السردية المعرفية للشَّف العماني
تاريخ النشر: 14th, April 2025 GMT
وُجِدتْ الدولة في عمان منذ آلاف السنين، وتطورت وفقا لتقلبات اجتماعها، فالقبيلة هي المحور الأساس فيها. بقراءتنا لنظام الحكم نجده قائماً على أساس التوافق القبلي الذي يفرضه الصراع بين الأحلاف القبلية، وهو ما أوجد توازناً منح الأسر الحاكمة أمداً طويلاً في الحكم، وأن انتقاله من أسرة إلى أخرى لا يكون بأسباب خارجية كالاستعمار والغزو، ولا داخلية بصعود أسرة أخرى، وإنما بتفكك البيت الحاكم ذاته، الذي لا يستطيع أن يحافظ على التوازن بين الأحلاف.
المقال.. يحاول أن يفهم السردية المعرفية للشَّف؛ والمقصود بالسردية.. رصد حركة القبائل على أرض الواقع والتنظير لها في كتب الأنساب. وأزعم أنه من دون فهم الشَّف؛ ووضعه على طاولة التشريح المعرفي، فمن الصعوبة أن نجتاز هيكلتنا القبلية التي لم تعد صالحة لدولة المؤسسات والقانون. وغني عن التأكيد بأن الشَّف العماني هو صدى للحراك القبلي بجزيرة العرب، وسرديته المعرفية امتداد لتلك السردية العامة، فالرواة الذين تعتمد عليهم السرديتان هم أنفسهم، ولا يمكن فهم السردية العمانية دون استيعاب السردية العربية؛ أصولاً وفروعاً وتحولات، كما أن الجزيرة العربية كانت كـ«منسف البقول» الذي تختلط فيه القبائل لحركته الدائبة.
إن السقوط المدوي للدولة القوية في عمان يعقبه تحزبٌ قبليٌ يفرز حلفين يدخلان في صراع مرير؛ مما يؤدي إلى استجلاب العدو الخارجي. حدث هذا بانهيار الدولة المركزية الأولى؛ عقب عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي(ت:275هـ) عام 272هـ، بين اليمانية والنزارية، ثم برز النباهنة وعُمِّروا طويلاً، ودخلوا في نزاع مع القبائل ونظام الإمامة، حتى قامت دولة اليعاربة؛ الدولة المركزية الثانية. ثم وقع انقسام عقب انهيار دولة اليعاربة عام 1131هـ، فبرز الحزبان المتقاتلان: الغافري والهناوي، وقامت دولة البوسعيد التي امتدت طويلاً؛ وهي الحاكمة اليوم، وقد دخلت كذلك في صراع مع القبائل ونظام الإمامة، حتى استقر الأمر بقيام الدولة الحديثة عام 1970م على يد السلطان قابوس بن سعيد(ت:2020م).
إننا أمام مشهد من التاريخ العماني تكرر مرتين، فيما يسميه المؤرخ البريطاني جون ولكنسون بـ«دورة الإمامة» في كتابه «الإمامة في عمان».
الشَّف القبلي.. ليس وليد الصراع الذي أعقب دولة اليعاربة، ولا الذي أعقب دولة اليحمد.. بل هو موغل في القدم، حيث يرى ولكنسون أنه يرجع إلى النظام الطبقي الذي وجد بفعل التأثير الفارسي على عمان قبل الإسلام، وقد تعقبت رأيه في مقال «الشَّفُّ العماني.. تحالفٌ خارج النسب والدين» المنشور في جريدة «عمان» بتاريخ: 9/ 8/ 2021م، وبيّنت أن الشَّف أقدم من ذلك بكثير، ربما يرجع إلى تأثر العمانيين بحضارة وادي السند، وأرجئ الحديث حول النشأة بمزيد من البحث والتحرير إلى مقال قادم.
بتتبع المصادر التاريخية والمراجع الفقهية والأدبية، والتي من خلالها نقف على تشكّل الشَّف، نجد أن سرديته المعرفية بدأت بعد سقوط الدولة المركزية الأولى عقب عزل الإمام الصلت بن مالك الخروصي، وأول مصدر قام ببناء السردية القبلية هو كتاب «الأنساب» لسلمة بن مسلم العوتبي(ق:5هـ)، حيث جرى فيه تقسيم القبائل إلى نزارية «عرب الشمال» ويمانية «عرب الجنوب». لكن هذه السردية لم تحصل دون سوابق سياسية واجتماعية، وأقصد الحرب الضروس التي دخل فيها الحزبان، فقد ظهرت قبل ذلك قصائد تضع اللبنات الأولى للسردية، المكتوبة تحت صليل السيوف، وهي التي قالها اللغوي العماني أبو بكر محمد بن الحسن ابن دريد(ت:321هـ).
يقول ابن دريد مستنهضاً الحلف الأزدي عقب معركة الروضة بتنوف التي وقعت حوالي عام 273هـ، والذي قتل منه خلق كثير:
أتضيع الدماء يا قوم فزعاً
لا بواء ولا دم مطلول
وبطودي عمان والسيف منكم
عدد كاثر وعز بجيل
هذا يضعنا أمام محدِّد واقعي لسردية الشَّف، وهو أنها بُنيت في ظل الصراع القبلي؛ بمعنى أن الباعث هو الاقتتال والعنف، ولم يكن التأصيل النظري عبر البحث المنهجي والتحليل النَسَبي لمسارات القبائل في عمان وامتدادها الخارجي، فالشَّف.. هو وليد الحرب وليس ابن السلم.
ثم أتى بعد ذلك الفقيه والمؤرخ سلمة العوتبي وبنى المعمار القبلي معرفياً؛ أي وضع سردية الشَّف من خلال الدرس التأريخي لأنساب العرب، وهذه عملية فقهية؛ حيث وجدنا هذا التحول من «السيف» إلى «القلم» فيما قام به الفقهاء من الجدل الكلامي بالتنظير لـ«مبدأ الولاية والبراءة»، حيث ظهرت النزوانية والرستاقية، وهما مدرستان فكريتان سادتا عمان حوالي سبعة قرون. وهو ما قام به قبل ذلك الجدل الكلامي بين المسلمين عقب الفتنة الكبرى التي وقعت بين الصحابة، وأدت إلى نشوء ثلاث مدارس كلامية كبرى: السنة والشيعة والمحكمة؛ وضعت نظرياتها السياسية وفق ظروف قبلية.
هذا التأسيس المعرفي بمداد الدم الذي قام به ابن دريد في القرن الثالث الهجري؛ نجده عند أبي مسلم البهلاني ناصر بن سالم الرواحي(ت:1339هـ) في القرن الرابع عشر الهجري، عندما ألهب حماس القبائل لنصرة الإمام سالم بن راشد الخروصي (ت:1338هـ)؛ فقال:
يا للقبائل يا أهل الحفاظ ومن أمجادهم في جبين الدهر عنوان
شدوا العزائم في استدراك فائتكم
إن العزائم للإدراك أقران
يختلف الهدف عند البهلاني عنه عند ابن دريد الذي كانت عصبيته لقومه الأزد ضد «الساميين»؛ حلف موسى بن موسى السامي(ت:278هـ)، أما البَهلاني فيستنصر القبائل؛ يمانيها ونزاريها لأجل نصرة الإمام، وهو هدف سياسي ديني، لكنه أيضاً دعوة بالدم:
ما عودتها بنو عدنان ما لقيت
منكم ولا أسكنتها الغمد قحطان
لا تحملوها إذا كانت لزينتكم
إن الرجال بفعل السيف تزدان
كما لحق العوتبيُ ابنَ دريد؛ كذلك فعل الفقيه المؤرخ سالم بن حمود السيابي (ت:1993م)؛ حيث خصص كتابه «إسعاف الأعيان في أنساب أهل عمان» لإعادة بناء سردية الشَّف معرفياً بعدما تقلبت السنون بالقبيلة في عمان، واختلفت الولاءات؛ فظهرت قبائل واختفت أخرى، مما لزم إعادة تشكيل خارطة الشَّف، وإن كان تشكيلاً متفرعاً من الأصول الأولى للأحلاف القبلية، وهذا ضروري لدمج القبائل مع بعضها تحت الأصلين الكبيرين بجزيرة العرب؛ العدناني والقحطاني، وظهرت كذلك مدرسة فكرية سلوكية؛ للانتقال من «السيف» إلى «القلم»، بعدما فتر بين المسلمين «البرهان» وانتعش «العرفان».
كل هذا يدل على أن هيكل القبيلة ظل محافظاً على نظامه الكلي في عمان والمنطقة حوالي ألفي عام، ولم يبدأ عليه كبير تغيّر إلا بقيام الدولة الحديثة عام 1970م؛ التي صحبها تغيّر في عموم أنماط الحياة.
السردية المعرفية للشَّف.. لا تقتصر على الكتب التي ذكرتها؛ فهناك مراجع أخرى يمكن الاستفادة منها؛ مثل: أعمال حميد بن محمد ابن رزيق(ت:1291هـ): «الصحيفة القحطانية» و«الصحيفة العدنانية» و«الفتح المبين» و«المؤتمن في ذكر مناقب نزار واليمن». و«تبصرة المعتبرين في سيرة العبريين» لإبراهيم بن سعيد العبري (ت:1975م). و«القصيدة الحلوانية» لمحمد بن سعيد القلهاتي(ق:6هـ)، وشرحها لعادي بن يزيد العدوي(ق:7هـ). و«القبيلة العمانية» لأحمد الزبيدي(ت:2018م)، و«الإمامة في عمان» جون سي ولكنسون. و«معجم أحلاف ظفار» لأحمد بن مسعود المعشني، الذي يدرس نوعاً آخر من الأحلاف القبيلة العمانية.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ف القبلی فی عمان
إقرأ أيضاً:
حزب الجبهة الوطنية يعلن تشكيل هيئة مكتب أمانة القبائل والعائلات
أعلن السيد القصير أمين عام حزب الجبهة الوطنية تشكيل هيئة المكتب المركزية لأمانة القبائل والعائلات المصرية، والمكون من 5 أمناء مساعدين و19 مسؤول متابعة في مختلف المحافظات، وذلك بناء على ما عرضه أمين التنظيم وموافقة الدكتور عاصم الجزار رئيس الحزب.
وأعلن الحزب - في بيان اليوم - القرار رقم 13 بتشكيل هيئة المكتب للأمانة التي يشغل النائب فايز أبو حرب موقع الأمين بها، ووقع اختيار لجنة القيادات على الأمناء المساعدين وهم: عمار عبد الحميد حامد، سعيد سليمان حسين، محمود يوسف لطيف، والنائب راشد محمد وهمان، والشيخ سالم مراحيل.
واستقر الحزب على 19 مسؤول متابعة للأمانة في المحافظات المختلفة، وهم أحمد راف الله لملوم مسؤولا للمتابعة في الفيوم، محمود صابر جبريل (أبو دومة) للبحيرة، محمد عطاالله اسماعيل للأقصر، والعمدة عبد الكريم أبو يوسف في محافظة مطروح.. أما قنا فوقع الاختيار على النائب حسين فايز أبو الوفا، وحمد محمد شمردن للمنيا، وسالم حسين أبو رجب للقليوبية، محمد محمود شوشة للدقهلية، والشيخ أمين الشعراوى البلوي في الإسماعيلية.
واختار الحزب لمحافظة بني سويف النائب على عبد العظيم أبو دولة، النائب محمد كمال تقادم لمحافظة أسوان، بسام لطفى الليثي لكفر الشيخ، المهندس رفعت عبده الطاهر للقاهرة، طارق حنفى محمد للبحر الأحمر، النائب مجدى البساطي لمحافظة دمياط، فيما جاء الشيخ فريج سالم حسن لمحافظة جنوب سيناء، حسن كمال حسن لسوهاج، العمدة محمد عادل البارودي لأسيوط، وخالد عيد نوفل دخيل الله لمحافظة الجيزة.