لم يكن مؤتمر لندن حول السودان مجرّد فعالية دبلوماسية تُنظم بحكم العادة، بل ظهر كعلامة فارقة تُعيد مساءلة المنظور الدولي تجاه حربٍ تُنهك البلاد وتُعيد تركيب المجتمع والدولة بعنف. تتجاوز دلالاته البيان الختامي والإجراءات المعلنة لتلامس جوهر الأزمة: كيف يُعاد تشكيل السودان، ومن يملك حق الحديث باسمه؟

انحرف المؤتمر بوعي عن منطق المفاوضات الكلاسيكية الذي يحتفي بالأطراف المسلحة باعتبارهم وكلاء الحل.

هذا الانزياح – بإزاحة الجنرالات من مركز الطاولة وتقديم المدنيين كمخاطَبين – يُمكن قراءته بوصفه فعلاً أخلاقيًا بقدر ما هو موقف سياسي، يُقرّ بفشل أدوات النظام الدولي ويُعلن الحاجة إلى هندسة جديدة لمداخل الحل. البيان المشترك، على الرغم من محدوديته، لم يطرح حلولاً بقدر ما طرح سؤالاً مؤرقًا: ماذا يعني الصمت في مواجهة الحرب؟ كان أقرب إلى مرآة تُواجه بها الدول نفسها قبل أن تُخاطب الأطراف السودانية.

النص الذي يُحلل المؤتمر يُدين بجرأة الاصطفافات الداخلية، لا سيما القوى المدنية التي استبطنت خطاب الدولة الأمنية، وتماهت مع فكرة "الأولوية للجيش" كشرط لبناء الدولة. في المقابل، لا يتوانى عن فضح استراتيجيات النظام القديم – الكيزان – الذين يتقنون فن الظهور كأوصياء على الوطنية بينما يُراكمون أسباب الفوضى. الأكثر خطورة هو تعرية المشهد الإقليمي: فشل مصر والسعودية والإمارات في التوافق داخل المؤتمر ليس خلافًا في وجهات نظر، بل تعبير صريح عن تورط بنيوي في استمرار الحرب. ما يُعرض كعجز دبلوماسي هو في جوهره تواطؤ مع منطق الانهيار.

يحاول المؤتمر – وفق التحليل – استعادة المعنى من ركام الدم. ليس عبر وعود كبرى، بل من خلال فرض خطاب جديد يُعيد الاعتراف بالضحايا، لا كمادة إعلامية، بل كقضية سياسية أخلاقية. ما طُرح من دعم مالي، وإن بدا هزيلاً أمام حجم الكارثة، كان بمثابة إزاحة للصمت الدولي، وتمرد ضمني على تقاليد التحفظ الدبلوماسي الذي يساوي بين القاتل والضحية. التمرد الرمزي هنا لا يتجسد فقط في شكل المؤتمر، بل في اللغة التي استخدمها، والتي تجرأت على تفكيك خطابات السيادة والسلام كما تُروجها القوى المتحاربة: سيادة البرهان فوق الجثث، وسلام حميدتي وسط المجازر.

ردود الفعل على المؤتمر كشفت هشاشة الخطاب الوطني المسيطر. الاتهامات بالعمالة والتبعية للغرب لم تكن سوى إعادة إنتاج لآلية الشيطنة التي تستهدف أي صوت يخرج عن نسق العسكرة. الهجوم على المؤتمر يعكس عمق الاستقطاب، لا بين الأطراف المتحاربة، بل داخل البنية المدنية نفسها، حيث يُستخدم الشباب كوقود في حرب الرموز والتمثيلات. ما يسميه النص لعبة المرايا هو تفكيك بالغ الدقة لديناميكية الغضب: كيف يتم الاستحواذ على الاحتجاج المشروع، وتوجيهه ضد كل محاولة للخروج من دائرة العنف، ليُعاد إنتاج القهر ذاته بلغة وطنية زائفة.

أهم ما يُميز التحليل هو إدراكه لحدود الرمزية، دون السقوط في اليأس. نعم، المؤتمر لا يكفي، لكنه يفتح نافذة في جدار الصمت. ليس بصفته حدثًا فاصلًا، بل كمحاولة لترسيخ لغة جديدة تُعيد السودان إلى مركز الاهتمام الإنساني لا بوصفه ملفًا أمنيًا، بل كقضية تستدعي رؤية للتحول. السؤال الذي يختم به النص لا يخاطب المجتمع الدولي فحسب، بل الشعب السوداني نفسه: هل سنظل نُعيد إنتاج أدوارنا كمرآة لصراعات الآخرين، أم نملك الجرأة على اختراع مسار جديد يُقصي العسكر والميليشيات من صياغة المصير؟

في نهاية المطاف، لا يدور الصراع فقط حول الأرض والسلاح والسلطة، بل حول اللغة ذاتها. مؤتمر لندن، في رمزيته، يُجسد محاولة لانتزاع اللغة من فم العسكر، وإعادتها إلى الناس. لكنها معركة لم تُحسم بعد. وحده الفعل المدني الجريء، المقرون بخطاب واعٍ ومتماسك، يمكنه تحويل هذا التمرد الرمزي إلى نقطة انطلاق لمسار إنقاذ حقيقي.

zuhair.osman@aol.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الذی ی

إقرأ أيضاً:

مؤتمر الأمراض الجلدية الأول يدعو للارتقاء بمستوى الرعاية

أوصى المشاركون في مؤتمر الأمراض الجلدية الأول بمحافظة شمال الشرقية بضرورة الارتقاء بمستوى الرعاية الجلدية في المؤسسات الصحية، وذلك من خلال استخدام التقنيات الحديثة في التشخيص والعلاج. كما شددوا على أهمية تعزيز التعاون بين القطاعات الصحية المختلفة باتباع البروتوكولات العلاجية العالمية.

شهد المؤتمر الذي نظّمته المديرية العامة للخدمات الصحية بمحافظة شمال الشرقية مشاركة نخبة من الاستشاريين والمختصين في مجال الأمراض الجلدية من مختلف المؤسسات الصحية في سلطنة عُمان.

وقد هدف المؤتمر إلى تعزيز الكفاءة المهنية للعاملين في القطاع الصحي من خلال مناقشة أحدث المستجدات الطبية والبروتوكولات العلاجية في طب الجلد. كما تم تبادل الخبرات حول المستجدات في هذا المجال، وكيفية انعكاس ذلك على تنمية مهارات التشخيص والعلاج.

كما تمت إتاحة الفرصة لعرض أحدث منتجات الأدوية والأجهزة الطبية المتعلقة بالجلد والتجميل من قبل شركات الأدوية والأجهزة الطبية. كما تم تسليط الضوء على التداخلات الدوائية وأدوار الصيدلة والتمريض في بيئة الرعاية الصحية الأولية.

وشهد المؤتمر تقديم عدد من أوراق العمل التي تناولت مجموعة من الموضوعات البارزة، منها المستجدات في علاج الأمراض الجلدية، وسرطانات الجلد، والمستجدات الدوائية. كما تم استعراض حالات محلية للأمراض الجينية الجلدية، إضافة إلى الأشكال الجلدية للأمراض الباطنية ومرض نقص المناعة المكتسب.

ومن بين الموضوعات التي تمت مناقشتها دور ميكروبات القولون في الأمراض الجلدية، والمتناقضات في طب التجميل الجلدي، بالإضافة إلى الأمراض الجلدية عند الأطفال.

مقالات مشابهة

  • انطلاق أعمل "مؤتمر نادي جراحات السمنة الدولي" في نزوى
  • «مؤتمر السمنة» بنزوى يناقش تحسين نتائج الجراحات
  • مؤتمر الأمراض الجلدية الأول يدعو للارتقاء بمستوى الرعاية
  • السودان: المُسيّرات التي استهدفت عطبرة حديثة وفّرتها للمليشيا راعيتها الإقليمية
  • من أشعل الحرب في السودان؟ ما الذي حدث قبل 15 أبريل؟
  • 700 متخصص.. انطلاق مؤتمر الإمارات لأمراض الدم وأورام الأطفال
  • ابن كيران: وفد حماس لم يحصل على التأشيرة لدخول المغرب 
  • اتفاق المنامة السوداني الذي يتجاهله الجميع
  • أبرز محطات الكهرباء التي تعرضت للاستهداف في السودان
  • كلما انهزمت المليشيا وأضطرت إلى الإنسحاب نحو الثقب الذي أطلّت منه نحو السودان