ابن ميمون وابتهال أبو السعد: حكايتان في مواجهة سلطة واحدة
تاريخ النشر: 17th, April 2025 GMT
واقعة صائغ مرو وأبي مسلم الخراساني
تروي عدة مصادر في التاريخ الإسلامي واقعة ذات دلالات أخلاقية عميقة، تمثل نموذجًا عمليًا للإشكالات المتعلّقة بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الإسلام.
بطلا هذه الحادثة هما: إبراهيم بن ميمون، المعروف بـ "صائغ مرو" (ت. 131هـ/749م)، الذي عدّه البعض من فقهاء الحنفية، وقدّمته المصادر التاريخية على أنه رجل ورِع وملتزم بأداء الشعائر، حتى إنه كان إذا سمع الأذان رمى بمطرقته وبادر للصلاة؛ وأبو مسلم الخراساني (ت.
كان صائغ مرو من جلساء أبي مسلم في بدايات الدعوة العباسية، وقد وعده الأخير – آنذاك – بإقامة العدل متى استتب له الأمر. غير أن أبا مسلم، بعد أن اشتد سلطانه واستقرّت له الأمور في خراسان، تنكّر لتلك الوعود، وانتهج طريق الشدة وسفك الدماء.
ومع مرور الوقت توترت العلاقة بين الرجلَين، وظل الصائغ يلحّ على أبي مسلم بالوفاء بعهده، غير أن هذا الأخير كان يصده ويقول له: "انصرف إلى منزلك، فقد عرفنا رأيك". فلما يئس الصائغ من استجابته، اختار المواجهة الجريئة، وتهيّأ للموت؛ فتحنّط وتكفّن، فأتاه وهو في مجمع من الناس فوعظه وكلّمه بكلام شديد، فأمر به أبو مسلم فقُتل.
إعلاناسترشادًا بما يُنسب للإمام الشافعي من قوله "من قرأ التاريخ زاد عقله"، سنعود إلى هذه الواقعة في ثنايا هذا المقال لتوضيح بعض التفاصيل والإشارة إلى الدروس المستفادة من تاريخ الصراع الأخلاقي بين أصحاب المبادئ وأهل السلطة والنفوذ.
واقعة ابتهال أبو السعد في حفل مايكروسوفت بمرور 50 عامًا على التأسيسابتهال أبو السعد، مهندسة ومبرمجة مغربية وُلدت عام 1999، وتخرّجت في جامعة هارفارد الأميركية بعد حصولها على منحة دراسية. التحقت للعمل بشركة مايكروسوفت العالمية عام 2022، حيث عملت في قسم الذكاء الاصطناعي، كما شاركت في الفريق الذي كلفته مايكروسوفت بتطوير تقنيات تُستخدم في مجالات مثل المراقبة والتحليل البياني.
يبدو من المعلومات المتاحة على الشبكة العنكبوتية أن الجانب الأخلاقي والقيمي لابتهال كان حاضرًا وفاعلًا في مراحل حياتها المختلفة، حيث تجسّد ذلك في مساهماتها في مشاريع ومبادرات اجتماعية تهدف إلى رعاية الفئات الضعيفة والمهمّشة عندما كانت طالبة في المرحلة الثانوية.
واستمرّ هذا الاهتمام بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة الأميركية، حيث التحقت ببرنامج يسعى لمحو الأمية الرقْمية، وأسهمت في تأسيس منصة رقمية تعنى بحفظ وتوثيق السجلات الطبية الرقمية للاجئين حول العالم.
وبالتالي، نحن أمام شخصية لها اهتمامات وانشغالات أخلاقية، لم تفارقها أثناء رحلتها سعيًا وراء التفوق الدراسي والنجاح المهني، مما يذكرنا بحال صائغ مرو الذي كان لا يشغله عمله وحِرفته عن التمسك بقيمه التي يؤمن بها والتزامه بشعائر دينه.
ويبدو كذلك من المعلومات المتاحة أن علاقة ابتهال بشركة مايكروسوفت كانت إيجابية ومبشّرة في بداياتها، كما كان الحال في بداية العلاقة بين صائغ مرو وأبي مسلم الخراساني.
فقد استبشرت خيرًا بأن عملها في عملاق مثل مايكروسوفت سيقرّبها من تحقيق المثال المنشود بتسخير التكنولوجيا لتحقيق الخير والنفع للناس (technology for social good)، وهو مبدأ يتردّد كثيرًا في الخطاب العام لكبار مديري شركات التكنولوجيا العملاقة، وسوف تشير ابتهال إليه لاحقًا في معرض اعتراضِها على الشركة بعد أن ساءت العلاقة بين الطرفَين.
إعلانبعد أكثر من ثلاث سنوات من العمل في شركة مايكروسوفت، بدأت وتيرة اعتراضات ابتهال تتصاعد تدريجيًا. وقد حرصت في البداية على إيصال رسائلها عبر قنوات داخلية بقيت حبيسة أروقة الشركة ولم تخرج للعلن.
لكن في احتفال مايكروسوفت بالذكرى الـ50 لتأسيسها، كان قد "بلغ السيل الزُّبى"، كما يقال، فقامت ابتهال بمقاطعة كلمة المدير التنفيذي لقطاع الذكاء الاصطناعي في الشركة مصطفى سليمان (البريطاني ذي الأصول السورية) وذلك أمام جمهور ضمَّ مؤسس مايكروسوفت، بيل غيتس، وعددًا من كبار الموظفين. ومرة أخرى تذكرنا الواقعة بمحاولات صائغ مرو لإصلاح سلوك أبي مسلم الخراساني دون جدوى، حتى اضطر إلى مواجهته علنًا أمام الملأ.
تقدمت مهندسة مايكروسوفت نحو المنصة، وهي تصرخ: "مصطفى، عارٌ عليك!" ثم تابعت: "تدّعي أنك تهتم باستخدام الذكاء الاصطناعي للخير(AI for good)، لكن مايكروسوفت تبيع أسلحة ذكاء اصطناعي للجيش الإسرائيلي.
خمسون ألف إنسان قُتلوا، ومايكروسوفت تغذّي هذه الإبادة الجماعية في منطقتنا!" ردّ سليمان: "شكرًا على احتجاجك، لقد سمعتك."، إلا أن ابتهال واصلت اعتراضها متهمة سليمان و"كل شركة مايكروسوفت" بأنهم مسؤولون، وقالت إن أيديهم ملطخة بالدماء. كما ألقت بكوفية فلسطينية على المنصة، في إشارة رمزية لدعم الشعب الفلسطيني، قبل أن يتم اقتيادها خارج القاعة.
تم تسجيل المواجهة عبر الهاتف من قِبَل بعض الحاضرين في الاحتفال، وانتشرت بعد ذلك كالنار في الهشيم على مواقع الإنترنت وتداولها روّاد وسائل التواصل الاجتماعي وتناقلتها مواقع إخبارية.
وقد أثارت الواقعة ردود فعل واسعة تضمّن جُلها إشادة بموقف ابتهال النبيل وشجاعتها. وجدير بالذكر أن تورط مايكروسوفت في تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي يعود إلى سنوات قبل التحاق ابتهال بها؛ إذ أعلنت مايكروسوفت عام 2018 عن انخراطها في مشروع عسكري مع وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون)، دون نكير يذكر من العاملين فيها في ذلك الوقت، بالرغم من احتجاج العديد من العاملين في هذا المجال بشركات أخرى، كما سنبين لاحقًا في هذا المقال.
إعلان ما تحت قمة جبل الجليد: تحديات أخلاقية كبرى في عالم يحكمه الذكاء الاصطناعيلا يمكن اعتبار واقعة المهندسة في مايكروسوفت، ابتهال أبو السعد، مجرّد حادثٍ عابر أو انفعالٍ لحظي، كما لا يستقيم حصره في سياق المجازر التي تُبثّ على الهواء من غزة، رغم أن قسوتها باتت تفوق قدرة كثيرين على المشاهدة، فضلًا عن المآسي التي يرزح تحتها الضحايا الأبرياء وعائلاتهم.
فهذه الواقعة تُمثل امتدادًا لقلق أخلاقي عميق تشترك فيه ابتهال مع شخصيات بارزة في المجال، ويتعلق بسلطة جديدة باتت تهيمن على عالم اليوم: سلطة شركات التكنولوجيا العملاقة ونفوذها المتنامي من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، حتى صارت تتحكم بالبشر، في محياهم ومماتهم، بل وفي الدول والحكومات التي يتزايد اعتمادها على هذه الشركات لتنفيذ أجنداتها ومآربها، الصالح منها والطالح.
هناك قائمة طويلة من المنذرين بمخاطر الذكاء الاصطناعي، والمنزعجين من المسار التنافسي المحموم بين عمالقة التكنولوجيا، والذين فقدوا وظائفهم المرموقة، طوعًا أو كرهًا، بسبب مواقفهم الأخلاقية.
يتصدر هذه القائمة جيفري هينتون (Geoffrey Hinton)، الحائز جائزةَ نوبل عام 2024 والمُلقب بـ"الأب الروحي للذكاء الاصطناعي". فقد استقال من منصبه في شركة غوغل عام 2023 ليتمكن من "التحدث بحرية عن مخاطر الذكاء الاصطناعي"، مشيرًا ضمنيًا إلى أنه لم يكن قادرًا، رغم منصبه الرفيع، على مناقشة هذه القضايا وهو داخل أروقة الشركة.
وقد عُرف هينتون بعد استقالته بانتقاداته العلنية لعدد من الشخصيات القيادية في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، وإيلون ماسك (Elon Musk)، أحد أبرز المستثمرين في هذا المجال.
ومن الأسماء البارزة أيضًا تيمنيت جيبرو (Timnit Gebru)، والتي أثار رحيلها عن غوغل في 2020 جدلًا واسعًا، إذ كانت تشغل منصب الرئيس التقني المشارك للفريق المسؤول عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي.
إعلانوقد بدأت الأزمة حينما كتبت تيمنيت ورقة بحثية تحذّر فيها من مخاطر النماذج اللغوية الضخمة (LLMs)، وبعد أخذ ورد مع إدارة الشركة التي سعت لعدم نشر البحث، قامت غوغل بإنهاء عقدها معلنة أنها قبلت استقالتها، في حين أكدت تيمنيت أنها لم تقدم استقالة رسمية، وإنما لوّحت بها فقط.
وفيما يتعلّق باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري تحديدًا، تعالت أصوات كثيرة من داخل كبرى شركات التكنولوجيا تصرّ على عدم أخلاقيته في المطلق، لا من زاوية سوء الاستخدام فحسب المتمثل في قتل الأبرياء، بل من منطلق مبدئي يرى أن الذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن يُزجّ به في ساحات الحروب بأي حال.
ومن الوقائع الشهيرة في هذا السياق، استقالة البعض، واحتجاج ما يزيد على 3100 موظف في شركة "غوغل" عام 2018 – بينهم عدد من كبار المهندسين – الذين وقعوا على رسالة داخلية يرفضون فيها انخراط الشركة في "مشروع مافن" التابع للبنتاغون، وهو برنامج تجريبي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور وتحسين دقة الضربات بالطائرات المسيّرة.
وجاء في الرسالة الموجهة إلى المدير التنفيذي للشركة: "نؤمن بأن غوغل لا ينبغي أن تكون جزءًا من صناعة الحروب". وطالب الموقّعون بانسحاب الشركة من المشروع، واعتماد سياسة معلنة تقضي بعدم تطوير أي تكنولوجيا ذات طابع عسكري مستقبلًا، مستشهدين بالشعار الذي تتبناه الشركة "لا تكن شريرًا "(Don’t be evil).
وقد رفض حينها عدد من المحتجين الإفصاح عن هوياتهم للصحافة، خشية التعرّض لإجراءات انتقامية. وتحت الضغوط المتزايدة لهذا الحراك الداخلي، أعلنت غوغل لاحقًا عدم تجديد عقدها في هذا المشروع.
عِبَر من التاريخلا يسعنا فهم سطوة أبي مسلم الخراساني بمعزل عن سياق التحول التاريخي الكبير، من دولة بني أمية في لحظة الأفول إلى دولة بني العباس في لحظة البزوغ. فقد كان الرجل بقدرته على البطش وبسط النفوذ، عنصرًا حاسمًا في تمكين الدولة العباسية الناشئة. بل تذكر كتب التاريخ أن نفوذه قارب، وربما تجاوز، نفوذ الخليفة العباسي ذاته في تلك الفترة. حتى إن أخاه، أبا جعفر المنصور، كتب إليه بعد زيارة له إلى خراسان ومعاينته نفوذَ أبي مسلم قائلًا: "لستَ خليفة ولا أمرك بشيء؛ إن تركت أبا مسلم ولم تقتله"، إلا أن الخليفة رفض أن يتعرض لأبي مسلم بسوء؛ خوفًا من المتاعب التي قد تنجم عن قتله، لا سيما أن الدولة الناشئة ما زالت بحاجة إلى جهوده وجنوده الذين كانوا يشكلون دعامة أساسية للدولة العباسية في ذلك الوقت.
إعلانوفي المقابل، نحن نعيش اليوم تحوّلات كبرى قد لا تترك آثارها حجرًا على حجر، ولا تستطيع دول وحكومات اليوم العيش دون مايكروسوفت وأخواتها من عمالقة التكنولوجيا، لا في السِلم ولا في الحرب.
وهناك مخاوف عبّر عنها مفكرون وساسة كبار، تلميحًا وأحيانًا تصريحًا، من أننا نتّجه تدريجيًا من عصر الدول والحكومات إلى عصر إمبراطوريات شركات التكنولوجيا العملاقة. حتى أنْ عبرت مرشحة الرئاسة الأميركية إليزابيث وارِن (Elizabeth Warren) عام 2019 وكأنها تقول بلسان حالها إننا لسنا دولًا ولا حكومات حقًا ولا نملك من أمرنا شيئًا إن تركنا هذه الشركات العملاقة على حالها.
فقد دعت إلى "تغيير هيكلي كبير"، وقامت حملتها الانتخابية بنشر دعاياتٍ مدفوعة الأجر مكتوبٍ عليها: "تفكيك الشركات التكنولوجية الكبرى"، بخط كبير.
صحيح أن واقعة صائغ مرو صاحب المبادئ لم تحمل نهاية سعيدة بانتصاره على خصمه صاحب النفوذ، حيث قُتل الرجل على يد أبي مسلم الخراساني، إلا أن إكبار الناس لشجاعته وصلابته في الحق والصدع بالنهي عن المنكر لم يمت في أذهانهم، بل صارت قصته مضرب المثل عند الكثيرين.
فتذكر كتب التاريخ أن قبره في مرو، بعد مرور زمن طويل على الواقعة، بقي معروفًا ومزارًا. وفي المقابل، قام أبو جعفر المنصور، بعد تولي الخلاقة، بقتل أبي مسلم الخراساني، في رمزية لانتقام الدولة ممن يحاول منافسة سلطتها ونفوذها.
ومهندسة مايكروسوفت لم تلقَ مصير صائغ مرو، فابتهال، ولله الحمد، لا تزال حية ترزق، تعيش بيننا وتمارس نشاطها بنشر فيديوهات تعبر فيها عن آرائها وتعليقها على هذه الواقعة.
بيدَ أنها قد فقدت وظيفتها، حيث قامت الشركة بفصلها عن العمل بعد الواقعة بأيام معدودة، بتهمة "سوء السلوك المتعمد، والعصيان، والإهمال في أداء الواجب!"
والعِبرة الأهم هنا هي ضرورة العمل الجماعي، وأن يتحمل كل منا مسؤوليته في هذا الظرف الدقيق، وعدم الاقتصار على تصفيقنا من بعيد للبطولات الفردية التي يواجه فيها أصحاب المبادئ أهل السلطة والنفوذ، ثم يَلفُهَا النسيان بعد فترة قد تطول أو تقصر. حيث يذكر أن صائغ مرو كان له نقاش مباشر مع الإمام أبي حنيفة حول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وطريقة إنكاره على أبي مسلم.
إعلانويروى أن أبا حنيفة قد نصحه قائلًا: "هذا أمر لا يصلح بواحد، ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء، وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض؛ لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده، وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه، وعرض نفسه للقتل، فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه، وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه".
فلا يسعنا أن نترك ابتهال وزملاءَها المخلصين فريسة لأنياب شركات التكنولوجيا العملاقة، دون أن يكتب علماء الأخلاق في تحليل هذه الظواهر وكشف سوءات هذه الشركات وأن يتضامن معها النابهون من زملائها المهندسين في هذا المجال، حتى تدرك هذه الشركات أنها ستخسر كفاءات مهمة إذا تخلت عن أبسط مبادئ احترام حياة الأبرياء.
ولا يمكن كذلك القَبول بخسارة وظائف مرموقة لابتهال وزملائها الذين يقومون بفريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عنا جميعًا بينما تُخصص المليارات من قِبل الدول العربية والإسلامية لشراء الأجهزة والاستثمار مع هذه الشركات، بل لا بدّ أن يجد أمثال ابتهال التقدير الواجب والمستحق.
وفي المقابل لا نقول بأن الذكاء الاصطناعي والشركات الرائدة فيه شر مطلق، وإنما الأمر في حاجة إلى حسن إدارة وتدبير حتى تدرك هذه الشركات أن إهمال القيم له تكلفة باهظة، وهذا لن يكون إلا بعمل جماعي، وأن يتم الإصرار على إيصال هذه الرسالة مرارًا وتكرارًا وبطرق مختلفة لهذه الشركات.
ويبقى السؤال معلقا حول سيناريوهات المستقبل الأكثر احتمالا: هل ينجح صائغ مرو في عصرنا، ابتهال وزملائها، في ترويض أبي مسلم الخراساني، متمثلا في شركات التكنولوجيا، بكفها عن الظلم والاستهانة بحياة الأبرياء وتطوير نسخة أفضل وأنفع للناس؟ وهل ستترك الدول والحكومات شركات التكنولوجيا العملاقة أن ترث منها السلطة والنفوذ، على ما بها من سوءات؟ أم أن تجربة أبي جعفر المنصور ستتكرر، عندما تخلص من أبي مسلم، عبر محاولات إليزابيث وارِن وأمثالها التي ربما تؤتي أكلها في نهاية المطاف؟ صدق الله تعالى إذ يقول في محكم كتابه: "قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ."
إعلانالآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات شرکات التکنولوجیا العملاقة الذکاء الاصطناعی ابتهال أبو السعد شرکة مایکروسوفت هذه الشرکات عن المنکر فی هذا
إقرأ أيضاً:
هذه أبرز وظائف المستقبل التي تنبأ بها الذكاء الاصطناعي
في عصر الذكاء الاصطناعي، لم يَعُد مستقبل الوظائف مجرد سيناريوهات مستقبلية أو تكهنات بعيدة، بل بات واقعًا يتشكّل بسرعة تفوق التوقعات. ما كان يُعتبر ضربًا من الخيال قبل سنوات، أصبح اليوم حقيقة مدعومة بأرقام وتقارير صادرة عن كبرى المؤسسات البحثية والتقنية.
الذكاء الاصطناعي لم يَعد يكتفي بأتمتة المهام الروتينية، بل بات يُعيد تشكيل سوق العمل من جذوره، ويبتكر وظائف لم تكن موجودة من قبل، دافعًا بالمهن إلى تحوّل غير مسبوق في النوع والسرعة والمهارات المطلوبة.
ووسط هذه التحولات المتسارعة، لم تعد الوظائف الجديدة خيارًا تقنيًا نخبويًا، بل أصبحت ضرورة حتمية تفرضها موجات التغيير، وتُبرز الحاجة إلى مواكبة هذا الواقع الجديد بمرونة واستعداد دائم.
فالتغيير الذي كان يستغرق عقودًا بات يحدث خلال أشهر، ومهن الأمس باتت تُستبدل بوظائف لم نسمع بها من قبل، إذ تُجمِع التقارير الحديثة الصادرة عن PwC و Gartner وMcKinsey على أن الوظائف الجديدة ليست ترفًا تقنيًا، بل ضرورة إستراتيجية للتكيف مع عالم سريع التغيّر.
من أبرز هذه الوظائف، فني الصيانة التنبُّئِية بالذكاء الاصطناعي (AI Predictive Maintenance Technician) الذي يستخدم خوارزميات لرصد الأعطال قبل وقوعها، ما قد يُوفر على الشركات ما يصل إلى 630 مليار دولار سنويًا، بحسب Cisco Systems، وكذلك مهندس سلاسل الإمداد الذكية (Smart Supply Chain Engineer )، الذي يوظف أدوات الذكاء الاصطناعي لتحسين سرعة ودقة تسليم المنتجات؛ إذ أظهرت دراسة لمؤسسة Deloitte أن هذه الوظيفة يمكن أن تقلّص وقت التسليم بنسبة 40%، وتخفض الانبعاثات بنسبة 25%.
إعلانإنها ليست مجرد لحظة تحوّل في سوق العمل، بل ثورة مهنية تقودها الخوارزميات، وتبتكر وظائف لم تُكتب فصولها بعد، وفي قلب هذه الثورة، تتزايد الحاجة إلى مواهب قادرة على فهم هذه التحولات والتفاعل معها بمرونة وكفاءة.
فالسؤال لم يَعُد: "ما الوظيفة التي سأشغلها؟"، بل أصبح: "هل وظيفتي المقبلة موجودة أصلًا؟"، في وقت تشير فيه دراسة حديثة لمعهد McKinsey Global (2024) إلى أن 85% من وظائف عام 2030 لم تُخترع بعد.
هذا الواقع الجديد يُحتّم على الأفراد والمؤسسات إعادة التفكير في مهاراتهم، وأنماط التعلم، ونماذج العمل، استعدادًا لسوق لا يعترف بالثبات، بل يكافئ القادرين على التكيف المستمر، والتعلّم مدى الحياة.
في القطاع القانوني مثلًا، يُعاد تعريف العمل المكتبي مع ظهور محلل العقود الذكية (Smart Contract Analyst)، الذي يدمج بين القانون والبرمجة لفهم وتحليل الوثائق القانونية الرقمية.
أما في المجال الأخلاقي، فتبرز حاجة الشركات إلى مهندس أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics Engineer) لضمان ألا تتخذ الخوارزميات قرارات متحيزة أو تمييزية، كما تنبأت Gartner بأن 30% من الشركات الكبرى ستوظف هذا الدور بحلول 2026.
ضمن الرؤى الاستشرافية التي تقدمها تقنيات الذكاء الاصطناعي نفسها، تم التنبؤ بظهور خمس مهن جديدة بحلول عام 2030، تشمل: مدقق أخلاقيات الذكاء الاصطناعي (AI Ethics Auditor)، ومهندس الميتافيرس (Metaverse Engineer)، ومطور برامج الحوسبة الكمومية (Quantum Software Developer)، ومعالجًا نفسيًا مختصًا في الإدمان الرقمي (Digital Detox Therapist)، ومهندس التعلم (Learning Engineer).
هذه الوظائف – التي لم يكن لها وجود فعلي قبل سنوات قليلة – تعكس ليس فقط التحولات التقنية، بل أيضًا التغير العميق في طبيعة المهارات المطلوبة.
إعلانوهو ما يفرض على الجامعات ومراكز التدريب إعادة صياغة مناهجها لتتناسب مع هذه الاتجاهات المستقبلية، وتوفير بيئات تعليمية مرنة تُعد الطلبة لشغل أدوار لم يُخترَع جزء كبير منها بعد.
قصة حقيقية من كوريا الجنوبية تُجسّد هذا التحول: "لي جاي هون"، مهندس ميكانيكي سابق، أعاد تأهيل نفسه ليصبح منسق التفاعل بين البشر والروبوتات (Human-Robot Interaction Facilitator)، ليقود فريقًا في تطوير تجربة العملاء داخل متاجر ذكية تستخدم مساعدين روبوتيين. بعد ستة أشهر من التدريب المتخصص، تضاعف دخله وانتقل إلى إدارة مشاريع تقنية كانت خارج نطاق تصوره المهني السابق.
لكن هذا التقدم لا يتوزع بشكل عادل حول العالم. ففي حين تسارع الدول الصناعية إلى إعادة هيكلة أنظمتها التعليمية واستثماراتها في المهارات المستقبلية، تقف الدول النامية، وخاصة العربية، أمام تحديات مضاعفة. ضعف البنية التحتية الرقمية، ونقص التمويل الموجه للبحث والتطوير، يحدان من قدرة هذه الدول على مواكبة التحول.
بحسب تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي (2023)، فإن فجوة المهارات الرقمية في بعض دول الشرق الأوسط تتجاوز 60%، وهو ما يهدد بتهميشها في الاقتصاد العالمي الجديد.
هنا يبرز دور الحكومات كمحرك رئيسي للجاهزية المستقبلية. فبدلًا من التركيز فقط على خلق وظائف تقليدية، عليها تبني سياسات دعم للوظائف الرقمية الجديدة، مثل تقديم حوافز للشركات التي توظف في مجالات الذكاء الاصطناعي، وإنشاء شراكات بين الجامعات ومراكز الأبحاث التكنولوجية، كما فعلت سنغافورة ورواندا بنجاح لافت.
في العالم العربي، بدأت مؤسسات وشركات في دول مثل قطر، والسعودية، والإمارات تولي اهتمامًا متزايدًا بهذه التحولات. على سبيل المثال، أطلقت بعض الجامعات العربية برامج دراسات عليا متخصصة في الذكاء الاصطناعي، تشمل مساقات تتناول أخلاقيات الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته في مختلف القطاعات.
إعلانكما بدأت بعض الشركات الناشئة في المنطقة توظيف مختصين في تصميم واجهات تفاعلية تعتمد على الذكاء الاصطناعي، وهو ما يعكس بداية دخول العالم العربي في موجة جديدة من الابتكار الوظيفي.
هذا الواقع الجديد يتطلب إعادة نظر شاملة في مفهوم المهارة. فالمهارات التقنية وحدها لم تعد كافية، بل أصبحت المهارات التحليلية والإنسانية مثل التفكير النقدي، والإبداع، والتواصل الفعّال، عوامل حاسمة للنجاح في هذه المهن الناشئة.
كما يُعد الاستثمار في منصات التعلم مدى الحياة خطوة ضرورية لتقليل "التآكل المهني السريع"، إذ تشير تقديرات البنك الدولي (2024) إلى أن 40% من المهارات الحالية ستصبح غير صالحة خلال خمس سنوات.
المسؤولية اليوم لا تقع على الحكومات فحسب، إذ على الأفراد كذلك أن يعيدوا تعريف علاقتهم بالوظيفة. فالمستقبل سيكون لمن يتقنون فن التعلم المستمر والتكيف السريع، لا لمن يعتمدون على تخصص جامعي واحد مدى الحياة. إن مهارات مثل تحليل البيانات، التفكير النقدي، والقدرة على التعاون مع الخوارزميات، ستكون العملات الجديدة في سوق العمل.
المؤكد أن سوق العمل لم يعد كما عرفناه. فبينما استغرقت الثورة الصناعية الأولى قرنًا لتغيير طبيعة المهن، يكفي اليوم تحديث خوارزمية واحدة لإعادة تشكيل صناعة بأكملها.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي إلى جميع القطاعات – من القانون إلى الطب، ومن الإعلام إلى الخدمات اللوجيستية – فإننا أمام تحول يشبه الانتقال من عصر الفلاحة إلى الثورة الصناعية، لكن بوتيرة أسرع بمئة مرة.
هذا التسارع غير المسبوق يفرض علينا جميعًا، حكومات وأفرادًا، أن نعيد تعريف جوهر المهارات المطلوبة، ونفكر بمرونة، ونستعد لما هو أبعد من مجرد التغيير: إلى ما يشبه إعادة خلق الإنسان المهني من جديد.
عودٌ على بدء، فإن المهن الجديدة التي أوجدها الذكاء الاصطناعي تمثّل اليوم فرصة مهمة للعالم العربي ليس فقط لمواكبة التحول الرقمي، بل لقيادته أيضًا في بعض المجالات. ويتطلب ذلك استثمارًا جادًا في التعليم، والبحث، وتوفير بيئة تنظيمية وأخلاقية تُشجّع على الابتكار دون الإضرار بالقيم المجتمعية.
إعلانوأخيرًا، نقف اليوم على أعتاب مرحلة يُعاد فيها رسم خريطة العمل عالميًا، ومن يتهيأ لها منذ الآن، سيكون الأقدر على حصد ثمارها لاحقًا.
فالمستقبل لا ينتظر المترددين، بل ينحاز لمن يملكون الشجاعة لتعلم الجديد، والمرونة لإعادة تشكيل ذواتهم المهنية، والوعي بأن الذكاء الاصطناعي ليس تهديدًا، بل أداة تفتح أبوابًا لم تُطرق من قبل. إنها لحظة تحوّل، والفرص الكبرى قد لا تأتي مرتين.. فهل نحن فاعلون؟
| الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.