ليست المرة الأولى التي تجري فيها محاصرة مسؤول حكومي في منطقة معاشيق (تستخدمها "الشرعية" مقراً لعملها وإقامتها عند وجودها النادر داخل البلاد)، لكنها تثير أسئلة حول قدرتها وإرادتها ورغبتها بالعمل من داخل البلاد، ولست هنا في وارد تبرير كسلهم وتخاذلهم، لكن الأمر يشير إلى أن ما حدث في السابع من أبريل (نيسان) 2022، لم ينتج منه إلا مزيد من الفوضى ومكافآت مجزية تصرف على كيانات تعمل خارج الدستور والقانون وبلا لائحة، وفي الوقت نفسه تطالب من دون خجل بموازنات تشغيلية.
في البداية يجب فهم أن الانتقادات الموجهة إلى "الشرعية" لا تعني أبداً مفهومها القانوني والأخلاقي، وإنما المقصود بها من فشلوا في خلق نموذج يلتف المواطنون حوله ويثقون به ويدافعون عنه، وهذا لا يعني مطلقاً بأن النموذج المقابل الذي أنتجته جماعة أنصار الله الحوثية في المناطق التي تسيطر عليها يمكن بـأي حال من الأحوال القول بإمكانية التعامل معه والقبول به، لأنه مناقض لمعايير العصر وضد لرغبات الناس، ولهذا لا يجب الانشغال في تناول تعاملات "الجماعة" وممارساتها إلا من باب التذكير وليس لعقد المقارنة بين الكيانين، لأنهما في الواقع نموذجان فاشلان وهابطان.
وإذا جاز القول إن اندلاع الحرب في 26 مارس (آذار) 2015 جاء إعلاناً صريحاً لفشل إدارة البلاد منذ فبراير (شباط) 2012 حين جرى الاستفتاء على المرشح الوحيد نائب الرئيس حينئذ عبدربه منصور هادي خلفاً للرئيس الراحل علي عبدالله صالح الذي تنازل عن الحكم بموجب المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية، ومنذ تلك اللحظة استمر الاعتداء الصارخ على الدستور القائم والاستهتار به بتلقائية مهينة وبتفسير متعسف مغلوط أن "المبادرة" و"الآلية" تسبقان في مشروعيتهما كل المواد الدستورية والقوانين، وتسابق المستشارون في تمهيد الطريق لمتوالية الخروقات وكانوا جاهزين لخلق كل المبررات إرضاء لرغبات الرئيس الجديد.
كما أنه من الصحيح القول أيضاً إن أول تعبير عن خروقات ذات "المبادرة" و"الآلية" التي كان هادي يرى فيها ملاذه المريح لكل أخطاء حكمه، جرى اختيار خالد بحاح لتشكيل حكومة هشة أخلت ببنودهما وضمت عدداً من الوزراء الذين لم يمارسوا أبداً العمل الحكومي ولا خبرة لهم في إدارة واحدة من أهم مراحل التحول السياسي، فجاءت لاستكمال مسار الانهيار المخيف الذي كانت معالمه تطل أمام أعين الجميع ولم يدق أحد من الذين شاركوا في حكم تلك الفترة ناقوس الخطر للتنبيه أو ربما لم يرغبوا في مواجهته، ومرة أخرى كان إرضاء الرئيس هو الأهم والموجه لكل المواقف التي اتخذتها الأحزاب والمستشارون.
اقرأ أيضاً عضو مجلس القيادة ‘‘أبوزرعة’’ يكشف عن الجهة التي زودت تنظيم القاعدة بالطائرات تمت الموافقة على صرف الرواتب.. صحيفة إماراتية تكشف تفاصيل الاتفاق الأخير مع مليشيا الحوثي ونقطة الخلاف الوحيدة مليشيا الحوثي تشيع اثنين من ضباطها بعد مصرعهما في صنعاء خلال مهمة أمنية السعودية ترد على اتهامها بقتل مهاجرين أفارقة على الحدود مع اليمن الحكومة اليمنية تعلن السيطرة على معسكر جديد لتنظيم القاعدة بأبين مواطن يقتل نجله رميًا بالرصاص في محافظة إب أبو زرعة المحرمي يفاجئ الانتقالي ويكشف موقفه النهائي من ”فك الارتباط” واليمن الاتحادي رمى الحوثيون بأحدهما جثة هامدة أمام منزله.. وفاة كاتب مسرحي وشاعر سياسي بصنعاء قهرًا على فراق ولديه طيران اليمنية توقع الاتفاق النهائي لشراء طائرتي إيرباص 320 A الاتحاد العام للإعلاميين اليمنيين يستنكر جريمة اعتداء مليشيا الحوثي على الصحفي مجلي الصمدي عنصر حوثي يقتل أحد مشايخ ”الرُّقية الشرعية” في صنعاء بمسدسه الشخصي من مسافة صفر القيادي الحوثي ”حسين العزي” يعترف بالاعتداء على الصحفي مجلي الصمدي بصنعاء ويهدد بقية الناشطيناليوم مع استمرار الهدنة الهشة التي بدأت في الثاني من أبريل 2022، فإن الواقع يؤكد أن العمليات العسكرية الكبرى قد توقفت لأسباب إقليمية ودولية لا علاقة لها باليمن، فالعواصم الكبرى المؤثرة فعلياً منشغلة بقضايا أخطر وأكثر مردوداً من الملف اليمني، كما أنه من الواضح أن الحرب لن تحقق من أهدافها أكثر مما تم إنجازه.
لكن ماذا عن اليمنيين؟
لم تعد مفردات اللغة العربية كافية لوضع توصيف يليق بما يدور في اليمن شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً، لكن اليقين هو أن اليمنيين محشورون بين أطراف صارت الحرب تمثل لها ترياقاً للحياة ولو على حساب السموم التي أنبتتها سنوات تسع من الدمار والدماء والفقر والمرض والعوز والاغتراب داخل البلاد وخارجها.
ومما لا جدال حوله فالحق أن الحوثيين بدأوا في دفع البلاد نحو الاضطرابات والاهتزازات التي أحالت البلاد إلى كيانات متناثرة، وهو أمر سيصيبهم رذاذه مهما أسرفوا في التغييرات القسرية على المجتمع والتعليم.
كان هذا المآل متوقعاً من سنوات طويلة بعد بدايات خروج الشباب إلى الساحات في صنعاء وتعز وعدن ثم غيرها من المدن اليمنية لتعذر إصلاح الاختلالات البنيوية داخل المؤسسات التي لم تقو على الصمود أمام أول اختبار جدي، فانهارت هياكلها واكتشف الجميع أنها كانت قائمة على عمود واحد هو علي عبدالله صالح الذي بمجرد ظهور الشروخ في نظامه تبين ضعفه على السطح فانهار المعبد على الجميع، وتمكن الوافد الجديد بما يمتلكه من عقيدة مفرطة في التطرف ضد الآخر من الإمساك بكل السلطة وعزل كل خصومه ومعارضيه ومنتقديه.
كانت "الجماعة" الحوثية الشابة الممتلئة بالحيوية قادمة من عزلة فرضت عليها وأبعدتها نفسياً ومجتمعياً من بقية اليمن واليمنيين فافتقدت روح التسامح والانفتاح والقبول بالمختلف، وتحولت من رافعة لشعار "المظلومية" إلى "ظالمة" بقسوة ودونما رحمة، وكان قدومها إلى العاصمة صنعاء بعد انهيار كل خطوط الدفاع عنها إيذاناً بعهد جديد، ومن السخرية أن الأحزاب جميعها تعاملت معها كإضافة نوعية إلى العمل الوطني المعارض للرئيس صالح الذي أضاف لاحقاً مشهداً سيريالياً بانفتاحه على "الجماعة" ذاتها التي قاتلها في حروب ست سنوات (2004 – 2010) ثم تعاون معها بعد أن وضعه خصومه هدفاً رئيساً في مقدمة أهدافهم معلنين عزمهم التخلص منه ظانين أنهم بذلك سيمسكون بالسلطة لوحدهم.
المثير للدهشة والحسرة في آن، هو أن الذين أرادوا التخلص من صالح لم يبذلوا أي جهد حقيقي لإجراء إصلاحات في المؤسسات التي كانت من حصتهم، ولا يكفي الحديث عن "الدولة العميقة" لأنها في الواقع لم تكن موجودة أصلاً، ثم أنهم لم يقاوموا مشوار "الجماعة" للاستيلاء على السلطة، ثم مرة أخرى استسلموا إلى السكينة والاسترخاء مع بدايات الحرب تاركين أعباءها كاملة على قوات التحالف العربي التي صارت مع مرور الوقت حبل النجاة الوحيد لـ"الشرعية" التي تآكلت بسرعة مذهلة، إذ انغمست في الفساد والابتعاد من البلاد والعباد، ففقدت ثقة الناس بها وصارت بكل مستوياتها تعيش خارج الحدود الوطنية بكل تفسيراتها مكتفية بالأمن الذي توفر لها في عواصم عدة مع أسرها.
في المحصلة فإن المواطن البسيط دفع وما زال يدفع كلفة هذه الحرب البشعة بينما قادته الافتراضيون في "الشرعية" ككيان سياسي هش صار عبئاً على الجميع وفي "الجماعة" كجماعة جامحة من دون كوابح، يستثمرون بذكاء قبيح كل المعاناة بينما يستمر مسلسل إلقاء أسبابها على الآخر.
*إندبندنت عربية.
المصدر: المشهد اليمني
إقرأ أيضاً:
باحثون: عدد وفيات الحرب في السودان يزيد بكثير عن المسجل
أظهر تقرير جديد أصدره باحثون في بريطانيا والسودان أن التقديرات تشير إلى أن أكثر من 61 ألفا قتلوا في ولاية الخرطوم خلال أول 14 شهرا من الحرب في السودان مع وجود أدلة تشير إلى أن العدد الكلي أعلى بكثير مما سُجل من قبل.
وشملت التقديرات سقوط نحو 26 ألفا قتلوا جراء جروح خطرة أصيبوا بها بسبب العنف، وهو رقم أعلى من الذي تذكره الأمم المتحدة حاليا للحصيلة في البلاد بأكملها.
وتشير مسودة الدراسة -التي صدرت عن مجموعة أبحاث السودان في كلية لندن للحفاظ على الصحة وطب المناطق الحارة أمس الأربعاء- إلى أن التضور جوعا والإصابة بالأمراض أصبحا من الأسباب الرئيسية للوفيات التي يتم الإبلاغ عنها في أنحاء السودان.
وقال الباحثون إن تقديرات أعداد الوفيات الناجمة عن كل الأسباب في ولاية الخرطوم أعلى بنسبة 50% عن المتوسط المسجل على مستوى البلاد قبل بدء الحرب التي نشبت بين الجيش وقوات الدعم السريع في أبريل/نيسان 2023.
وتقول الأمم المتحدة إن الصراع دفع 11 مليونا للفرار من منازلهم، وتسبب في أكبر أزمة جوع في العالم. ويحتاج نحو 25 مليون نسمة -أي نصف سكان السودان تقريبا- إلى المساعدات في وقت تنتشر فيه المجاعة بمخيم واحد للنازحين على الأقل.
ويشكل إحصاء عدد القتلى تحديا في ظل الحرب. ويقول باحثون إنه حتى في أوقات السلم لا يتم تسجيل الكثير من الوفيات في السودان. ومع تصاعد حدة القتال، تقطعت بالسكان السبل للوصول للجهات التي تسجل الوفيات، مثل المستشفيات والمشارح والمقابر. كما تسبب الانقطاع المتكرر في خدمات الإنترنت والاتصالات في عزل الملايين عن العالم الخارجي.
رصد الوفياتتقول ميسون دهب -المختصة بعلوم الأوبئة والمديرة المشاركة بمجموعة أبحاث السودان، وهي أيضا من قادت الدراسة- إن الباحثين حاولوا "رصد (الوفيات) غير المرئية" من خلال أسلوب عينات يعرف باسم "الرصد وإعادة الرصد".
وباستخدام بيانات من مصدرين مستقلين على الأقل، بحث الباحثون عن أفراد يظهرون في عدة قوائم. وكلما قل التداخل بين القوائم، زادت فرص وجود وفيات غير مسجلة وهي معلومات يمكن البناء عليها لتقدير الأعداد الشاملة للوفيات.
وفي تلك الحالة، جمع الباحثون 3 قوائم للمتوفين:
فالقائمة الأولى بناء على مسح للجمهور عبر منصات التواصل الاجتماعي بين نوفمبر/تشرين الثاني 2023 ويونيو/حزيران 2024.
أما القائمة الثانية، فقد اعتمدت على نشطاء في المجتمع المدني و"سفراء للدراسة" لتوزيع المسح بشكل شخصي على معارفهم وشبكات تواصلهم.
والقائمة الثالثة جمعت من منشورات نعي على وسائل تواصل اجتماعي، وهو أمر شائع في مدن الخرطوم وأم درمان وبحري التي تشكل معا منطقة العاصمة السودانية.
وكتب الباحثون "ما خلصنا إليه يشير إلى أن الوفيات ظلت دون رصد إلى حد كبير".
أعداد الوفيات الناجمة عن كل الأسباب في ولاية الخرطوم أعلى بنسبة 50% عن المتوسط المسجل (رويترز) وفيات غير مسجلةولا تشكل الوفيات التي رصدتها القوائم الثلاث سوى 5% فحسب من تقديرات إجمالي الوفيات في ولاية الخرطوم، و7% من تلك الوفيات يعزى إلى "إصابات متعمدة". وتقول الدراسة إن النتائج تشير إلى أن مناطق أخرى منكوبة بالحرب من البلاد ربما شهدت خسائر بشرية مماثلة أو أسوأ.
وذكرت ميسون أن الباحثين لم يكن لديهم بيانات كافية لتقدير معدلات الوفيات في مناطق أخرى من البلاد أو تحديد عدد الوفيات إجمالا الذي يمكن ربطه بالحرب.
وأفاد مسؤول في تجمع الأطباء السودانيين بأميركا (سابا)، وهي منظمة تقدم الرعاية الصحية مجانا في أنحاء السودان، بأن النتائج تبدو مقنعة.
وقال مدير البرنامج عبد العظيم عوض الله لرويترز "العدد ربما يكون أكبر حتى من ذلك" مشيرا إلى أن ضعف المناعة بسبب سوء التغذية يجعل الناس أكثر عرضة للإصابة بالعدوى، مؤكدا أن "أمراضا بسيطة تقتل الناس".
وجاء تمويل الدراسة من المراكز الأميركية لمكافحة الأمراض والوقاية، منها بالولايات المتحدة ووزارة الخارجية وشؤون الكومنولث والتنمية في بريطانيا.
وأكد سكان أن مئات القبور ظهرت بجوار المنازل في مختلف أنحاء الخرطوم الكبرى منذ العام الماضي. ومع عودة الجيش إلى بعض الأحياء، بدؤوا في نقل الجثث إلى "الجبانة" الرئيسية في أم درمان.