رأي.. عمر حرقوص يكتب: وداعاً قصة الحرة
تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT
هذا المقال بقلم الصحفي والكاتب اللبناني عمر حرقوص*، والآراء الواردة أدناه تعبر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة وجهة نظر شبكة CNN.
كانت 7 أعوام مليئة بالأخبار المتواصلة والثورات والحروب والتظاهرات والانفجارات، ومواضيع فرضت نقاشات صعبة واختلافات ضمن غرفة الأخبار الواحدة باختلاف منابت العاملين فيها، وتنازلات قدمناها أحيانا لأجل أن يكون الخبر كما هو محايداً وموضوعياً، ومنحازاً بالتأكيد للقتلى واللاجئين والمهاجرين من وصلوا منهم، أو الغارقين في البحر والمخطوفين والرهائن والمعتقلين والنساء والأطفال، كذلك الأقليات كل الأقليات في منطقتنا بدون استثناء.
من تأسيس "قسم الأخبار" في مكتب دبي ووضع أسس كتابة الخبر والتقرير وشكل الصورة كقناة قررت إحدى إداراتها إعادة الانطلاق عام 2018، إلى البحث عن الحقيقة في سباق مع الأقنية ومحطات التلفزة لإيصال الصورة والمعلومة بدءاً من العواجل وتطوير "القصة" إلى انتظار ردود فعل الناس على الأرض وفي وسائل التواصل.
كنت هناك خلال 7 أعوام مرت فيها تغيرات إدارية مرتبطة بالتغيرات السياسية في واشنطن، بعضها كان حراً بالكامل وبعضها أحياناً يطالب بالانحناء أمام عواصف عاتية أو الصمود لأقصى قدر، لكن كل الظروف لم تمنع إعلان الموقف نفسه المدافع عن الحقيقة كما هي.
كانت التهديدات التي يتعرض لها زملاؤنا على الأرض تفرض علينا أحياناً أن نتعاطى بحذر مع ملفات محددة، أو نفتش فيها عن زوايا يمكن منها العبور إلى الحقيقة، في العراق كنا نلاحق قصص هشام الهاشمي وثوار تشرين حين يقتلهم رصاص راكب دراجة نارية أو قناص يختبئ في مبنى، وفي بيروت كنا مع قتلى انفجار المرفأ وقبلهم ثوار تشرين ورافقنا لقمان سليم لنرى كيف تضيع قضيته في بلدان العدالة المفقودة بعدما قتلته رصاصات الغدر، كما كنا مع المتظاهرين في السودان حين هاجمهم "العسكر" أمام مقر القيادة فقتلوا منهم المئات وأخفيت جثثهم، نحمل قصتهم ونحكي عنهم كما نحكي عن مهسا أميني والمتظاهرين في إيران الذين ذبحوا بينما العالم يتفرج.
كانت الحرة تلاحق الملفات الممنوعة عن النقاش عربياً كل الملفات، تحكي بحرية عن الأيزيديين والبهائيين، وتروي قصص السوريين الذين قتلهم نظام الأسد وسلسلة حلفائه، وبعدهم أهل الساحل الذين قتلهم "أبو دجانة" وسلسلة حلفائه أيضاً، كنا مع أهالي غزة منذ اليوم الأسود المشؤوم في السابع من أكتوبر واستمرينا معهم في جهنم التي يعيشونها، وكيف يموتون بعدما قُتل مئات الإسرائيليين وعاث القتل بحياتهم واختطفوا وعاشت عائلاتهم تحت الرعب وانتظرت عودتهم، نربط قصص الناس هنا وهناك كأنهم بيت واحد، لأنهم بيت واحد، نتابع وجعهم لنحلم بوقف الحرب وحلول السلام في المنطقة التي لن ينجو منها أحد بسيطرة المتطرفين على جهتي القتال، قلنا الحقيقة عن كل ما يحصل بمعيار وحيد "ضد السلاح كل السلاح" ومع السلام لأجل الغد الذي سيعيشه أولادنا.
عشنا مع "الحرة" ملفات كثيرة لا تنتهي وستستمر إلى أن يأتي زمن العدالة والحرية وهو حلم أيضاً صعب التحقيق ولا أعرف إن كان سيجد مكانه بيننا في يوم ما.
لكن "الحرة" انتهت، أقفلت الباب بعد 21 عاماً على تأسيسها، صارت من الماضي المستمر في منطقتنا، ولم تستطع الصمود أمام قبضة ترامب القاضية، التي تصنع عالماً جديداً لا نعرفه اليوم لكننا نشهد على نشوئه.
* عمر حرقوص، صحفي، رئيس تحرير في قناة "الحرة" في دبي قبل إغلاقها، عمل في قناة "العربية" وتلفزيون "المستقبل" اللبناني، وفي عدة صحف ومواقع ودور نشر.
نشر الثلاثاء، 15 ابريل / نيسان 2025تابعونا عبرسياسة الخصوصيةشروط الخدمةملفات تعريف الارتباطخيارات الإعلاناتCNN الاقتصاديةمن نحنالأرشيف© 2025 Cable News Network. A Warner Bros. Discovery Company. All Rights Reserved.المصدر: CNN Arabic
إقرأ أيضاً:
زيف السرديات وصراع الحقيقة: الإسلاميون والحرب في السودان من منظور حنّه أرندت
زيف السرديات وصراع الحقيقة: الإسلاميون والحرب في السودان من منظور حنّه أرندت
بقلم : م. فؤاد عثمان عبدالرحمن
في زمن تغمره الضبابية السياسية والحروب المفتوحة، تُصبح استعادة الحقيقة عملاً مقاوِمًا. ولعل واحدة من أعظم من نبهتنا إلى خطورة تحطيم الحقيقة الواقعية باسم السياسة هي الفيلسوفة حنّه أرندت، التي حذّرت من أن “من يقول الحقيقة يُنظر إليه كمن يقوض النظام”. اليوم، في السودان، نعيش فصلاً كاملاً من هذا العبث، حيث تعمل منظومة الإسلاميين — التي حكمت البلاد منذ انقلاب 1989 حتى ثورة ديسمبر 2018 — على إعادة إنتاج ذاتها عبر تزييف الواقع وصياغة سردية كاذبة للحرب الدائرة.
من الانقلاب إلى اختطاف الدولة:
بدأ المشروع السياسي للإسلاميين بانقلاب عسكري في الثلاثين من يونيو 1989، قطع المسار الديمقراطي ورفع شعار “تطبيق الشريعة”، لكنه في جوهره كان مشروعًا لاحتكار السلطة وبناء دولة أمنية أيديولوجية. ولتثبيت أركان حكمهم، أنشأوا أجهزة موازية داخل الدولة: جهاز أمن ضخم متغوّل، واقتصاد ظل، ومليشيات تقاتل بالوكالة عن الدولة في الأطراف، أبرزها “قوات الدفاع الشعبي”، ثم لاحقًا “قوات الدعم السريع”.
ورغم خطابهم الظاهري عن تقوية الجيش، عمدوا إلى إضعافه فعليًا عبر تفتيته، وتغليب الولاءات الحزبية على المهنية، وتحويل مؤسساته إلى أدوات للنظام، لا للدولة. وهكذا، الي أن جاءت ثورة ديسمبر المجيدة لتعديل تلك الاختلالات، والتي قطع النظام البائد، بجانب طموح قادة المؤسسة العسكرية السلطوي وولغهم في السياسة، الطريق لإكمال مسارها.
السقوط والثورة: الحقيقة التي لا يريدون رؤيتها:
سقط نظام الإسلاميين بثورة سلمية فريدة، أنهت ثلاثين عامًا من الاستبداد، وفتحت الباب أمام أفق جديد للتحول الديمقراطي. لكن الحقيقة التي لم يقبلوها — بل حاولوا تدميرها — هي أن جماهير الشعب لفظتهم في الشوارع. لم يسقطوا فقط كسلطة، بل كمشروع فكري سياسي.
بدأت حربهم المضادة من اللحظة الأولى للمرحلة الانتقالية، عبر تغلغلهم العميق في مؤسسات الدولة، وإثارة الفوضى، وخلق الأزمات، ومواصلة اختراق الأجهزة الأمنية، إلى أن وصلوا إلى لحظة الانقلاب في 25 أكتوبر 2021، الذي شكل العودة الثانية لهم إلى واجهة المشهد، هذه المرة عبر “قوى الثورة المضادة” وليس عبر الدبابات وحدها.
من الانقلاب إلى الحرب: صناعة سردية زائفة:
لم تكتمل عودة الإسلاميين رغم الانقلاب، فالدولة بقيت ضعيفة، والمجتمع يرفضهم. حينها، كان الحل بالنسبة لهم هو الفوضى الشاملة: إشعال الحرب.
في 15 أبريل 2023، اندلعت المواجهات بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع. وسرعان ما بدأ الإسلاميون في نسج سردية كبرى: أن هذه “حرب كرامة”، معركة وطنية لاستعادة السيادة. لكن الحقيقة، كما في تحليل أرندت، شيء مختلف تمامًا.
المفارقة الكبرى: حين يصير صانع الوحش منقذًا منه:
في ترويجهم لسردية الحرب، يستغل الإسلاميون فظائع الدعم السريع — تلك التي وقعت في ولايات السودان التي طالتها يد الحرب — من قتل واغتصاب ونهب وتشريد، ليقدّموا أنفسهم فجأة كـ”حماة الأرض والعرض”، و”رجال الاستقرار” و”مرجعي الناس إلى منازلهم”. لكنهم يتجاهلون أن هذه القوات التي يشيطنونها اليوم، هم أنفسهم من أنشأها، وقنّنوها عبر برلمانهم في 2017، بل وخاضوا بها حروبهم ضد الحركات المسلحة في دارفور وجبال النوبة وجنوب النيل الأزرق ، حيث ارتُكبت نفس الفظائع بحق المدنيين لعقدين كاملين.
تلك هي المفارقة الكبرى: أن يتحوّل صانع الوحش إلى منقذٍ منه. وهذه ليست فقط مفارقة سياسية، بل مثال حي على ما وصفته حنّه أرندت بـ”محو الحقيقة الواقعية” وإعادة إنتاج سردية زائفة تتنكر للماضي وتُفبرك الحاضر.
تحطيم الحقيقة: مشروع الإسلاميين الجديد:
تقول حنّه أرندت في أحد أكثر مقاطعها نفاذًا وتحذيرًا من الطغيان الحديث:
” الكذب السياسي ليس جديدا، ولكن مايميز الأنظمة الشمولية، أنها لاتكتفي بالكذب، بل تسعى لمحو الفرق بين الحقيقة والخيال، بين الصواب والخطأ، فتعاد صياغة الواقع ليصبح الوهم هو الحقيقة المعترف بها رسميا”
بهذا المنظور، لا يكون الكذب مجرد أداة لحجب المعلومات، بل يصبح مشروعًا كاملاً لتدمير الحقيقة ذاتها، وتحطيم قدرة الناس على التمييز. وهذا ما نراه ماثلاً اليوم في مشروع الإسلاميين في السودان، ليس منذ اندلاع الحرب، بل منذ أن قرروا أن “التمكين” لا يعني فقط السيطرة على المؤسسات، بل على العقول والذاكرة الجمعية واللغة السياسية نفسها.
لقد دأب الإسلاميون، منذ وصولهم للسلطة، على إعادة تعريف الواقع بما يخدم سرديتهم. فالفساد يصبح “رزقًا حلالًا”، والقمع يصبح “حزمًا شرعيًا”، والحرب في الأطراف توصف بأنها “جهاد”، بينما كانت في الحقيقة سحقًا للمجتمعات المهمشة وتدميرًا ممنهجًا لها. وكلما ظهرت حقيقة — سواء في دارفور أو جبال النوبة أو الخرطوم أو في ملفات الاقتصاد — كانت تُدفن بسردية مضادة، يصاغ لها قاموس جديد وأجهزة إعلام، ومؤسسات دينية، ومصطلحات تعبوية تعيد إنتاج الزيف كواقع.
وما نعيشه اليوم من سردية “حرب الكرامة” هو امتداد طبيعي لهذا المشروع: محاولة لإقناع الناس أن ما يحدث ليس انهيارًا لدولة صنعوها هم، بل لحظة وطنية كبرى يعاد فيها تعريف الوطنية ذاتها على مقاس من أشعلوا النيران في البلاد.
وما تراه أرندت خطيرًا ليس فقط أن الناس يُكذّب عليهم، بل أنهم يفقدون تدريجيًا القدرة على معرفة ما هو صحيح، وما هو زائف، لأن “الحقائق لم تعد موضوعًا للتفكير، بل ساحة حرب سياسية”. وهذا هو جوهر ما تقوم به آلة الإسلاميين الإعلامية والسياسية حاليًا: أن تجعل من الثورة “خيانة”، ومن القمع “أمنًا”، ومن الحرب “استقرارًا”، ومن التهجير “فرصة للعودة”.
إن السرديات الزائفة لا تهزم الحقيقة بالمنطق، بل بإغراقها في ضجيج كثيف من التضليل، حتى تتعب العقول، ويستسلم الناس إلى “الواقع المفبرك” لأنه صار الأكثر تداولًا، لا الأكثر صدقًا.
وهذا مايسعون إليه، أن تمحي ذاكرة الثورة، أن يتحول الشعب من ضحية إلى متهم، وأن تحول الحرب من كارثة إنسانية الي ملحمة بطولية.
أن تتحول الحقيقة الواقعية _أنهم اسقطو بثورة شعبية _ إلى كذبة، وأن تصبح الكذبة _ انهم يقاتلون لأجل الوطن _ حقيقة.
لكن رغم ذلك، تبقى الحقيقة _ كما تقول ارندت _ “عنيدة بطبعها”، وانها ليست ملكا لهم، بل ملك الذين سارو في الشوارع وقاوموا القمع ولايزالون يحلمون بأن السودان يستحق السلام والديمقراطية، وأن الحرب ليست (ملحمة كرامة)، بل جريمة أخلاقية وسياسية واقتصادية، تورط فيها من تأمر على ثورتهم، ثم يسعى ليحكمهم مجددا بجثة وطن.