أي الملوك دام؟!.. المصير الأمريكي (1)
تاريخ النشر: 15th, April 2025 GMT
مات جالتونج ولم تمت أمريكا..
لكن هل دام قيصر؟
وهل يبقى سرمديا إقرار سيارتاكوس (اليائس المستنكر) في قصيدة أمل دنقل: لا تحلموا بعالم سعيد، فخلف كل قيصر يموت، قيصر جديد؟
مسافة هائلة بين تشاؤم سبارتاكوس وهو معلق على مشانق الصباح، وبين نبوءة يوهان جالتونج التحذيرية التي أعلنت سقوط الإمبراطورية الأمريكية هذا العام (2025).
جالتونج عالم رياضيات في الأساس، لكنه اتجه لعلم الاجتماع وأسس مدرسة علمية مختصة بسبل إقرار السلام في العالم، واعتبر أن أمريكا تجسد نموذجا لشيطان الحرب الذي يهدد السلام العالمي، وفي مقال شهير نشر عام 2009 تنبأ جالتونج بسقوط أمريكا عن عرش العالم في عام 2025، ومع تولي ترامب رئاسة أمريكا في الفترة الأولى عجل جالتونج بموعد الموت الأمريكي إلى عام 2020، مرجحا أن سياسات ترامب وأفكاره الشعبوية اليمينة الحمقاء ستشعل فتيل النهايات بوتيرة أسرع، مؤكدا تراجع القوة العالمية للولايات المتحدة وظهور بودار التفكك داخل بنية النظام الأمريكي قبل انتهاء ولاية ترامب، ولما أوشكت الفترة الرئاسية الأولى على الانتهاء وظلت أمريكا تهيمن على العالم سئل العالم الذي توقع قبل سنوات بأحداث بارزة مثل تفكك الاتحاد السوفييتي وانتفاضة ميدان "تيان ان من" في الصين، فقال إن السقوط ليس لحظة فاصلة، لكن الشواهد تؤكد أنه يحدث بالفعل داخل النظام الأمريكي.
وأورد جالتونج حيثيات حكمه تفصيلا في كتاب "سقوط الإمبراطورية الأمريكية.. ثم ماذا؟"، الذي أشار فيه إلى صعود الفاشية داخل أمريكا كمؤشر واضح لتراجعها وانحلالها، واستشهد بتصريحات وسياسات ترامب عن المناهضة للمهاجرين والمنتقدة بجهل استراتيجي لمكونات حلف الناتو والدول الأعضاء لأسباب مالية وليس عسكرية أو استراتيجية.
وأوضح جالتونج أن الانهيار لا يحدث بصورة ثابتة مثل تفكك الولايات كما حدث مع الاتحاد السوفييتي أو الزوال والانقسام المتشظي كما حدث لنموذج الإمبراطورية الرومانية القديمة، لكن للانهيار وجوه متعددة، منها نظرة الدول الأخرى للاستمرار في التعاون لأنها تكتشف أنك لست حليفا جيدا، وتبدأ المشاكل مع الشركاء ويستمر التباعد حتى تضطر لخوض حروبك ونزاعاتك في العالم وحدك أو من خلال مرتزقة ودول سيئة السمعة.
وأوضح جالتونج أن المتابع الجيد يمكن أن يلاحظ بوادر هذا كله، فأمريكا تكتفي في السنوات الخيرة بالقصف من ارتفاعات عالية، واستخدام طائرات بدون طيار تُدار بواسطة أجهزة كمبيوتر من مكاتب خفية مكيفة، وتجنب الحروب النظامية بالاعتماد على شركات مرتزقة وقوات خاصة تقتل في كل مكان بأسوب القتلة المأجورين. وباستثنا دول شمال أوروبا، التي تدعم الحروب الأمريكية، فإن بقية العالم لا تتورط مع أمريكا في جرائمها العسكرية المسيئة للسلام العالمي. ورجح جالتونج ألا يستمر الدعم الأوروبي لمغامرات أمريكا العسكرية بعد عام 2020.
ربما تأخر الموعد الذي حدده جالتونج (رحل عن عالمنا العام الماضي) بعد أن أكد أن اقتحام المتطرفين اليمينيين لمقر الكونغرس الأمريكي هو الإعلان الأوضح لسقوط النظام الأمريكي، حتى لو لم يكتمل السقوط شكليا، لكن الفكرة طرحت نفسها، وكان من الممكن أن ينال السوس من عصا سليمان فيبدو الموت معلنا، لكن النظام مات وإن ظلت جثته واقفة استنادا على عصا مؤقتة.
التشبيه بحالة سليمان يخصني، لكنه يعبر عن المعنى الذي شرحه جالتونج بكلمات واستشهادات كثيرة.
المقال لا يركز على عرض كتاب جالتونج ولا سيرته العلمية، لكنه يركز على سؤال "المصير الأمريكي"، ويستخدم في ذلك محتوى الكتاب ونبوءة العالم النرويجي الذي ظل مرشحا طويل الأمد لجائزة نوبل دون أن يحصل عليها لأسباب مفهومة. ومن المعروف أن الحديث عن موعد السقوط الأمريكي قديم ومتكرر، وهناك أبحاث ودراسات كثيرة ناقشت ذلك، لكنها ظلت لفترة طويلة تعتمد على افتراضات نظرية ومقارنات تاريخية، وأحيانا أمنيات فكرية للمعارضين والمحذرين لنموذج الهيمنة الأمريكي، كما أن عددا من مستودعات الأفكار ومراكز الدراسات الاستخباراتية داخل أمريكا اهتمت بأسئلة المصير لتجنب التعجيل بالسقوط.
فالقوة البراجماتية التي تحكم أمريكا تعرف أن لكل دولة دورة معروفة؛ تبدأ بالميلاد والطفولة ثم الفتوة والشباب وصولا إلى الشيخوخة والوهن، لذلك انشغلت تلك المراكز البحثية في مهمة مد فترة القتوة والشباب وتأجيل الشيخوخة لأقصى مدى، عن طريق آليات التجديد والإحلال وامتصاص الدماء من الشعوب الأخرى، وإضعاف دول العالم لتظل أمريكا الأقوى والأكثر سيطرة
عاد ترامب إلى البيت الأبيض مجددا بعد فترة هزلية مأساوية أظهر فيها المرشح الجمهوري جو بايدن الصورة الحقيقية للنظام، على طريقة الصورة الحقيقية لدرويان جراي في رواية أوسكار ويلد، كشاب ارستقراطي مستهتر يبيع روجه للشيطان مقابل صفقة يظل فيها على جمال مظهره وشبابه بينما تتحمل صورته كل جرائمه وآثامه، ويظل دوريان يخدع الناس ويحرص على إخفاء صورته القبيحة في قبو مظلم أسفل القصر، لكن درجة القبح وصلت إلى درجة لا تحتمل وتهدد بفضح حقيقته في يوم ما، فيقرر التخلص منها، وهو لا يدرك أنه يساعد بنفسه في التخلص من نفسه.
ومن هنا تتكشف لنا القصة المأساوية العميقة خلف شعار ترامب عن ضرورة العمل من أجل "عودة أمريكا عظيمة مرة أخرى". الشعار يتضمن اعترافا بسقوط أمريكي جزئي، والادعاء بأن دوريان جراي وحده هو القادر على حل كل المشكلات واستعادة العظمة المفقودة والمجد الضائع..!
القصة الواقعية للحال الأمريكي الآن وللمصير الأمريكي المنتظر خلال سنوات قليلة أكثر إثارة من حديث الافتراضات النظرية في السنوات السابقة، ومن استشهادات الأدب وأفلام الغزو الفضائي للأرض، خاصة بعد الدعم الأمريكي الوقح للإبادة في فلسطين عموما (غزة والضفة أيضا)، وانكشاف الصورة القبيحة للوجه الأمريكي في التعامل مع مفارقة (غزة/ أوكرانيا)، وترحيل مقيمين ومهاجرين يدرسون في الجامعات الأمريكية لاسباب تتعلق بالتظاهر الاحتجاجي السلمي والإدانة الإنسانية للإبادة، كذلك حديث ترامب عن ضم جرينلاند والتعامل المتغطرس مع العالم كله وليس أمريكا اللاتينية ومنطقة الشرق الأوسط فقط.
فالرسوم الجمركية التي فرضها ترامب على العالم أعادت للأذهان أسلوب الجزية الرومانية التي مهدت مع عوامل داخلية وخارجية بسقوط روما، وهو ما تناقشه هذه السلسلة من المقالات للتعرف العلمي والواقعي على المصير الأمريكي.
وفي المقال المقبل نواصل..
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء سقوط الإمبراطورية ترامب الانهيار امريكا انهيار سقوط إمبراطورية ترامب قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة اقتصاد أفكار سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
أمريكا.. استراتيجية (عولمة) الفوضى.!
يحسب لملحمة (طوفان الأقصى) – كواقعة غير مسبوقة في فعلها وفي تداعيات ما بعد الفعل – أنها أسقطت الكثير من أقنعة الزيف التي كانت تخفي خلفها أوجه النفاق والزيف والكذب، وعلى مختلف المستويات والاتجاهات فلسطينيا وعربيا وإسلاميا ودوليا، ناهيكم أن هذه الملحمة عرت الكيان الصهيوني وأظهرته على حقيقته ككيان عنصري استيطاني مجرد من كل القيم والأخلاقيات الحضارية والإنسانية، كيان مجرم متوحش، والإجرام والتوحش ليسا مجرد ظواهر عابرة تأتي في سياق رد الفعل، بل هما عقيدة وهوية الكيان، والأمر ذاته ينطبق على النظام الدولي ورموزه وأعمدته التي ما برحت على مدى نصف قرن من تسويق قيم ومفاهيم عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان والقانون الدولي وحرية التجارة والانفتاح الاقتصادي، وحرية الصحافة والحريات السياسية.
مفاهيم ومصطلحات ظلت المنظومة الغربية ومؤسساتها ومراكزها البحثية تعمل على تكريسها في الوعي الجمعي الإنساني كثوابت وتذاكر دخول دول وأنظمة وشعوب العالم الثالث إلى منتديات التحضر الإنساني المعولم الذي شكلت أطيافه وحددت مساراته _ واشنطن _بعد سقوط الاتحاد السوفيتي وانهيار (جدار برلين) وتنصيب أمريكا نفسها زعيمة للعالم .
طوفان الأقصى، برغم كل المآسي التي نتجت عنها إلا أن من أبرز فوائدها أنها أظهرت حقيقة العالم وأسقطت عن وجهه أقنعة الزيف وأظهرته على حقيقته، وكشفت هذه المعركة أننا نعيش في عالم متوحش مجرد من كل القيم والأخلاقيات الحضارية والإنسانية.
إذ ظهر العالم «المتحضر» الذي تقوده أمريكا، بأنه مجرد من كل القيم ولا يؤمن بأي من الشعارات التي رفعها لتطويع شعوب العالم الثالث وتطويعها لتؤدي دور (الكلاب في إسطبلاتهم).
كما سقطت قيم الحلم الأمريكي، وبدت أمريكا بمخالبها الإمبريالية المتوحشة، إذ عملت على إهانة القانون الدولي بكل أبعاده الإنسانية والأخلاقية والحضارية والقانونية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فظهرت أمريكا كعدو لكل القوانين المنظمة للعلاقات الدولية، وسعت إلى إحلال قانون القوة بديلا عن قوة القانون، مجردة القانون الدولي من دوره ومهامه لتفرض على العالم قانون قوتها، ضاربة عرض الحائط بكل القوانين والتشريعات، ساعية بكل غطرسة ووقاحة إلى ترسيخ قانون الغاب، ليحل بديلا عن القوانين الإنسانية المنظمة للعلاقات الدولية.
لم يقف هذا الانحلال في نطاق المشهد الفلسطيني والغزاوي على وجه التحديد الذي يجرد كل المنظومة الدولية من إنسانيتها، بل طال السقوط كل مسارات العلاقات الدولية وليس ما يقوم به ويتفوه به الرئيس الأمريكي _ترامب _إلا انعكاسا لهذا الانحطاط القيمي والسلوكي الذي تحاول واشنطن فرضه وترسيخه ليحل محل القانون في تنظيم العلاقات الدولية.
إن العالم لا يمكن له أن يستمر في ظل قوانين أمريكا وترامب التي تنسف وتدمر كل ما بناه المجتمع الدولي من قوانين تنظم العلاقة فيما بين مكوناته الحضارية، والغرب الأوروبي هو أول من سيدفع الثمن لما تسعى أمريكا إلى ترسيخه ليحل محل القانون الدولي.
إن جرائم الصهاينة في قطاع غزة وفي لبنان وسوريا والمسنودة بجرائم أمريكا في اليمن وبتأييد أمريكي مطلق ودعم لا محدود للصهاينة وفي ظل تواطؤ غربي وعربي وإسلامي، سلوك سيدفع ثمنه المجتمع الدولي على المدى القريب لأن لا أحد يمكنه القبول بشريعة الغاب التي تحاول أمريكا بواسطة رئيسها ترامب فرضه على المجتمع الدولي.
بل أن أمريكا نفسها كشعب وقدرات ومؤسسات سوف يدفعون ثمن هذا الجنون الذي تسير عليه إدارة البيت الأبيض الساعية إلى (عولمة الفوضى وقانون الغاب)، بديلا عن العولمة الحضارية التي عملت أمريكا والغرب على فرضها طيلة الثلاثة العقود المنصرمة من نهاية الحرب الباردة.
في هذا السياق لا نستبعد أن تكون ( حرب غزة بكل همجية ووحشية العدو الصهيوني) وما يرتكبه من جرائم غير مسبوقة ومن قتل ودمار، أقول لا نستبعد أن تكون هذه الحرب نموذجا لحروب قادمة قد تشهدها أي من قارات العالم، وهذا يعني أن العالم في طريقه لتصفية المنظمات الأممية وإلغائها وتجاوز قوانينها وهذا ما قامت وتقوم به أمريكا والكيان الصهيوني اللذان لم يكترثا بما يصدر عن الجمعية العامة للأمم المتحدة، وما يصدر عن مجلس الأمن، وما يصدر عن المنظمات الأممية ، وحتى محكمة العدل الدولية، والمحكمة الجنائية الدولية، وما يصدر عن المنظمات الحقوقية، بما في ذلك مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة.
هذا التهميش والتجاهل لكل هذه الجهات الدولية يجعل العالم يعيش في ظل قوانين الغاب وشرعية البقاء للأقوى، وهذا يفقد أمريكا ذاتها مكانتها الدولية ويجردها من هيمنتها ونفوذها ويضع العالم أمام مرحلة فوضوية يصعب التحكم بها أو إلزام أي من عليها باحترام القانون غير المتفقين عليه والمفروض بقوة الغطرسة والهمجية السلوكية، كما تمارسه أمريكا .