تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في المشهد الروائي العربي، تتلاشى الحدود بين الواقعي والسحري، بين التأريخ والتخييل، وبين الحنين والتمرد. لكن قلما وُجد كاتب قادر على ترويض هذه العناصر كلها في آنٍ، ليجعل من المدينة بطلةً لا تُنسى، ومن الذاكرة مادةً سرديةً، ومن الرواية شراشف رقيقة تغطي جسد الحقيقة العاري. إبراهيم عبد المجيد هو هذا الكاتب النادر الذي يمكن اعتباره آخر حكاواتية الإسكندرية، لكنه ليس فقط كاتبًا لمدينة؛ بل هو كاتب لفكرة المدينة، لكيمياء التحوّل، ولسوسيولوجيا الانكسار.

ولد عبد المجيد عام 1946 في الإسكندرية، المدينة التي ستتحوّل لاحقًا إلى بطلة تتكرر في معظم أعماله، وتتحول إلى أسطورة لها ملامح إنسانية ومزاج شعري خاص. لكن نشأته لم تكن فقط على البحر، بل في حضن الثقافة: درس الفلسفة، وعاش طويلًا في رفقة الكتب، متتلمذًا على يد الحياة مثلما تتلمذ على يد نيتشه ودوستويفسكي وطه حسين. هذه الخلفية المعرفية والفلسفية جعلت من أعماله ليست فقط لوحات بصرية آسرة، بل أسئلة وجودية معلّقة.

تشكل "ثلاثية الإسكندرية" – لا أحد ينام في الإسكندرية، طيور العنبر، الإسكندرية في غيمة– مشروعًا سرديًا ضخمًا يضاهي في طموحه مشاريع كبار الأدباء العالميين. في هذه الروايات، لا تُروى المدينة بقدر ما تُستحضر روحها. يسير القارئ في شوارعها القديمة، يسمع ضحكات بحّارتها، ويشمّ رائحة البحر ممزوجةً بعبق الخيبات. لكنها ليست فقط حكاية عن مدينة، بل عن وطن كامل يُعيد تشكيل نفسه وسط الحرب، الاستعمار، والتغيرات الاجتماعية الكاسحة.

الإسكندرية، في أدب عبد المجيد، ليست صورة فوتوغرافية، بل كائن حي: تمرض، تشتاق، تذبل، ثم تقاوم. إنها الأم والعشيقة، وهي في الوقت نفسه الجثة التي يُعاد دفنها في كل رواية، والطفلة التي تولد كل صباح.

في رواياته الأخرى مثل البلدة الأخرى وفي الصيف السابع والستين، يتجه عبد المجيد إلى الغوص في الطبقات العميقة للذات المصرية، والعربية، حيث تتقاطع السياسة مع الحب، والذنب مع الخلاص. يكتب عن الهزيمة لا بوصفها حدثًا سياسيًا، بل كحالة وجودية: الهزيمة في الحب، في الثورة، في التاريخ، وفي الحلم.

عبد المجيد ليس معنيًا بالبنية التقليدية للرواية، بل بالأثر الذي تتركه، بالرعشة التي تحدثها. لذا فإن أسلوبه يتسم بحرية شعرية، وانسياب لغوي يجعل من كل جملة مدخلًا إلى عالم كثيف، مشبع بالدهشة والأسى.

ربما ما يميز إبراهيم عبد المجيد عن كثير من مجايليه، أنه لا يكتب ليحكي فقط، بل ليحاور، يتأمل، ويقترح بدائل. رواياته أقرب إلى الفلسفة الشعرية، وإلى ما يمكن تسميته بـ"التأمل الروائي". لا يخاف من الاقتراب من البديهيات ومساءلتها: ما المدينة؟ ما الحب؟ ما الذاكرة؟ ما الفقد؟ أسئلته ليست إجابات مقنّعة، بل أبواب مفتوحة على مزيد من الحيرة.

إبراهيم عبد المجيد ليس فقط كاتبًا يُقرأ، بل يُعاش. تدخل عوالمه كما تدخل حلمًا لا تود الاستيقاظ منه. هو كاتب الغيوم، وناقل الحنين، وحارس المدينة التي ما عادت تشبه نفسها.

لقد كتب عبد المجيد عن مدن تتبخر، عن أحلام تُنسى، وعن بشرٍ يتحولون إلى أطياف. لكنه، رغم كل ذلك، يظل يكتب. كأن الكتابة هي الطريقة الوحيدة لنجاة الروح. وكأن الرواية، كما يراها، ليست حكاية تُحكى، بل طريقة للبقاء.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: إبراهیم عبد المجید کاتب ا

إقرأ أيضاً:

عبد السلام فاروق يكتب: قاسم أمين .. مشروع لم يكتمل !

في الثالث والعشرين من أبريل عام ١٩٠٨، رحل قاسم أمين، تاركًا خلفه إرثًا فكريًا يعتبر حجرًا أساسًا في مشروع النهضة المصرية. إن ذكرى رحيله ليست مجرد استعادة لسيرة رجل، بل هي إعادة تقييم لمسار ثقافي طموح، حاول أن يربط بين تحرير المرأة وتحرير الوطن، في زمن كانت فيه مصر تتأرجح بين استحقاقات الحداثة وثقل التقاليد.  

التاريخ والسياق: حين تصبح المرأة مقياسًا لتقدم الأمة  

ولد قاسم أمين في حقبة اتسمت بصراعٍ بين المشروع الاستعماري والرغبة في التحرر، وبين النزعة التقليدية ورياح التحديث. هنا، انبثقت أفكاره كجزء من حركة "النهضة" العربية، التي رأت في التعليم والإصلاح الاجتماعي مفتاحًا للخروج من التخلف. لم يكن أمين منظرًا منعزلًا، بل كان ابنا لرواد مثل محمد عبده، لكنه تميز بجرأة طرحه لقضية المرأة، معتبرًا أن "تقدم الأمم يقاس بمدى تقدم نسائها". في كتابيه "تحرير المرأة" و"المرأة الجديدة"، دعا إلى تعليم المرأة، وإصلاح التشريعات التي تكرس دونيتها، معتبرًا ذلك شرطًا لبناء مجتمع قادر على المواجهة الحضارية.  

بين التحرير والاغتراب: إشكالية النموذج الغربي  

لا ينكر المرء تأثر أمين بالخطاب الليبرالي الأوروبي، خاصة خلال دراسته في فرنسا، لكن قراءة نقدية لإرثه تظهر أنه سعى لـ"توطين" الحداثة، لا استنساخها. لقد رأى أن تحرير المرأة ليس تقليدًا للغرب، بل استعادة لدورها التاريخي في الحضارة الإسلامية، التي كانت -بحسبه -أكثر إنصافًا لها من الممارسات الاجتماعية في عصره. لكن يظل السؤال: هل كانت رؤيته نخبوية، محدودة بأفق طبقته؟ أم أنها خطوة ضرورية في سياق لم يكن يسمح بغير ذلك؟  

جامعة القاهرة: الفكر كمشروع مؤسسي  

لم تكن دعوات قاسم أمين مجرد شعارات؛ فقد كان أحد المؤسسين لجامعة القاهرة (١٩٠٨)، التي مثلت آنذاك حلمًا بتعليم يحرر العقل من الجمود. هنا، يتجلى ارتباطه العضوي بين الفكر والممارسة؛ فالتعليم - في نظره -أداة لتخريج جيل قادر على حمل لواء الإصلاح. ورغم رحيله المبكر قبل اكتمال المشروع، فإن الجامعة أصبحت رمزًا لتحالف العلم مع الوطنية.  

التراث بين التقديس والتفكيك!  

يأتي كتاب "تراث قاسم أمين" (إعداد عبد المنعم محمد سعيد، وتقديم المؤرخ الدكتور محمد صابر عرب  وزير الثقافة الأسبق ) ليعيد إحياء هذا الإرث، ليس كـ "نصب مقدس"، بل كمادة للحوار. فالنقد اليوم لأفكار أمين يجب أن ينطلق من فهم سياقها التاريخي، دون إسقاطات معاصرة جائرة. فإذا كان بعض النقاد يرون في خطابه تبنيا لمركزية غربية، فإن آخرين يذكرون بأنه - ككل رواد النهضة - كان يعاني من إشكالية التوفيق بين الأصالة والمعاصرة، وهي إشكالية لا تزال تلاحقنا.  

اليوم، وبعد أكثر من قرن، لا تزال معركة تحرير المرأة - بكل تعقيداتها - مستمرة. فإذا كانت مصر قد قطعت أشواطًا في تعليم المرأة ومشاركتها السياسية، فإن قيودًا اجتماعية وقانونية ما تزال تذكرنا بأن مشروع أمين لم يكتمل. إن إعادة قراءته ليست استعراضًا للماضي، بل دعوة لاستئناف النقاش: كيف نحدث خطاب الإصلاح دون قطيعة مع الهوية؟ وكيف نصنع حداثةً لا تستورد حلولها جاهزة، بل تستلهمها من حوار حر بين التراث والواقع؟  

هكذا يكون قاسم أمين - ككل المتنورين - حاضرًا في أسئلتنا، غائبًا عن إجاباتنا النهائية.

بين الحلم والواقع

لا تكتمل قراءة إرث قاسم أمين دون الغوص في التناقضات التي أحاطت بخطابه، والتي تجعله مرآة لعصر بأكمله. فإذا كان أمين قد حمل لواء تحرير المرأة، فإن سؤالًا جوهريا يظل عالقا: هل كان تحرير المرأة - في فكره - مشروعًا اجتماعيا شاملًا، أم مجرد أداة في معركة أوسع ضد الاستعمار وتخلف المجتمع؟ هنا تبرز ثنائية طالما لازمت خطاب النهضة: التحرير كغاية، أم كوسيلة؟  

الثورة الهادئة

لم يكن تعليم المرأة - في منظور أمين - مجرد حق فردي، بل آلية لـ"إنتاج أمهات واعيات"، قادرات على تربية أجيال وطنية مناضلة. هذا الطرح يظهر إحدى الإشكاليات الكبرى في خطابه: فهو من ناحية يدعو لخروج المرأة من القيود، لكنه من ناحية أخرى يقيد دورها بـ"وظيفة أمومية" تخدم المشروع الوطني. أليس في هذا تناقض بين تحرير المرأة كذات مستقلة، واستعادتها كأداة في مشروع الذكورة الاجتماعي؟ يبدو أن أمين- كمعظم رواد عصره -وقع في فخ "الحداثة المقيدة"، حيث التحرير مشروط ببقاء الهياكل التقليدية للأدوار الاجتماعية.  

الاستعمار والخطاب النسوي: تشابك تاريخي  

لا يمكن فصل دعوات أمين عن السياق الاستعماري الذي عاش فيه. فالبريطانيون - آنذاك - روجوا لصورة "المجتمع المصري المتخلف" الذي يقهر المرأة، كتبريرٍ أخلاقي لاحتلاله. هنا، تحولت قضية المرأة إلى ساحة صراعٍ بين خطابين: خطاب استعماري يسيء استخدام الدعوة للتحرير كأداة هيمنة، وخطاب وطني يرفض التدخل الأجنبي لكنه يتبنى إصلاحًا داخليا. في هذا السياق، كان أمين يحاول المشي على حبل مشدود: انتقاد التقاليد دون الوقوع في أحابيل الخطاب الاستشراقي، والدعوة للتحرير دون إضفاء شرعية على المستعمر.  

الدين والاجتهاد: حدود الإصلاح في فكر النهضة  

على عكس ما يتصور، لم يكن أمين منفصلًا عن السياق الديني؛ فقد استند في حججه إلى اجتهادات إسلامية، معتبرًا أن التشريعات المجحفة بحق المرأة -مثل تعدد الزوجات - ليست من صميم الدين، بل نتاج عصور الانحطاط. لكن سقف اجتهاده ظل محكومًا بحدود عصره: فلم يطالب - مثلًا - بمساواة كاملة في الميراث، أو بإلغاء تعدد الزوجات جذريًّا، بل دعا لتقييده بشروط. هذا الموقف يطرح إشكالية العلاقة بين الفكر التنويري والمرجعية الدينية: هل كان أمين يؤمن بإمكانية التوفيق بينهما؟ أم أنه اضطر لاستخدام لغة الدين كـ"ورقة تبرير" لتقبل أفكاره في مجتمع محافظ؟  

التراث النقدي: كيف قرأ اللاحقون سابقيهم؟  

يقدم كتاب "تراث قاسم أمين" - كما حرره عبد المنعم محمد سعيد - فرصة لإعادة اكتشاف الرجل خارج إطار التمجيد أو الإدانة. فالنقاشات المعاصرة حوله تكشف انقسامًا بين من يرونه "بطلًا تأسيسيًّا" للنسوية العربية، ومن يتهمونه بتكريس النموذج الذكوري تحت غطاء التحرير. لكن هذه القراءات - برأيي - تفتقد للسياق التاريخي: فالأفكار لا تقاس بمعايير عصر لاحق، بل بمدى تقدمها النسبي على عصرها. صحيح أن خطاب أمين لم يخل من ثغرات، لكن جراءته في فتح ملف شائك - كالمرأة - كانت خطوة جريئة نحو تفكيك المُسَلَّمات.  

المرأة اليوم: من تحرير الحقوق إلى تحرير الخطاب  

بعد أكثر من قرن، نجد أن معركة أمين لم تنته، بل تحولت أشكالها. فمصر -رغم إنجازاتها في تعليم المرأة - لا تزال تعاني من فجوات قانونية وثقافية، مثل التحرش الجنسي، والتمييز في العمل، وخطاب الكراهية الذي يحاصر المرأة في الفضاء العام. يدفعنا هذا إلى التساؤل: هل كان فكر أمين - بتركيزه على التعليم والقانون - قاصرًا عن رؤية التعقيدات الاجتماعية التي تعيق التحرير الحقيقي؟ أم أن المشكلة تكمن في أن خطاب الإصلاح ظل حبيس النخب، دون أن يتحول إلى حركة شعبية جذرية؟  

التنوير مشروع دائم  

في النهاية، يبقى قاسم أمين رمزًا لإشكالية أكبر من شخصه: إشكالية المثقف التنويري في المجتمعات التي تتصارع فيها الهويات. فكما قال ماركيز: "الحياة ليست ما يعيشه المرء، بل ما يتذكره وكيف يتذكره ليحكيه". لذا، فإن إعادة قراءة أمين اليوم ليست استعادة للماضي، بل محاولة لفهم كيف يمكن أن نستلهم جرأة السؤال في عصرنا، دون أن نقع في فخاخ اليقين المطلق.  

إن تحرير المرأة - في عمقه - ليس قضية نسائية فحسب، بل قضية مجتمعٍ بأكمله؛ فما لم يتحرر الرجل من صورة "السيد" التي صنعتها التقاليد، وما لم تتحرر المؤسسات من هيمنة الخطاب الذكوري، ستظل دعوات التحرير - بكل أشكالها - ناقصة. وهنا يبرز سؤال أمين الخالد: كيف نصنع حداثتنا دون أن نكون ظلالًا لغيرنا؟

طباعة شارك قاسم أمين تحرير المرأة المرأة المصرية

مقالات مشابهة

  • عبد السلام فاروق يكتب: قاسم أمين .. مشروع لم يكتمل !
  • سامح قاسم يكتب | فتحي عفيفي.. رسّامُ الغبار النبيل
  • سامح قاسم يكتب | غادة نبيل.. ظلال شاعرة لا تُسمّي نفسها
  • سامح قاسم يكتب | ما لا تقوله القصيدة.. تقوله عبلة الرويني
  • سامح قاسم يكتب | فتحي عبد السميع.. الكتابة من الجهة التي لا يلتفت إليها الضوء
  • سامح قاسم يكتب | عزت القمحاوي.. بين ترويض اللغة وترويض الحياة
  • سامح قاسم يكتب | مجدي أحمد علي.. عينٌ على المدينة وقدمٌ في الحلم
  • سامح قاسم يكتب | ضي رحمي.. أن تترجم لتكون القصيدة قلبك الآخر
  • سامح قاسم يكتب | رنا التونسي.. شاعرة الحافة التي تنزف جمالًا
  • سامح قاسم يكتب | محمود الورداني.. صائد الخسارات النبيلة