جريدة الرؤية العمانية:
2025-04-15@09:47:27 GMT

غزة.. بوابة الصبر وأيقونة النصر

تاريخ النشر: 13th, April 2025 GMT

غزة.. بوابة الصبر وأيقونة النصر

 

 

د. سالم بن عبدالله العامري

في سُكون اللحظات الأخيرة، حين تعلو زفرات التَّعب وتوشك الأرواح أن تنكسر تحت وطأة القصف والخذلان، يخرج الصبر من ضلوع العظماء كأنّه نورٌ في عتمةٍ حالكة. هناك، على ضفاف البحر الجريح، حيث تمضي الساعات مثقلة بالدخان والدمع، تقف غزة شامخة، لا تطلب من العالم عونًا، بل تُلقِنه درسًا في معنى الثبات الذي لا يتزحزح.

تنهض غزّة من تحت الركام... لا تسأل: أين العرب؟ ولا تنتظر خلاصًا من مؤتمرات الكلام، بل تعلّق قلبها بالله، وتنسج صبرها من خيوط اليقين، وترتدي جراحها وشاحًا من العِزّة. هناك، تتعب الأرض من كثرة ما نزفت، لكن الإنسان لا يتعب. إنَّها الضمير الأخير في عالمٍ باع الضمير، والمشهد الباقي في مسرحٍ احترقت كل ستائره.

في ميادين القتال، تأتي اللحظات الأخيرة محمّلة بالتعب، والإرهاق، وكثير من الشكوك، وقد يظن البعض أن الهزيمة قريبة حين تشتد المحن، غير أن التاريخ والتجربة الإنسانية يثبتان أنَّ النصر كثيرًا ما يولد من رحم تلك اللحظات العصيبة، وأن الصبر فيها هو الفاصل بين الهزيمة والانتصار؛ فالصبر ليس مجرد احتمال الأذى أو تحمل الألم؛ بل هو ثبات على المبدأ، وتمسك بالأمل، وإيمان بأنَّ العاقبة للمتقين.. وهو في اللحظات الأخيرة من المعركة يكون أعظم أجرًا وأشد تأثيرًا؛ لأن النفس تكون فيها على شفا الانهيار، والإرادة على حافة الاستسلام؛ فمن يصبر في آخر لحظة، قد يظفر بالنصر الذي كان يظنه مستحيلًا؛ أمًا من ينهار، فقد يخسر كل ما بناه، في لحظة ضعف واحدة. إن الفرق بين الطرفين ليس في القوة أو العدد؛ بل في الثبات النفسي والروحي؛ إنه تمامًا كما في السباقات الطويلة، لا يفوز بها من يبدأ بسرعة فقط، بل من يستطيع الحفاظ على عزيمته حتى آخر خطوة. وفي غزة، تتجلى أعظم صور الصبر والثبات التي أصبحت مثالًا حيًّا على الصبر في أصعب اللحظات وأشدّها ظلمة.

العالم، برغم ما يملكه من أقمار صناعية وتحليلات سياسية، لم يفهم غزّة بعد! لم يفهم كيف لم تسقط؟ ولماذا لا تركع؟ لم يفهم كيف يصمد شعبٌ يُقصف كل يوم ثم ينهض في اليوم التالي؟ ينفض عن قلبه غبار القصف، ويغرس في عيون أبنائه بذور الكرامة، يَشدّ على وتر الفجر صلاةً لا تضعف، ويكتب على جدران الرماد يقينًا لا يشيخ: سنعود، وإن طال الغياب." إنهم لا يصبرون ليبقوا فقط... بل يصبرون ليقيموا حُجّةً على العالم، أن الإنسان، حين يُجرَّد من كل شيء، يمكنه أن يَصمد بقلبه وحده، أن يحارب بإيمانه، وأن يُربك الطغاة بمجرد بقائه حيًا. ليست المعركة في غزّة كغيرها، فهي ليست صراعٌ بين الحديد والنار، بل صراع بين من يملك كل أدوات الفناء، ومن يملك أعظم ما يمكن أن يُحمله صدر إنسان: الإيمان بأن الأرض لا تُباع، والكرامة لا تُهدى، والنصر وعدٌ إلهيٌ لا يأتي إلا لمن ثبت ساعةً أطول من طاقة البشر. هناك، لا يُقاس الانتصار بما سقط من صواريخ، بل بما بقي من كرامة وحنين للأرض.

غزّة لا تُمارس الصبر كوسيلة عبور أو تكتيك مؤقت، بل تُجسِده كجوهر وجود، وتنسجه خيطًا في نسيج روحها، تعتنق الصبر كفلسفة حياة، تنبض بها الأرض، ويتنفسها الحجر قبل البشر، تختزن آلامها عميقًا، وتُحوّل وجعها إلى جمرة ساكنة في صدورٍ من طين ونار، تُخبّئ الدموع لتسقي بها جذور الوعي، ثم تُقاتل، وتُفاوض، وتُفاجئ، ثم تُصلي وتواصل الصمود بثقة ووعي وإيمان لا يتزعزع، ليس الصبر في معركة غزة أن تحبس دمعة أو تكتم أنينًا، بل أن تقف على شفا الموت وتُقسم ألا تموت إلا واقفًا. إنها آية من آيات الصبر في كتاب التاريخ.

هناك، حين تبلغ المعركة نهاياتها، وتتساقط الأقنعة، وتتشقق الشعارات، تظهر غزة وحدها كما هي دائمًا: عارية إلا من عزتها، محاصَرة إلا من إرادتها، مجروحة إلا من روحها التي لا تنكسر. وفي كل مرة، حين يظن العالم أن المقاومة قد ضعُفت، تُثبت غزة أن الصبر الحقيقي يولد في قلب المحن.. تنهض من قلب الرماد، وتُعيد تعريف النصر لا كحدث عسكري، بل كحدث وجودي، يظهر الصبر كقوة خارقة، تُحبط التوقعات وتقلب المعادلات.

وأخيرًا.. تعلمنا غزة أن النصر قد يتأخر، لكنه لا يغيب، وأنّ اللحظات الأخيرة من كل معركة هي في الغالب لحظات الميلاد الجديد، نتعلم أن النصر العاجل إن لم يتحقق في بعض الجولات، فإن صبر غزة هو نصر استراتيجي طويل الأمد، يزرع الأمل في نفوس الأجيال القادمة، ويؤكد أن الإرادة لا تُهزم. نتعلّم أن الصبر في اللحظات الأخيرة ليس فضيلة فقط، بل معجزة، وأن النصر، حين يتأخر، فإنه لا يذهب بعيدًا؛ بل ينتظر من يستحقه حقًًّا. إنها امتحانٌ يوميٌ لصبر العالم، وشهادة ميلادٍ لكل من اختار أن يحيا بكرامة. إنها القصيدة الأخيرة التي يكتبها الصبر، بمداد الدم واليقين، لترسُم للعالم وجهًا آخر للنصر... نصرٌ لا يُقاس بعدد الغنائم، بل بعدد الذين بقوا واقفين حين ظن الجميع أنهم سيسقطون.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

رحيل الفاتح عروة: ربطاً لأحزمة الصبر

.. رأيناها من عل وهى تبدو كطائر غريب كمافى وصف #الطيب _صالح للضباط الإنجليز أثناء مرورهم بالقرى البعيدة……رويدا يظهر شكلٍ الطائرة وهى تدنو من نقطة الهبوط في المطار القديم باديس أبابا وكنت بها وقتها قائما بأعمال السفارة حيث كان التاريخ قد وزع رقاع الدعوة لحدث لن يكون بمقدور امطار الهضبة ازالة آثاره… تقف الطائرة وكان اول المترجلين منها الابتسامة الواثقة والشجاعة لقائد الطائرة الفاتح عروة قبل ان يهبط بمعية قائد التغيير التاريخى الكبير فى اثيوبيا ملس زيناوى وسيوم مسفن وقادة كبار…الفاتح لايطالع احداث التاريخ الكبرى فى المنطقة من ارفف مكتباتها لكنه يصنعها…كانت زياراته المتتابعة لاديس أبابا ،وقدّ استوى امر استقرارها على جودى سلطة ” الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية ” ، من احداث المدينة الهامة التي تبذل لها المطارف والحشايا والاعداد على مستوى مكتب #رئيس_الوزراء ملس زيناوى ، ومنزله الذى كان حفيا بزيارات الفاتح للأسرة ، ونادى الضباط لتقديم تنويرات احيانا حول اوضاع القرن الافريقى .. عند قدومه لزيارتنا بالسفارة كنا نحس بوصوله لمقرها من واقع الجلبة التى نسمعها والناجمة عن تزاحم عمال السفارة خارج المكاتب لتحيته والترحيب به فقد كان محبوبا من الجميع… اما الطائرة التى دخلت تاريخ اثيوبيا فقد طار بها سعادة الراحل المقيم الفريق الفاتح عروة مرة اخرى إلى مكلى عاصمةالتقراى فى الذكرى الأربعين لإنشاء ” الجبهة الشعبية لتحرير التقراى ” ويحتفظ بها الان فى متحف المدينة …. دارت الايام لنلتقي بالفاتح بنيويورك وانا اخلفه فى موقع مندوب السودان الدائم لدى الامم المتحدة التى كان بها مهابا مهيبا تحفظ له نيويورك مواقف وإنجازات شتى يحمل وحده ملكيتها الفكرية بلامنازع…عندما يكون التميز حاضرا فالفاتح لايراعي فروق الوقت كما أنبأنا رفيق إنجازاته في مواقع اخرى الباشمهندس المبدع ابراهيم احمد الحسن….لئن لعب الفقيد دوراً رائداً فى النهوض بقطاع الاتصالات فى السودان فقد أعطى كذلك معنى ومغزى لمفهوم المسؤولية الاجتماعية من واقع تبنى نشاطات وجوائز للمسابقات الأدبية والفنية والثقافية والرياضية ورعاية فعالياتها وبرامجها المختلفة والمتعددة … ..الفاتح الذى اغمض الحمام جفونه وتوقفت خيوله عن الصهيل كان احد رموز عصرنا النجباء وقصة نجاح لن يكون بمقدور اجهزة ” الفارّ ” التاريخية عدم احتساب أهدافها….

السفير عبد المحمود عبد الحليم

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • محمد الأتربي: هناك عودة قوية للمستثمرين الأجانب خلال الأيام الأخيرة
  • رحيل الفاتح عروة: ربطاً لأحزمة الصبر
  • دقائق ملطخة بالدماء.. تفاصيل اللحظات الأخيرة في حياة "بودى" شهيد الغدر بالشرابية
  • شهادات مروعة عن اللحظات الأخيرة قبل قصف العدو مستشفى المعمداني
  • شهادات مروعة عن اللحظات الأخيرة قبل قصف مستشفى المعمداني
  • كيف يعلمنا الابتلاء الصبر ويقودنا إلى الله؟.. علي جمعة يرد
  • وفاء عامر تكشف اللحظات الأخيرة في حياة إبراهيم شيكا : ارتاح وزوجته جدعة| صور
  • «وفاء عامر» تكشف عن اللحظات الأخيرة في حياة إبراهيم شيكا لاعب الزمالك
  • مكلارين يسيطر على «التجارب الأخيرة» في «جائزة البحرين»