إعادة دمج الرؤية الأخلاقية في الاقتصاد تعزز فهم النتائج السياسية
تاريخ النشر: 16th, April 2025 GMT
في أغلب فترات القرن العشرين، كان يُنظر إلى علم النفس الأخلاقي والاقتصاد باعتبارهما تخصصين منفصلين - كل منهما يركز على اهتمامات منفصلة، وهناك القليل من تلاقح الأفكار بينهما. ولكن لم يكن هذا هو الحال دائما.
فإذا عدنا بالزمن إلى فلاسفة مثل آدم سميث وكارل ماركس فسنجد أن المناقشات حول الاقتصاد السياسي كانت عميقة الارتباط بالمسائل الأخلاقية.
وبصفتي خبيرا اقتصاديا، أعتقد أن هذا التداخل المتزايد يقدم دروسا قيِّمة ليس للأوساط الأكاديمية فحسب بل أيضا لصنّاع السياسات الذين يعانون في مواجهة أكبر تحديات العصر الحالي، مثل زيادة عدم المساواة، والاستقطاب السياسي، وتراجع الثقة في المؤسسات.
إن إحدى الأفكار الأساسية التي تدفع إلى إعادة ربط علم النفس الأخلاقي بالاقتصاد هي الفكرة التي نشأت من علم النفس الأخلاقي، والتي تشير إلى أن الأخلاق تطورت كأداة لها وظيفة اقتصادية، كما ذكر،
على سبيل المثال، جوناثان هايدت، عالم النفس الأمريكي، في كتابه «The Righteous Mind: Why Good People Are Divided by Politics and Religion».
وبعبارة بسيطة، يُنظر إلى الأخلاق باعتبارها آلية تقوم المجتمعات من خلالها بفرض التعاون، مما يتيح الإنتاج على نطاق واسع، والتبادل، والتماسك الاجتماعي. وفكرة أن الأخلاق لها وظيفة اجتماعية واقتصادية هي فكرة عميقة الجذور في منظور تطوري: فمع تشكيل البشر لمجتمعات تزداد تعقيدا، أصبح التعاون أمرا ضروريا لاستمرار الحياة، وظهرت النظم الأخلاقية لفرض السلوكيات الاجتماعية الإيجابية.
الإمبريالية الاقتصادية
من منظور خبير اقتصادي، تشير هذه الصيغة للأخلاق كاستجابة لمشكلات اقتصادية -مثل ضمان التعاون في المعاملات- إلا أن الأخلاق ليست ثابتة بل قابلة للتكيف. ومع تغير البيئات الاقتصادية، تتغير القيم الأخلاقية أيضا. فقد يؤدي صعود الأسواق المعولمة -على سبيل المثال- إلى تحويل المجتمعات من الأطر الأخلاقية التخصيصية -تلك التي تعطي أولوية للتعاون الوثيق بين أفراد المجموعة- إلى قيم أكثر تعميمية تبرز العدالة والمساواة عبر الشبكات الاجتماعية الأوسع نطاقًا.
وقد استخدم خبراء الاقتصاد هذه الأفكار من علم النفس الأخلاقي وقاموا بتوسيع نطاقها. وتحدث هذه الظاهرة -التي يشار إليها غالبا باسم «الإمبريالية الاقتصادية»- عندما يطبق خبراء الاقتصاد أدواتهم ومنهجياتهم على مجالات كانت تستكشفها عادة علوم اجتماعية أخرى، مثل علم النفس أو علم الإنسان. ورغم أن هذا المنهج قد تعرض للانتقاد أحيانًا بسبب تعديه على تخصصات أخرى، فقد يكون مثمرا للغاية عند تنفيذه بشكل تعاوني.
وبدلا من محاولة استبدال علم النفس الأخلاقي، نجح خبراء الاقتصاد في اختبار نظرياته والتحقق من صحتها -مثل الدور الوظيفي للأخلاق- من خلال عمل تجريبي واسع النطاق. وبذلك، ساهموا برؤى قيّمة، خاصة عند الحاجة إلى إجراء اختبارات تجريبية في بيئات واقعية أوسع نطاقًا.
ولفهم كيفية تطوُّر النظم الأخلاقية استجابة للبيئات الاقتصادية، يمكننا النظر إلى عدة أمثلة رئيسية. أولًا، تقدم لنا هياكل القرابة التاريخية دراسة حالة مقْنِعة؛ فالمجتمعات التي تتمتع بشبكات أسرية ممتدة قوية تعتمد غالبا على التعاون الوثيق داخل الأسر، مما يؤدي إلى قيم أخلاقية تخصيصية. وتعطي هذه المجتمعات أولوية للولاء للأسرة والمجتمعات المحلية، كما تعكس نظمها الأخلاقية هذا الاهتمام.
وكما أوضحْت في دراسة صدرت في عام 2019، تميل المجتمعات ذات شبكات القرابة الأضعف إلى تنمية قيم أخلاقية أكثر تعميمية، مع توسيع نطاق العدالة لتشمل الغرباء والأقارب البعيدين على حد سواء. وهذا التمييز بين التعميمية الأخلاقية والتخصيصية الأخلاقية، وارتباطه بهياكل القرابة التاريخية، يفسر الكثير من الاختلاف بين الثقافات في المعتقدات الأخلاقية والقيم والمشاعر.
ثانيًا، يساهم الانكشاف للأسواق أيضا بدور بالغ الأهمية في تشكيل القيم الأخلاقية. ففي المجتمعات التي تشيع فيها التعاملات بين الغرباء في الأسواق، من المرجح أن تزدهر القيم التعميمية -مثل العدالة في التعامل مع الأشخاص خارج الدائرة القريبة للفرد. وتشير مجموعة متزايدة من الأبحاث، بما في ذلك دراستي الصادرة في عام 2023، إلى أن المجتمعات التي شهدت انكشافًا أكبر للأسواق في الماضي تُظهر مستويات أعلى من التعميمية. وكلما زاد تعامل الناس مع الغرباء في الأسواق، زادت معاييرهم الأخلاقية التي تعطي أفضلية للتعاون الموضوعي والثقة.
وأخيرا فإن البيئة -أي البيئة الطبيعية التي توجد فيها المجتمعات- قد تؤثر أيضا على الأخلاق. ففي المناطق التي كان فيها التعاون المكثف مع الجيران أمرا ضروريا لاستمرار الحياة، كما هو الحال في المناطق ذات الأراضي المتجانسة الخصبة، نشأت في كثير من الأحيان قيم تخصيصية. وتؤكد هذه القيم الروابط الوثيقة بين أفراد المجتمع، والتي كانت ضرورية للإنتاجية الزراعية.
وفي المقابل، ربما تكون المناطق ذات الأوضاع البيئية الأكثر تقلبا أو تشرذما قد عززت القيم التعميمية؛ لأن التعاون مع الجيران القريبين (والتعلم منهم) كان أقل أهمية للإنتاج الاقتصادي، كما ذكر الخبير الاقتصادي الإسرائيلي إيتزاك زاخي راز.
النتائج السياسية والاقتصادية
هناك تأثير متبادل بين الأخلاق والسلوك الاقتصادي؛ فالأوضاع الاقتصادية تشكل القيم الأخلاقية، ولكن تلك القيم، بدورها، تشكل النتائج السياسية والاقتصادية. وفي المناخ الحالي المستقطب سياسيا، نجد أن الاختلافات الأخلاقية غالبا ما تدعم الانقسامات حول السياسة الاقتصادية. فعلى سبيل المثال، يساعد التمييز بين القيم التعميمية والتخصيصية في تفسير سبب تبني مجموعات مختلفة لوجهات نظر متعارضة بشأن قضايا مثل الضرائب وإعادة التوزيع والهجرة وتغير المناخ والعولمة والمساعدات الخارجية.
والفكرة الأساسية هنا هي أن العديد من السياسات اليسارية التقليدية تتسم بطبيعة تعميمية نسبيا. والمؤيدون للتعميمية الأخلاقية، الذين يعطون أولوية للعدالة والمساواة للجميع، من الأرجح أن يدعموا سياسات إعادة التوزيع التي تهدف إلى الحد من عدم المساواة في الدخل، بما في ذلك للأشخاص من بلدان أجنبية. وهم أيضا أكثر دعما للسياسات «العولمية» مثل المساعدات الخارجية والعولمة والوقاية من تغير المناخ. أما المؤيدون للتخصيصية الأخلاقية، الذين يعطون أولوية للولاء للمجموعة التي ينتمون إليها، فغالبا ما يعارضون هذه السياسات، خوفا من إمكانية أن تؤدي إعادة التوزيع إلى استفادة مجموعات لا ينتمون إليها أو غرباء على حساب مجموعتهم، أو من إمكانية أن تؤدي الهجرة إلى الإضرار بفرص جيرانهم في العثور على وظائف. ويساهم هذا الانقسام الأخلاقي في الاستقطاب السياسي وتعقيد جهود التوصل إلى توافق في الآراء حول السياسات الاقتصادية.
وتوضح إحدى دراساتي حول أنماط التصويت في الولايات المتحدة أن القيم الأخلاقية للناخبين تتسق إلى حد كبير مع سياسات المرشحين السياسيين وكلماتهم الطنانة. والأدلة الحديثة التي جمعتها أنا ورايموند فيسمان ولويس موتا فريتاس وستيفن صن تعزز هذا الارتباط بشكل
أكبر. فنحن نقيس التعميمية الأخلاقية باستخدام البيانات واسعة النطاق عن التبرعات. ووفقا لمنهجنا، يقال إن الدوائر الانتخابية في الولايات المتحدة تتسم بقدر أكبر من التعميمية عندما تذهب حصة أكبر من التبرعات من تلك الدوائر إلى مستفيدين أبعد جغرافيا أو اجتماعيا. وبالتالي لا تعد الدوائر الانتخابية المؤيدة للتعميمية أكثر أو أقل مناصرة للقضايا الاجتماعية من غيرها -بل إنها تمنح قدرا أكبر من التبرعات للأماكن البعيدة وقدرا أقل لقضايا المجتمع المحلي.
ونحن نوثق أن الدوائر الانتخابية التي تتسم بقدر أكبر من التعميمية تميل إلى التصويت لصالح المرشحين الديمقراطيين وانتخاب ممثلين يستخدمون لغة أخلاقية تعميمية في خطاباتهم. وبالإضافة إلى ذلك، يُظهر ممثلو هذه الدوائر سلوك تصويت بنداء الأسماء أكثر ميلا إلى اليسار، حتى داخل نفس الحزب، وهو ما يوضح بشكل أكبر كيفية تأثير هذه القيم الأخلاقية على نتائج الانتخابات والإجراءات التشريعية.
منهج متعدد التخصصات
يعمد خبراء الاقتصاد عادة إلى توخي الحذر بشأن الخوض في المسائل الأخلاقية، مفضلين التمسك بالتحليل التجريبي القائم على البيانات. ولكنني أعتقد أن خبراء الاقتصاد يمكنهم الاستفادة من الانخراط بشكل أعمق في علم النفس الأخلاقي، مثلما يمكن أن يستفيد علماء النفس من دمج الرؤى الاقتصادية في عملهم. فكل تخصص يتسم بمواطن قوة متفردة: حيث يتفوق خبراء الاقتصاد في إدارة وتحليل البيانات واسعة النطاق، في حين يتفوق علماء النفس الأخلاقي في فهم العمليات المعقدة لصنع القرار الفردي والتفكير الأخلاقي.
ويمكن أن يؤدي هذا المنهج متعدد التخصصات إلى فهم أكثر ثراء ودقة للظواهر الاجتماعية والسياسية المعقدة. ولنأخذ على سبيل المثال قضية إعادة التوزيع، فالأبحاث في مجال علم النفس يمكنها إلقاء الضوء على الأسباب التي تجعل الناس يتمسكون بمعتقدات أخلاقية معينة بشأن العدالة والمساواة؛ كما يمكن للبيانات الاقتصادية أن تكشف عن كيفية ترجمة هذه المعتقدات إلى أنماط للتصويت وتفضيلات للسياسات. وبالجمع بين هذه المناهج، يمكننا إعداد صورة أشمل لكيفية تأثير القيم الأخلاقية على السلوك الاقتصادي والنتائج الاقتصادية.
فماذا يعني كل هذا لصناع السياسات؟ قبل كل شيء، يشير ذلك إلى أن السياسة الاقتصادية الفعّالة لا يمكن أن تتجاهل الاعتبارات الأخلاقية. ويجب على صناع السياسات أن يدركوا أن التفضيلات الاقتصادية للناس غالبا ما تشكلها معتقداتهم الأخلاقية، التي قد تتباين إلى حد كبير بين المجموعات المختلفة. ونتيجة لذلك فإن السياسات التي تتسق مع القيم الأخلاقية لإحدى المجموعات قد تواجه معارضة شديدة من مجموعة أخرى ذات قيم مختلفة.
ومن شأن فهم هذه الانقسامات الأخلاقية أن يساعد صناع السياسات على صياغة سياسات أكثر فعالية وإنصافا. فعلى سبيل المثال، قد تكون سياسات إعادة التوزيع التي تحمل عوامل جذب للقيم التعميمية أكثر نجاحا، إذا تمت صياغتها بطرق تجد صدى لدى المؤيدين للتخصيصية الأخلاقية أيضا، مثل التأكيد على المزايا التي تعود على المجتمعات المحلية.
وبالإضافة إلى ذلك، من شأن إدراك دور الأخلاق في السلوك الاقتصادي أن يساعد صناع السياسات على توقع الاستقطاب السياسي ومعالجته. وقد تَثْبُت أهمية ذلك في سد الفجوات الأخلاقية التي تدفعنا بعيدا عن التوافق في الآراء.
بنجامين إنكي، أستاذ مشارك في الاقتصاد السياسي بجامعة هارفارد،
صندوق النقد الدولي
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: القیم الأخلاقیة على سبیل المثال خبراء الاقتصاد إعادة التوزیع أن الأخلاق أکبر من إلى أن
إقرأ أيضاً:
الرأسمالية والعدم في مواجهة التحديات الأخلاقية «رؤية ماركسية»
يذهب الكثير من الباحثين والمفكرين أن اللامساواة تنخر عمق المجتمعات العالمية، مشرقها ومغربها، شمالها وجنوبها، دولها وشعوبها على حد ٍ سواء بنسب متفاوتة. وبحسب الكثير منهم تعود هذه الأسباب إلى عوامل مختلفة، منها ما يتعلق بتوزيع الثروات والفرص بين الأفراد، ومنها ما يتعلق بالأنظمة السياسية التي تتحكم في القوانين والتشريعات، غير أن هناك آراء آخرى تتزايد حدة أصواتها في كل أزمة تميل إلى القول، بأن النظام الاقتصادي الرأسمالي الذي يتحكم في العالم بطرق ٍ مباشرة، وغير مباشرة، يتحمل الجزء الأكبر من هذه المشكلة.
من هنا تتصاعد الأصوات في البحث عن التحديات الاجتماعية المختلفة التي يمر بها النظام الاقتصادي العالمي، ومنها التحدي الأخلاقي على وجه التحديد بين فترة وأخرى. ولأجل الوقوف على تاريخية هذه الانتقادات وجدليتها، من الضروري العودة للنبؤات التي طرحت انهيار وسقوط الرأسمالية في المقام الأول، كما تسعى ثانياً للحديث إحدى التشخصيات وما أكثرها! عن الرأسمالية ونتائجها ومساراتها التي تقود للعدم بحسب تعبير بيتر فليمنج، وأخيرًا، نتطرق لبعض الدعوات المتزايدة مؤخرًا نحو الاشتراكية التي جاءت من أصوات اقتصادية وفلسفية عالمية مختلفة وذلك في ظل التشخيصات المتعددة للرأسمالية.
نهاية الرأسمالية مغامرات لا أكثر
- منذ فترة طويلة، وتحديدًا منذ الكتابات الأولى لكارل ماركس التي تنتقد الرأسمالية، كانت التنبؤات بزوالها وسقوطها حاضرة وبقوة، وفي كل مرة تأخذ هذه التنبؤات صيغًا مختلفة، ويطرحها مفكرون وباحثون من مدارس شتى، وذلك بحسب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تمر بها المجتمعات. فمع بدايات الثورة الصناعية ومواجهتها الكبيرة للأنظمة الدينية والاقتصادية والاجتماعية المستقرة والراسخة آنذاك، ارتفعت الكثير من الأصوات الدينية والاقتصادية المحتجة على هذا النمط الصناعي الجديد، ولم يكن ممكنًا – كما جرت العادة – أفضل من توظيف الجانب الديني في مواجهتها، والبحث عن نقائضها، وبدائلها في نفس الوقت، وذلك من خلال إعادة إحياء زخم العقائد الإنجيلية في بريطانيا مهد الثورة الصناعية.
- لكن مع ظهور مفكرين وفلاسفة مختلفين، ينتمون إلى اتجاهات متباينة، كان من الطبيعي أن تتعدد وجهات النظر الناقدة للرأسمالية، وربما الأشهر هنا الرؤية العميقة والحيوية لكارل ماركس ورفيقه إنجلز اللذين كتبا الكثير من الأعمال الناقدة للرأسمالية -من زوايا كثيرة وأبرزها- بأن الرأسمالية ستنتهي على يد الطبقة العاملة (البروليتاريا) التي تُنتج السلع وتساهم في تكدس رؤوس الأموال والثروات في أيدي فئة قليلة من البشر، وذلك بسبب التزايد الكبير لهذه الطبقة وتوحدهم بسبب الظروف المعيشية البائسة التي يرزحون تحتها. الأمر الذي يعني بأننا أمام دورة طبيعية تنتجها الرأسمالية تقوم على «تمركز رأس المال» مقابل « بؤس الطبقة العاملة» المتمثل في زيادة الكد والعمل، والجهل، ووحشية نظام العمل.
بالإضافة لذلك، كانت أطروحات الفيلسوف والاقتصادي الإنجليزي جون ستيورات ميل (1806-1873م)، الذي رأى بأن الرأسمالية تزيد اللامساواة بين البشر، وبأن الاقتصاد الحُر مسؤول عن هذه اللامساواة وارتفاع دخل بعض الأفراد على حساب بقية أفراد المجتمع، تتفق مع هذا الخط، ولكن بصورة ناعمة أكثر مقارنة مع الرؤية الماركسية، حيث منحت أطروحاته ما يشبه اليقين بزوالها وفشلها الذريع، وهو ما خيّم على المزاج العام في تلك الفترة وما بعدها.
غير أنه مع نهاية القرن التاسع عشر، وبداية الأممية الثانية، تزايدت الشكوك حول هذه الدعوات القائلة بنهاية الرأسمالية، الأمر الذي جعل الأحزاب الاشتراكية في تلك الفترة تنقسم على نفسها، بين مشكك في هذه الدعوات وبين مراجع للكثير من الأطروحات الأساسية البديلة للرأسمالية كالاشتراكية وغيرها. كما تزايدت حدة الشكوك في هذه الدعوات وحضور نقيضها في الفترة ما بعد الحرب العالمية الأولى وتحديدا في فترة الكساد الكبير عام 1929م، وظهور الأنظمة الرجعية والديكتاتورية في الغرب، وتحديدا مع هتلر وستالين، لكن تأسيس روسيا الحديثة على يد لينين عام 1917م، أعاد الأمل من جديد في تأسيس علاقات اقتصادية واجتماعية جديدة لا تقوم على الأسس الرأسمالية التي تعرضت للنقد الحاد وطرح البدائل المختلفة. غير أن هذا الأمل ما لبث أن تلاشى.
من جانب آخر، لم تقتصر الأزمات التي مرت بها الرأسمالية والتي ساهمت في استمرار تنبؤات زوالها على الجانب الاقتصادي، بل دخل العامل الثقافي والتكنولوجي للواجهة بشكل كبير، الأمر الذي جعل الكثير من الأطروحات تذهب إلى أن هذه الأزمات «جزءا من الديناميكية الصحية للتدمير الخلاق الذي تُحركه الابتكارات التكنولوجية» كما قال جوزيف شومبيتر في كتابه «الرأسمالية والاشتراكية والديمقراطية» 1942م.
مهما يكن الأمر، فإن سردية زوال أو سقوط الرأسمالية، بغض النظر عن الأسباب المؤدية لذلك والبدائل الفعالة المقترحة في ذات الوقت، بقيت حاضرة في الكثير من الدعوات منذ فترة طويلة، الأمر الذي جعل العودة للكتابات الماركسية بين فترة وأخرى، حاضرا في الأفق المقابل، وذلك من خلال العودة للماركسية الأولى وعلاقتها الجدلية والمعقدة بالأخلاق، كما سنرى في الفقرة اللاحقة.
الرأسمالية والعدم
لا تتوقف الانتقادات اللاذعة الموجهة نحو الرأسمالية كما سبق القول، بل تزداد ضراوة يوما بعد يوم. فهي تأتي من زوايا وأبعاد مختلفة، لها أول وليس لها آخر. وربما يجدر بنا في هذا السياق، تسليط الضوء على العمل الصادر مؤخرا للباحث والمفكر الاقتصادي الأسترالي بيتر فليمنج Peter Fleming الرأسمالية والعدم 2025م، والذي يُحدق في عيون وملامح وتشكلات الرأسمالية، فلا يرى إلا العدم، والانفصال، والتوحش، وعوالم بلا عمل، وبلا عُمال، وبالتأكيد بلا بشر. وهذا ينطبق على كل شيء تقريبا، وعلى جميع المستويات، الإنسان عن الأرض، الإنسان عن الحيوان، الإنسان عن الإنسان، الجسد عن العقل، العقل عن الروح. غير أن الانفصال الأكبر والأشمل حدث عن وسائل الإنتاج أو الانفصال عن الأرض التي نزرعها أو نجمعها، أو الأدوات والورشة التي نديرها.
وأدى هذا الانفصال على مر التاريخ البشري بشكل عام، والغربي بشكل خاص، لظهور وصعود الفرد البرجوازي، عن طريق فصل نفسه عن وسائل الإنتاج، من خلال خصخصة الأعمال والعقول والأجساد، الأمر الذي قلل أو أزال اعتماد الأفراد على الآخرين، أو على الأرض بشكل عام، ما جعل التواصل في أدنى مراحله، والعزلة في أقصى ازدهارها ونشوتها، وبشكل خاص مع دخول الآلة والمنصات الرقمية، وأنظمة المراقبة، في كل تفاصيل الحياة البشرية، صغيرها وكبيرها، خاصها وعامها على حد سواء، هذا من جانب. كما أدى أيضا من الجانب الآخر، إلى ظهور «ديانة التكنولوجيا» «Religion Of Technology»، وبشكل خاص مع تصاعد الذكاء الاصطناعي، والشبكات العصبية، والخوارزميات المختلفة، والتي تحولت -كما يقول المؤلف- إلى وحوش مخيفة تتجول وتسيطر في الظل.
وهذا يعني من زاوية أخرى، تراجع أشباح الأفكار التي كانت تجمع الأفراد بين بعضهم البعض، والتي تُشكل حلولا لتحدياتهم المختلفة، وتُلهب أحلامهم ومخيلتهم في صنع مستقبل أفضل، عن طريق التواصل والمشاركة والتحاور فيما بينهم.
في كل الأحوال، مهما بلغت قتامة الرأسمالية وتوحشها، وشروطها التي تفرضها على الأفراد في كل التعاملات البشرية اليومية، فإنها لم تقض على الأمل والدعوات المتزايدة للعودة نحو الاشتراكية، ولكن هذه المرة بطرق مختلفة، وهياكل جديدة، وأفكار تتوافق مع العدم الذي تنشره الرأسمالية في أخيلة الأفراد وقلوبهم وعزائمهم.
الطريق إلى الاشتراكية: عودٌ على بدء
في عمله الصادر عام 2021م، يعود المفكر الفرنسي الاقتصادي الشهير توماس بيكيتي إلى الاشتراكية في عمله المعنون «زمن إلى الاشتراكية»، وقبل ذلك بسنوات وتحديدا في عام 2016م، يعود أيضا الفيلسوف الألماني أكسل هونيث للاشتراكية في كتابه «فكرة الاشتراكية»، وبالرغم من الفارق الزمني الطفيف بينهما، والمقاربات الفكرية المختلفة بينهما، إلا أنهما يتفقان حول ضرورة تعديل المسار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي العالمي. ففي حين أن الأول يعود للأسباب السياسية والأيديولوجية، يعود الثاني إلى المنابع الفكرية والفلسفية وتقديم مراجعات حول تلك الفترات الزمنية التي علت فيها الدعوات للاشتراكية، موضحا أن الطريق من الممكن السير فيه، والتعلم منه.
فبالعودة للسياقات السياسية الحالية، والأحداث التي يمر بها العالم، يرى بيكيتي بأن «المسيرة الطويلة نحو المساواة والاشتراكية التشاركية قد قطعت شوطًا طويلًا بالفعل. ولا شيء يمنعنا من مواصلة هذا المسار المفتوح، طالما أننا جميعًا نمضي قدمًا فيه»، إذ إن هذا المسار يعود في طبيعته لأسباب أيديولوجية وسياسية، ولا يعود بالضرورة لأسباب اقتصادية وتقنية جوهرية. وبالرغم من أن اللامساواة كما يرى بيكيتي قد تراجعت، وتحولت من الجانب النظري الذي طرحته الثورة الفرنسية، إلى الجانب العملي والواقعي، ومنها الحربان العالميتان، وبسبب السياسات المالية والقانونية المتبعة بما فيها القوانين الضريبية في الكثير من الدول، ومنها الحوكمة، إلا أن ذلك لا يمنع الاستفادة من الدروس التاريخية التي يمكن العودة إليها.
وعلى سبيل المثال، كان تركز الملكية في السنوات السابقة محصورًا في عدد محدود من البشر، كما هو الحال في الهند والصين وروسيا وأوروبا وغيرها من الدول، إلا أنه في السنوات الأخيرة أمست هذه النسبة في انخفاض وتراجع، الأمر الذي انعكس على المستويات المعيشية للطبقة المتوسطة التي زادت بنسب متفاوتة بين كل دولة وأخرى.
ولكن ما السبب الرئيس لتقلُّص اللامساواة؟
يرى بيكيتي أن السبب الأساسي لهذا المسار الذي يبدو متناقضًا، يعود لوجود وصعود «دولة الرفاه» ابتداءً من عام 1910 إلى عام 1990م وما رافق ذلك من دورات صعود وهبوط من جانب، وتزايد الاستثمار في التعليم والصحة ومعاشات التقاعد ومعاشات العجز والتأمينات الاجتماعية (البحث عن عمل، والأسرة، والإسكان، إلخ)، وتحديدًا في بداية العقد الثاني من القرن العشرين، حيث بلغ إجمالي الإنفاق العام في أوروبا الغربية – على سبيل المثال - بالكاد 10% من الناتج المحلي الإجمالي، في حين بلغ الإنفاق على نفس المجالات العامة في نهاية ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي إلى حدود 50%، من الجانب الآخر.
أدّت هذه التغيرات في الإنفاق إلى حصول فئة كبيرة من البشر على الخدمات الأساسية التي كانت لفترة طويلة، محرومة منها، وهذا يتضح في القطاعات المختلفة بالرغم من الركود الذي تعرضت له دولة الرفاه في ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي وما بعدها.
غير أن توفير الخدمات ودولة الرفاه لا تكفيان لتحقيق المساواة، بل تتعدى ذلك لتصل إلى الجوانب السياسية التي تتحكم في الأمور الاقتصادية وغيرها من جوانب المجتمع، أو بلغة (بيكيتي) ينبغي إعادة النظر في علاقات الهيمنة والقوة، التي تسيطر على المجتمع من خلال تقاسم السلطة في المؤسسات وتحديدًا السياسية والاقتصادية بما فيها الشركات الكبرى العالمية وداخل كل دولة على حدة، وذلك بالاستفادة من تجارب بعض الدول والمجتمعات التي أثبتت بأن اتخاذ سياسات تشاركية أكثر نجاعة وتعود بالنفع المجتمعي العام. وفي هذا السياق، يرى بيكيتي أنه من غير الضروري أن تنتظر الدول الإجماع العالمي والموافقة على الإجراءات والاتفاق حولها، بل من الممكن أن تتخذ كل دولة خطواتها الإصلاحية التي تحقق هذه الأهداف لأفراد المجتمع، وهذا يضعنا أمام مدخل مفاهيمي مختلف يأخذ بالحسبان الكثير من المتغيرات التي طرأت على السياسات العالمية والمحلية على حدٍ سواء.
الفيدرالية التشاركية بديلًا عن العولمة
بناءً على ماسبق، من الواضح أن الرأسمالية كما قال فيشر في مقولته في المقدمة: من الممكن أن نتخيل نهاية العالم ولا نتخيل نهايتها، غير أن هذه الأمنية الصعبة ليست مستحيلة، وذلك بالعودة للكثير من الحركات الاجتماعية، والمبادئ النظرية والأخلاقية المختلفة، والقيام بمبادرات وسياسات واقعية تأخذ في الحسبان أخطاء النظام العالمي الحالي، وتجاوزاته، وسلبياته، والخروج من النظام الذي يحتكر الثروات والصلاحيات وعلاقات السلطة والهيمنة لفترات زمنية طويلة، إلى الالتفات للكثير من الإمكانيات الكامنة في صلب الفعل البشري، فالمصلحة الفردية والرغبات الجامحة في تكدُّس الثروات والسلطات لدى الفرد ليست جديدة، فهي جزءٌ أصيل من المشاعر البشرية كما أشار منذ زمن طويل آدم سميث، ومن الممكن أن يقوم المرء بالكثير من الأفعال والسلوكيات في سبيلها، كما أن العولمة بكل معانيها السلبية التي تنتجها، غذت وأججت هذه الرغبات الأنانية، أكثر من أي وقت مضى، لتأتي نقيضًا لذلك العودة للتشاركية بين أفراد المجتمع الواحد، والمجتمعات البشرية المختلفة؛ لتلهب خيال وخطط وطموحات الباحثين والمفكرين، بأن الأنظمة الاقتصادية والسياسية أيضًا مهما ترسخت في الواقع من الممكن العثور على بدائل لها، وتطبيق هذه البدائل بالتوافق وليس بالعزلة التي أصبحت تقودها التقنية الرأسمالية الحديثة.
علي بن سليمان الرواحي باحث ومترجم في القضايا الفلسفية المعاصرة