت الكنيسة القبطية في هذه الفترة على كل الكنائس في مصر, كان أهل بلاد النوبة يرسلون إلى بطاركة الإسكندرية ليمدوهم بالأساقفة. (ابن البطريق، ج 2 ص 386)
ويسعى هذا الموضوع إلى المساهمة في الإجابة على السؤال المهم والمفصلي في تاريخ السودان وهو: متى اتحدت مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة بالرجوع إلى بعض النصوص القبطية في هذا الصدد. تأتي أهمية الإجابة على هذا السؤال في أنه يحدد المملكة النوبية التي حاربها المسلمون ووقع معها عبد الله بن سعد عام 31ه/51-652 م الصلح المشهور بمعاهدة البقط.
وقد تباينت آراء المؤرخين حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة. رأى بعض المؤرخين أن الاتحاد تم بين المملكتين أمام خطر الغزو الفارسي لمصر عام 616 م/ 6 ق ه(قبل الهجرة). وهنالك من يرى أنه عندما غزا المسلمون مصر بقيادة عمر بن العاص تم توافق – وليس اتحاداً - بين المملكتين للتصدي للمسلمين، غير أن ذلك الاتفاق انتهي بنهاية الحرب. وبعد نحو أربعة عقود من ذلك التوافق تم اتحاد المملكتين بقيادة مملكة المقرة وأصبحت بلاد النوباد تمثل الإقليم الشمالي لمملكة مقرة. (Hendrickx, 2019)
وذهب جمهرة المؤرخين أن اتحاد المملكتين تم في وقت ما قبل حملة عبد الله بن سعد عام 31ه/ 15-652 م على النوبة. فقد ورد في رواية المقريزي للصلح مع النوبة (معاهدة البقط) أن عبد الله بن سعد وقع الصلح مع ملك المقرة الذي تمتد حدوده شمالاً حتى أسوان، ولذلك لم يعد هنالك وجود لمملكة نوباديا. وقد تناولت في عدد من المقالات نشرت في الصحف الالكترونية إشكاليات نص المقريزي للبقط، كما سيتم تناول ذلك بالتفصيل في موضوع منفصل إن شاء الله عت اتحاد المملكتين في الطبعة الثانية من كتاب "مراجعات في تاريخ السودان"
وسنتناول هنا ثلاثة نصوص وردت في المصادر القبطية عن اتحاد المملكتين هي:
1. رسالة من ملك المقرة إلى بطرك الاسكندرية
2. رد البطرك علي رسالة ملك المقرة، وقد جاء بروايتين هما:
- رواية أبا منا 2-1
- ورواية ابن المقفع 2-2
1. رسالة ملك المقرة إلى بطرك الاسكندرية
كنب البطرك أبا منا Abba Minaسيرة البطرك إسحاق (Life of Isac) نحو عام 700 م/81ه، ذكر فيها أن ملك مملكة مقرة أرسل رسالة إلى البطرك إسحاق بطرك الكنيسة القبطية في الإسكندرية بين عامي67 - 70هـ )686-689 م) يخبره فيها بأن مملكة مقرة تعاني من نقص في عدد الأساقفة لأن ملك موريتانيا - الذي في عداوة مع المقرة - يمنع الأساقفة الوافدين من الإسكندرية إلى مملكة مقرة من السفر عبر بلاده. ويواصل أبا منا قائلاً:
"في الحقيقة يوجد ملكان يحكمان في تلك المنطقة، كلاهما مسيحيان، ولكن لا سلام بينهما، لأن أحدهما وهو ملك موريتانيا كان في سلام مع المسلمين. أما الآخر وهو ملك مقرة العظيمة لم يكن في سلام مع المسلمين" (Abba Mina, p 36)

2-1. رسالة البطرك اسحاق إلى ملك موريتانيا رواية أبا منا
وعنما استلم البطرك إسحاق رسالة ملك مقُرة وفهم محتواها، كتب رسالة إلى ملك موريتانيا يعظه ويوجهه ويقول له "أنتم كلاكما مسيحيان ... إذا منعت مرور الأساقفة للوصول عبر بلادك إلى البلد الواقع في أعلى النهر فإن الناس سيهجرون الكنيسة وسيكون ذلك عاراً كبيراً أمام الله" (Abba Mina, p 37)

ويضبف أبا مِنا (ص 37) أن والي مصر علم بأمر الرسالة عبر بعض أعوانه، وأخبروه بأن الأمر لم يتوقف فقط على طلب ارسال الأسقف، بل أضافوا أن البطرك أرسل رسالة إلى ملك موريتانيا ينصحه فيها بإقامة سلام مع ملك مقُرة الذي هو عدو للمسلمين، وإذا ما تم ذلك سيكون الملكان يداً واحدة ويشكلون خطراً على المسلمين. فطلب والي مصر إحضار البطرك من الاسكندرية. وعند حضور البطرك تمكن من مساواة الأمر بسلام مع الوالي. كما اتضح في رواية ابن المقفع في للرسالة (2-2) كيف تم علاج القضية.

ما يفهم من الرسالتين
وردت عبارتان في هاتين الرسالتين يتطلبان التعليق عليهما وهما "موريتانيا" و"المملكة الواقعة أعلى النهر"
توضح رسالة ملك مقرة (رسالة رقم 1) أن ملك المقرة يشتكي ملك موريتانيا لأنه يمنع الأساقفة الوافدين من مصر عبور بلادة للوصول إلى المقرة. ومن الواضح هنا أن ملك المقرة يشير إلى ملكٍ تقع بلاده بين مصر شمالاً المقرة جنوباً، وأطلق عليه ملك موريتانيا، كما ورد ذلك أيضأً في رسالة البطرك رقم 2-1 "ملك موريتانيا" فمن هو ملك موريتانيا؟
ذكرJohn of Nikiou يوحنا النقيوسي المعروف بيوحنا المدبر نحو عام 67ه/686 م في كتابه الذي نشره H. Zotenberg تحت عنوان Le Chronique de Fean de Nikiou "أن بربر مديريتي النوبة وافريقيِّة يُطلق عليهم الموريتانيون" (In Vantini, Oriental p 404) وأوضح المحقق في الحاشية أن افريقيِّة هنا مقصود بها الولاية الرومانية في منطقة تونس الحالية.

فقد أطلق الرومان اسم افريقيا على الولاية التي أسسوها في القرن الثاني قبل الميلاد في منطقة تونس الحالية والجزء الغربي من ساحل ليبيا الحالية، وتكتب في المصادر العربية افريقيِّة. وأطلق الرومان اسم موريتانيا على المنطقة الواقعة غرب ولاية افريقيِّة والممتدة حتى المحيط الأطلسي، وموريتانيا في الأصل هو الاسم الذي أطلقه الرومان على سكان هذه المنطقة. والبربر Barbarians هو الاسم العام الذي أطلقه الرومان على سكان منطقة شمال افريقيا الواقعة غرب مصر.

وما ذكره John of Nikiou - أعلاه - من "أن بربر مديريتي النوبة وافريقيِّة يُطلق عليهم الموريتانيون" يوضح أن الرومان كانوا أيضا يطلقون على النوبة اسم البربر. فملك موريتانيا في الرسالتين أعلاه مقصود به ملك النوبة. ومن الواضح أن ملك النوبة الذي يمنع الأساقفة من مصر المرور عبر بلاده جنوباً إلى المقرة (الرسالتين 1 و1-2) هو الملك الذي تقع مملكته شمال مملكة المقرة، وهو ملك نوباديا. فموريتانيا في الرسالتين لم يُقصد بها المورتانيين في شمال افريقيا، لأن المورتانيين قي شمال افريقيا كلها في ذلك الوقت (نحو عام 67ه/686 م) كانت فد خضعت للمسلين. وقد أضار هندركس إلى أن بعض المؤرخين أوضحوا أن موريتانيا في لبرسالتين 1 1-2 هس مملكة نوباديا. (Hendrickx, 2019)

وعندما تناول فانتيني هذه الرسالة أوضح بين قوسين أن موريتانيا تعني نوباديا حيث ذكر: "بعث البطرك إسحاق برسالة إلى ملك موريطانيا (نوباطيا) وملك مقرة داعيا إياهما إلى التصالح بينهما حيث أن كليهما مسيحيان. فقد كان ملك نوباتيا يمنع مبعوثي البطرك من المرور إلى دنقلة ويمنع مبعوثي ملك دنقلة من عبور أراضيه في طريقهم إلى مصر" (فانتيني، المسيحية ص 26)
كما أوضح أبا منا - الذي كتب نحو نحو عام 81 ه – في الرسالة رقم 1- أنه يوجد في المنطقة ملكان لا سلام بينهما "أحدهما ملك موريتانيا كان في سلام مع المسلمين أما الآخر وهو ملك مقرة لم يكن في سلام مع المسلمين" فالمقصود بالملك الذي "في سلام مع المسلمين" هو الملك الذي وقع الصلح مع عبد الله بن سعد عام 31ه51-652 م وهو ملك نوباديا، بينما ملك مقرة – كما يوضح النص – لم يكن في سلام مع المسلمين.

فرسالة ملك مقرة (رسالة رقم 1) الى بطرك الإسكندرية ورسالة بطرك الإسكندرية (رسالة رقد 2-1) اللتان كتبتا بين عامي بين عامي 67 - 70هـ وتعليق أبا منا الذي كتب عام 81ه توضح وجود مملكتين منفصلتين في جنوب مصر - بعد 50 سنة من حملة عبد الله بن سعد - إحداهما مملكة مقرة والتي لم تكن على صلح مع المسلمين، والثانية مملكة موريتانيا (مملكة نوباديا) والتي كانت على صلح مع المسلمين. ومن المعروف أن الصلح الوحيد الذي وقعه المسلمون مع النوبة في القرن الأول الهجري هو الصلح المشهور باسم البقط عام 31ه. وهذا الصلح لم يوقع مع مملكة المقرة لأن مملكة مقرة كما في الرسالة رقم 1 لم تكن في صلح مع المسلمين.
وفي الرسالة رقم 1-2 يؤنب البطرك ملك موريتانيا لمنعه وصول القساوسة إلى مملكة "الواقعة على أعلى النهر. "النهر" هنا مقصودُ به النيل، و"أعالي النهر" مصطلح يعني اتجاه الجنوب على النيل. فالنيل ينحدر من الجنوب إلى الشمال، فكلما انحدرنا جنوباً على النيل كانت المناطق الواقعة جنوباً أعلى من المناطق الواقعة إلى الشمال. فالبطرك يرجو من ملك موريتانيا ألّا يمنع مرور الأساقفة إلى المملكة الواقعة إلى الجنوب من بلاده. ومن الواضح هنا أن البطرك يخاطب ملك المملكة الواقعة شمال مملكة المقرة وهي مملكة نوباديا التي كانت موجودة كمملكة مستقلة حتى عصر البطرك إسحاق بين عامي (67 - 70هـ) وعصر أبا منا عام 81ه.

2-2. رسالة البطرك اسحاق إلى ملك موريتانيا رواية ابن المقفع
تناول ساورس بن المقفع الذي كان عائشاً في القرن الرابع الهجري (10 م) في كتابه تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية الأحداث التي وقعت في عصر البطرك اسحاق (67-70هـ /686-689م) في الرسالة التي كتبها البطرك إسحاق إلى ملك الحبشة والنوبة والتي جاء فيها:
"في تلك الأيام كتب البطرك [إسحاق] إلى ملك الحبشة وملك النوبة أن يصطلحا، ولا يكون بينهما سجس، وذلك لخلاف كان بينهما. فسعى به بعض أهل المكر إلى عبد العزيز بن مروان [والي مصر 65 - 85 هـ / 684 – 704م] وأرسل [الوالي] من يحضره ليقتله." ولما علم بذلك رجال البطرك في بلاط الوالي كتبوا كتباً بغير ذلك المعنى وأسرعوا في إرسالها إلى الرسل الذين أرسلهم البطرك. وقبل أن يصل البطرك إلى الوالي أحضر رجال الوالي رسل البطرك، فأمر بهم واطلع على الرسائل التي معهم فلم يجد فيها ما قيل له، فسكن غضبه على البطرك." (ساورس بن المقفع ص 77 – 78)

قابن المقفع يرجع هنا إلى نفس الرسالة ذكرها أبا منا أعلاه (الرسالة رقم 1) لكن رواية المقريزي جعلت البطرك يخاطب الملكين الذين سماهما بملك الحبشة وملك النوبة. فما المقصود بالحبشة ؟ ومن هما ملكي الحبشة والنوبة في هذا النص؟

لم يكن مفهوم الحبشة في المصادر العربية المبكرة منحصراً فقط على منطقتي اثيوبيا وارتريا الحاليتين، بل كان المفهوم واسعاً يتعدى حدودهما. فالمسعودي يقول عند حديثه عن مناطق جنوب أسوان:"
"وعلى أميال من أسوان جبال وأحجار يجري النيل في وسطها، ولا سبيل إلى جريان السفن فيه هناك، وهذه الجبال والمواضع فارقة بين مواضع سفن الحبشة في النيل وبين سفن المسلمين. (المسعودي، ج 1 ص 37) وفي مكان آخر يقول: "وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي. الحبشة" المسعودي، ج 1 ص 161) وذكر القلقشندي عن خط حدود مصر الغربية: "وحدها الغربي يبتدئ من ساحل البحر الرومي حيث العقبة، ويمتد جنوباً، وأرض إفريقية غربيه، على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان." (القلقشندي، ج 1 ص 441)

فالمسعودي في النص الأول يتحدث عن الشلال الذي يفصل أسوان عن سفن الحبشة على النيل. فالحديث هنا عن الشلال الأول الذي ينتهي عنده إبحار سفن النوبة شمالاً. فالسفن هي سغن النوبة التي ذكرها المسعودي تحت اسم سفن الحبشة. وفي النص الثاني يذكر المسعودي أن صعيد مصر ينتهي أو يأتي بعد الحبشة فالحبشة في نصي المسعودي مرادٌ بها النوبة.

ويوضح القلقشندي في النص أعلاه أن صحراء الحبشة تقع جنوب الفيوم والواحات وعلى مسافة ثماني مراحل من أسوان. ومن المعروف أن الواحات المصرية تقع غرب النيل بينه وبين الحدود الليبية. فالصحراء الواقعة جنوب الواحات وبالقرب من أسوان هي صحراء النوبة التي ذكرها القلقشندي تحت اسم صحراء الحبشة. وملك الحبشة في الرسالة رقم 2-2 هو ملك النوبة. لكن ابن المقفع ذكر أن البطرك أرسل "إلى ملك الحبش وملك النوبة" فمن هو ملك الحبشة؟

كما اتضح أعلاه فإنه في بعض الأحيان تطلق المصادر العربية لفظ الحبشة على النوبة، كما تطلق أيضا عبارة "ملك الحبشة" على ملك المقرة. فابن المقفع نفسه يقول مكان آخر عن ملك المقر: "وكان ملك المقرة الحبشي ارتدكس وهو الملك العظيم" (ابن المقفع ص 83)
فإذا كان ملك الحبشة في رسالة البطرك رقم 2- 2 مقصود بها ملك مقرة، فمن المقصود بـ ملك النوبة؟
أطلقت المصادر العربية اسم النوبة بصورة عامة على سكان مملكتي مقرة وعلوة، لكنها أطلقته بصورة خاصة على النوبة المجاورين لحدود مصر الجنوبية وهم سكان مملكة مريس (نوباديا) كما ذكر ابن سليم حين قال: "اعلم أنّ النوبة والمقرة جنسان بلسانين، كلاهما على النيل، فالنوبة هم: المريس المجاورون لأرض الإسلام" (مصطفى مسعد ص 98) والمريس هم النوباديين.

فما ورد في رواية ابن المقفع من أن البطرك أرسل "إلى ملك الحبشة وملك النوبة أن يصطلحا" المراد به أن البطرك أرسل إلى ملك المقرة وملك نوباديا.

ورغم أهمية ما ذكره أبا منا وما يوضحه وجود مملكتي نوباديا والمقرة بعد حروب عبد الله بن سعد التي كانت عام 31 هـ / 652 م إلا أن أغلب المؤرخين لم يتعرضوا لما ذكره، والقلة من المؤرخين الذين تناولوه لم يوفوه حقة من البحث والتقييم والنقد المنهجي.

تناول فانتيني رسالة ملك مقرة إلى البطرك (رقم 1) وأوضح أن ملك نوباديا كان يمنع مبعوثي البطريك إلى ملك المقرة ومبعوثي ملك المقرة إلى مصر من المرور عبر أراضيه" وعلق على ذلك قائلاً: ونستنتج من هذا أن مملكة نوباديا ما زالت مستقلة من ملك دنقلة في زمن البطرك المذكور" ففانتيني يقرر أن مملكة نوباديا كانت لا نزال موجودة حتى عصر البطرك إسحاق الذي تولى منصبه عام 67هـ أي بعد مضي ستة وثلاثين سنة من حرب عبد الله بن سعد. ورغم ذلك يقول فانتيني "سار عبد الله بن سعد إلى النوبة عام652 إلى دنقلا رغم المقاومة الشديدة من النوبة، ودار القتال العنيف على ضواحي مدينة دنقلا"
أما مصطفي محمد مسعد فلم يقبل ما كتبه أبا منا لأنه كما قال" اعتماد هذا الرأي على المصادر القبطية وحدها لا يعد دليلاً كافياً على صحته" وهذا هو ما قصدته من القول بأن المؤرخين لم يهتموا بهذا النص ويوفوه حقة من البحث والتقييم والنقد المنهجي.
وأضاف مسعد أن ما ذكره أبا منا "لا يتفق وما جاء في عقد الصلح سنة 652" أي أنه بنى رأيه على ما ورد في نص المقريزي. وكلك فعل كراوفورد وكيروان وآركل ووليام آدمز وكذلك فعلت الغالبية العظمى من المؤرخين فأصبح اتحاد المملكتين قبل حرب عبد الله بن سعد من المسلمات التي لا تتطلب النقاش أو البحث.

وقد أبدى بعض المؤرخين شكه صراحة في مصداقية بنود هذا الصلح الذي ذكره المقريزي كما فعل فانتيني نفسه (فانتيني، تاريخ المسيحية. (صفحات 69، 71، 74-75) وتناول بعض المؤرخين هذا الرأي بحذر مثل آركل Arkell, p 186)) الذي يقول على سبيل المثال "من الممكن أن تكون مملكتا نوباديا ومقرة اتحدتا في أمام خطر الغزو العربي عام 21 هـ / 642م" ويقول أيضاً: "ويبدو أن عبد الله بن سعد غزاهم عام 31 هـ/ 652 م وجد أن كل البلاد من أسوان إلى حد مملكة علوة تحت حكم ملك واحد" ويلاحظ تعبير آركل جاء في النص الأول " من الممكن" وجاء في النص الثاني "ويبدو أن عبد الله" أي أن وحدة المملكتين من الممكن أو ربما تمت قبل حرب عبد الله، وهذا حكم ظني غير قاطع.
وهنالك قلة من المؤرخين مثل مونري دي فلارد وعلى عثمان محمد صالح عارضوا ما ورد في نص المقريزي من أن عبد الله بن سعد حارب مملكة مقُرة، وقرروا أن الحرب كانت مع مملكة نوباديا، أي أن مملكة نوباديا كانت لا تزال موجودة ومستقلة عن مملكة مقُرة.

ويوجد نصان عربيان يؤكدان مارد ورد في النصوص القبطية أحدهما للمسعودي يوضح أن عبد الله بن سعد حارب علم 31ه/ 51-652 م ملك مملكة مريس وعقد معه الصلح. والنص الآخر لابن حوقل يوضح أن معركة عبد الله بن سعد علم 31ه/ 51-652 م كانت في منطقة أسوان، أي أنه لم يصل دنقلة. وقد تناولت هاذين النصين في اكتاب الوعي بالات وتأصيل الهوية ج 2 ص44 وج 3 ص 26 – 37، كم سيتم الرجوع إليهما في الطبعة الثانية من كتاب مراجعات في تاريخ السودان.

المراجـع
 ابن البطريق، تاريخ ابن البطريق، طبعة أوربية للمخطوط مع ترجمة لاتينية 1658. طبعت أكسفورد المخطوطة 59-1858.
 ساورس بن المقفع، تاريخ بطاركة الإسكندرية في مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية
 فانتيني، جيوفاني، المسيحية في السودان، جامعة أم درمان الأهلية: مركز محمد عمر بشير 1998.
 القلقشندي، صبح الأعشى موقع الوراق.
 مصطفى محمد مسعد، المكتبة السودانية العربية، الخرطوم: مطبوعات جامعة القاهرة فرع الخرطوم 1972
 مصطفى محمد مسعد، الإسلام والنوبة في العصور الوسطى، القاهرة: مكتبة الانجلو المصرية 1960.
 المسعودي، مروج الذهب، موقع الوراق،
 المقريزي، تاريخ الأقباط المعروف بالقول الابريز، تحقيق عبد المجيد دياب، دار الفضيلة ب. ت

 Abba Mina, (1931) “Life of Isac” In Vantini, Oriental Sources Concerning Nubia,
 Henderson, K. D. D. "Nubian Origin" Sudan Notes and Records, Vol. 14, part 1.
 Hillson, s. "Nubian Origins" Sudan Notes and Records. Vol. 13 Part 1 (1930) p 137 – 138.
 Hendrickx, Bebjamin, 2019, “Was king Merkourios (696-710) an African new Constantine the Unifier of the kingdom and the Churches of Makouria and Nobadia? A re-examination an alternative Suggestions” Pharos Journal of Rheology ”ISSN 2414-3324 Online Volume
 Samia Bashir Dafa'la, (1989) "Distribution and Migration of the Nubian Tribes During the Meroitic and X-Group period" BzS,4
 Vantini, Giovanni Oriental Sources Concerning Nubia, Warsaw. 1975.  

مقالات مشابهة

  • قتلى دروز وتأهب إسرائيلي.. شفق نيوز تسرد الرواية الكاملة لأحداث صحنايا السورية
  • القومي للمرأة يهنئ بطلتي مصر بعد تتويجهما بثلاث ميداليات في كأس العالم للجمباز
  • شاهد | من “الإنزلاق” إلى “الإنعطافة الشديدة”.. الرواية الأمريكية في مأزق جديد
  • نصوص قبطية حول اتحاد مملكتي نوباديا (مريس) والمقرة
  • مرة تغلبني الكتابة
  • ورشة حول الكتابة الصحفية بالجامعة القاسمية
  • المركز الوطني للمنشآت العائلية ينظم منتدى الأعمال للشركات العائلية في أبوظبي
  • اكتشاف مستعمرة ضخمة في البحر الأحمر تتجاوز الـ 800 عام.. إيه الحكاية؟
  • محافظ أسوان يتفقد مشروع لخدمة أهالى قرية غرب سهيل النوبية
  • أبوظبي للكتاب يناقش دور الحكاية العربية في السينما العالمية