الجسد، ذاك الهامش الذي ظنّوه هشًّا، أصبح ساحةً يتبارى فيها الرماة الجدد؛ لا في معركة نظيفة النوايا، بل في مجزرة تُدار ببرودة الحذاء العسكري حين يخطو على ملامح الحياة. كل ما في الأمر أن سودانًا قديمًا قد مات، أو قُتِل عن عمدٍ مع سبق التواطؤ بين العساكر والخطاب الديني المستنقعي، بين الرصاصة والفتوى، بين المتحدث باسم الجيش ومنشد كتائب البراء.

هناك، حيث كانت الساحات تُستعاد فيها المدن للناس، غدت الآن رؤوس الناس ساحة لتعلّم القنص. ليس مجازًا بل واقعًا، في زمنٍ بات فيه المدني السوداني محض هدف حيّ، يمارس عليه الجندي رماية الصيد، ويعلّق نجاحه في التصويب على جمجمة مواطن، لم يفعل سوى أن مشى تحت شمس حارقة، أو أطل من نافذة بيته.

إنهم يتدرّبون على الجسد، لا على العدو. والفرق بين الجندي المحترف والقاتل المرتبك لم يعد واضحًا في جحيم الخرطوم ولا في الظلال الطويلة لوَد مدني المنكوبة.
لا يُطلقون النار من خوف، بل من لذة، لذة السيطرة على الفزع. هكذا، تحوّل الجسد السوداني إلى هدف رمزي للحكم، كأن الدولة ذاتها لم يعد لها سوى هذا الجسد تهزمه مرارًا لتثبت أنها لا تزال تحكم ولو على الأطلال.

في الجزيرة، في طيبة بالاسم لا بالفعل، ذُبح الناس كالطقس، كأنها مسرحية قديمة أُعيد إخراجها بحرفية جزارين لا يعرفون اللغة. أُحرقت القرى بعد أن نُهبت، وبُعثرت الماشية التي كانت تمد الأرض بما تبقّى من استقرار. انتشلت الجثث من الأزقة وساحات المساجد، طُمست الشواهد، وبقي في الذاكرة فقط مشهد شيخ يُذبح أمام تلميذه، أو أم تئن بعد أن نُزع رضيعها منها لتُغتصب أمام صمت الحيطان.

وهناك، حيث الغرب يُجاهد في التمييز بين الجلاد والضحية، دارفور تُباد من جديد، بهدوء متعمد. المساليت، هذه المجموعة التي لم تطلب يومًا دولة، ولا رفعت سلاحًا خارج حدودها، يُخيّرها المسلحون بين الموت أو المنفى المفتوح على العراء، على الصمت، على حدود لا يسكنها أحد إلا الناجون من المجازر. ومع أن العالم قد شهد، فإن أحدًا لم يتوقف ليفهم كيف تُعيد قوات الدعم السريع إنتاج مشاهد الإبادة وكأنها تحفظها عن ظهر رصاصة.

الاغتصاب، لم يعد سلاحًا مسكوتًا عنه. بل صار أداة سياسية معلنة، تمارس في وضح النهار، في الخرطوم ودارفور وكردفان، بأيدٍ سمراء مسلحة وبنظرات لا ترتجف. فتاة تُحمل عنوةً إلى معسكر، تتناوب عليها البنادق، لا لشيء إلا لأن أمّها صوتت ذات يوم لصالح الحرية. شهادات النساء تُروى بمرارة تُقطّع أوصال اللغة. هناك من استُعبدت في بيوت ضباط، ومن فُتحت أجسادهن كخرائط للانتقام. بعضهن صُبّ عليهن الماء المغلي بعد الاغتصاب، وبعضهن قُطعن، وهن على قيد الحياة، فقط لتكون الرسالة أوضح.

من لم يُغتصب، هُجّر. ومن لم يُهجر، جُوِّع. ومن لم يُجَوَّع، قُصف وهو يفر. في الجنينة، يُجبر المدني على الاختيار بين القبر والترحال. وفي جنوب كردفان، تُحرق القرى فقط لأن ملامح ساكنيها تُشبه التاريخ. لا بوصلة ولا رحمة. فقط جيشٌ فقد معناه، ودعمٌ سريع أبطأ من أن يستوعب ما تبقّى من إنسانية في الميدان.

إن كل ما يجري لا يشي بحربٍ على السلطة فحسب، بل بكراهية للإنسان، بنقمة على الجسد، على أنفاسه، على صبره، على ذاكرته. لقد تحوّل الإنسان السوداني إلى محض مادة حربية، يُقتل لأنه لم يمت سابقًا، يُغتصب لأنه ما زال يأمل، يُهجّر لأنه يشبه الغد، والغد لدى هؤلاء جريمة.

وهنا، يحضر صوت هربرت ماركوز، وهو يقول: “حين يُختزل الإنسان إلى مجرد وسيلة، فإن كل ما فيه يُحوّل إلى ساحةٍ للسيطرة: جسده، لغته، ذائقته، وحتى موته.”، وكأن الفيلسوف قد قرأ تقارير الحرب السودانية قبل نصف قرن.

من كان يتساءل عن فداحة السلطة حين تتحالف مع الوهم، فلينظر إلى السودان، حيث الدولة لم تعد تُحكم بالقانون، بل بالقتل. لا سلطة مدنية ولا حتى دكتاتورية واضحة، فقط خليط مسلح من رجالٍ يشبهون الكوابيس، يحكمون بالسيف والمزاج، يوزّعون الموت كما توزع الخطب في المساجد، ويغسلون أياديهم بالدين.

الخرطوم، دارفور، الجزيرة، كردفان… ليست مناطق متفرقة، بل جراح في جسدٍ واحد أُعلن موته سريريًا. والمفارقة أن الجناة لا يطلبون الغفران، بل يريدون من الضحية أن تعتذر لأنها لم تمت في الوقت المناسب.

هل سيُحاسَب أحد؟ ربما. لكن الجسد، ذلك الجسد الذي حمل الوطن، لم يعد كما كان. صار خريطةً للذل، وشاهدًا على عصرٍ يعاد فيه تعريف الجريمة لا بحسب فظاعتها، بل بحسب الجهة التي ترتكبها.

هذا ليس توصيفًا لواقع. هذا إعلان فجيعة، ونعي لضمير كان ينبغي أن يستقيل منذ الطلقة الأولى.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لم یعد

إقرأ أيضاً:

أبناء صعدة يحتشدون في 36 ساحة اسنادا لفلسطين

وخرجت المسيرة المركزية بالمحافظة في ساحة المولد النبوي الشريف غرب المدينة، فيما خرجت بقية المسيرات في ساحات الشهيد القائد، شعارة وبني صيّاح والحِجْلَة وبني القم وغربي الشوارق برازح، السهلين والعقلين والبُرقة بآل سالم، عرو وجمعة بني بحر.

وعمت المسيرات ساحات العين والقهرة والسَرْو والبراك، وساحة لبني سعد والرقة بالظاهر، ربوع الحدود ومدينة جاوي، وساحة لولد عمرو وبني عبّاد بمجز، وساحات الجرشة وبقامة والرحمانين بغمر، قطابر، يسنِم بباقم، كتاف، أملح، العقيق، ذويب، مذاب، آل مقنع، نيد البارق، وستخرج مظاهرات في ساحات الخميس بمنبه، شدا، الجُفْرَة وعُضْلَة بالحشوة، وآل ثابت بقطابر بعد الظهر.

وحمل المتظاهرون الأعلام اليمنية والفلسطينية، ورايات الحرية، واللافتات المؤكدة ثبات الشعب اليمني على موقفه المساند للشعب الفلسطيني والتحدي للعدوان الأمريكي البريطاني على بلادنا.

ورددوا هتافات منها: (هبتنا في يوم الجمعة.. لأمريكا أكبر صفعه)، (مشروع شهيد القرآن.. أسقط مشروع الشيطان)، (الحظر البحري التام.. صفعة لكيان الإجرام)، (موتوا يا أحفاد القردة.. لن نترك غزة منفردة)، (تحيا الوقفات القبلية.. نبض مواقفنا العملية)، (بالقرآن وبالإيمان.. واجهنا صلف الطغيان)، (مع غزة شعب وقيادة.. نزداد ثباتًا وإرادة)، (نحن جنود الله القاهر.. لن يهزمنا ترامب الكافر)، (أمريكا سقطت أمريكا.. وزوال إسرائيل وشيك)، (الجهاد الجهاد.. كل الشعب على استعداد).

وأعلن المشاركون في المسيرات المليونية البراءة من كل خائن وعميل يتعامل ويعمل لصالح العدو الأمريكي والصهيوني، داعين الجهة الأمنية لرفع جاهزيتها، وكذلك السلطة القضائية لإيقاع أقصى العقوبة على الخونة والعملاء.

وأكد الملايين في الساحات ثبات الموقف مع غزة وفلسطين في مواجهة القتلة والمستكبرين، مشددين على أن أمريكا بإسنادها للعدو الصهيوني وعدوانها على اليمن لن تفلح في منع الشعب اليمني من إسناد غزة، بل ستزيد الشعب اليمني صلابة وعزماً في مواجهتهم.

واستذكر المحتشدون الذكرى السنوية للصرخة في وجه المستكبرين.. كأول تحرك عملي لانطلاقة المشروع القرآني المبارك، واستذكروا البدايات الأولى للمسيرة القرآنية والخطوات الثابتة الواثقة بالله، وحجم التحديات والمكائد والمؤامرات التي واجهتها، والتي تحطمت بقوة الله وتلاشت أمام هذا المشروع العظيم.

وشددوا على أن الانتصارات والنتائج العظيمة التي تحققت والتي تجلت في موقف اليمن الإيماني الفريد مع غزة، مستهجنين المواقف المخزية لأمة الملياري مسلم، التي تعجز اليوم بدولها وجيوشها وثرواتها وشعوبها عن إدخال رغيف خبز أو حبة دواء لغزة المحاصرة.

ودعوا أمتنا إلى العودة الصادقة إلى نهج القرآن العظيم، ورفع الأصوات بالبراءة من أعداء الله، وتفعيل المقاطعة الاقتصادية، كأسلحة فعالة، وخطوات عملية سهلة ومؤثرة جربناها وشاهدنا نتائجها، وعرفنا قيمتها، وشاهد وعرف معنا العالم كله.

وأشادوا بالصفعات المتوالية التي وجهها المجاهدون وقواتنا المسلحة، وآخرها ما حدث لحاملة طائراته ترومان وطائراتها، مضيفين: وها نحن اليوم نوجه له الصفعات أيضاً من خلال خروجنا المليوني الذي لا مثيل له، ومن خلال وقفاتنا القبلية المشرفة.

وكما في كل أسبوع تخرج صباح وعصر اليوم الجمعة مئات المسيرات المليونية في العاصمة صنعاء ومئات الساحات بمختلف المدن والمديريات بـ14 محافظة حرة.

 

مقالات مشابهة

  • وزير العدل يؤكد مواصلة ملاحقة كل الدول التي اجرمت في حق الشعب السوداني
  • أبناء صعدة يحتشدون في 36 ساحة اسنادا لفلسطين
  • عندما يلتقي الواقع بالذات.. أنرى الحقيقة أم أنفسنا فقط؟
  • مفوض حقوق الإنسان: الرعب الذي يتكشف في السودان لا حدود له
  • المنارات التي شيدها أول مايو: النقابة وإنسانيتنا الإسلاموعروبية
  • السلطات بالخرطوم تشرع في إزالة ونظافة أكبر البؤر التي كانت تستخدمها المليشيا للمسروقات والظواهر السالبة
  • الأنبار تشتعل انتخابياً.. معركة مبكرة بين 21 كياناً وقوى ناشئة تتحدى الكبار
  • هجوم على الفاشر ومجزرة في أم درمان وضربات للبنية التحتية.. الجيش السوداني يُحبط خطة شاملة لميليشيا الدعم السريع
  • عاجل.. إصابة 21 مستوطنا بعد الاشتباه بحدث أمني في ساحة "هبيما" بوسط تل أبيب
  • البيت الأبيض: ترامب يركز على تراجع معدلات التضخم التي خلفتها إدارة بايدن