ما الذي يعنيه أن تقول الدولة شيئًا، وتقصد غيره؟ أن تحمل المحاكم اسم العدالة، بينما تبرّر الظلم؟
ما الذي يبقى من المعنى عندما ينفصل الدال عن مدلوله، ويُختزل الوجود كله في قشرة رمزية فارغة؟
في السودان، لم تعد الكلمات تعني ما تقول، ولا المؤسسات تمثل وظائفها، بل صار الخطاب الرسمي كله محكومًا بـ”المعلول”، أي بما نتج عن علّة قديمة: علّة التسلط، واحتكار التمثيل، وإفراغ الدولة من مضمونها الاجتماعي.



فـ”الجيش”، كدالّ، لا يُشير إلى الحماية، بل إلى البطش؛ و”المحكمة”، كدالّ، لا تدل على العدالة، بل على توظيف القانون لخدمة القتل.
وهكذا، ما بين الدال الذي يُفترض أن يدل على هوية، والمدلول الذي يُفترض أن يُجسّدها، تنهار كل علامات الدولة، ويعلو صوت المعلول: الكيان المصاب، الذي ينتج نظامًا رمزيًا مختلًا، يعيد إنتاج ذاته بالقهر والتكرار.

لماذا يهرب الجيش السوداني من المحكمة الجنائية الدولية، ويرتمي في حضن محكمة العدل؟
أيّ معنى يُمكن أن يبقى للعدالة حين يتحوّل المجرم إلى مدّعٍ، والجثة إلى وثيقة، والدماء إلى صيغة دعوى؟
ما الذي يحدث حين ترفع الدولة سكينها بيد، وتُشهِر دفترها القانوني باليد الأخرى؟
تلك هي اللحظة التي يختلط فيها القانون بالجريمة، ويتقدّم القاتل نحو المنصة وهو يحمل اسم الضحية.

في قاعة مكيّفة في لاهاي، وقف ممثل حكومة السودان – أي جنرالاته – يتلو أمام محكمة العدل الدولية اتهامًا صاخبًا ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، بأنها دعمت مليشيا الدعم السريع التي ارتكبت، ولا تزال، فظائع لا توصف ضد المدنيين، خاصة في غرب دارفور.

بدا المشهد كما لو أن التاريخ قرر أن يعيد نفسه، لا كمهزلة فقط، بل كعار أخلاقي تُعاد كتابته تحت إملاء من لا يملكون حتى الحياء.

دعونا نسمي الأشياء بمسمياتها:
لا الإمارات بريئة، ولا الدعم السريع خُلِق من فراغ، ولا الجيش السوداني يطلب عدالة، ولا الجبهة الإسلامية – التي تحكم من وراء الستار – تعنيها دماء دارفور أو غيرها.

فهذه الدعوى ليست بحثًا عن إنصاف الضحايا، بل إعادة ترتيب للمكاسب.
حين يتوجّه المجلس السيادي – الذي تهيمن عليه المؤسسة العسكرية المستلبة – إلى محكمة العدل الدولية، فهو لا يبحث عن محاكمة المجرمين، بل عن غرامة وتعويض؛ لا عن مساءلة، بل عن رافعة سياسية يمكن استعمالها في بازار العلاقات الدولية.
إنها شكوى تُرفع لا من أجل المساليت أو من قُتلوا غيرهم، بل من أجل موازنة دولة انهارت بفعل من يشتكي اليوم باسمها.

إذاً، لماذا اختار الجيش السوداني اللجوء إلى محكمة العدل الدولية بدلاً من المحكمة الجنائية الدولية؟
الإجابة تكمن في الطبيعة الانتقائية لهذا الجيش في تعامله مع العدالة.
فمحكمة العدل الدولية، كما أسلفنا، لا تحاكم الأفراد، وأقصى ما يمكن أن تفعله هو إلزام الدولة المدعى عليها بدفع تعويضات مالية.

وهنا تتجلى براعة الجنرالات في استخدام القانون الدولي كأداة لتحقيق مصالحهم.
فهم لا يسعون إلى تحقيق العدالة بقدر ما يسعون إلى ملء خزائنهم الفارغة بأموال التعويضات.
فالدماء التي سالت في دارفور لا تعني لهم شيئًا، بقدر ما تعنيهم الأرقام التي ستُضاف إلى حساباتهم.

في المقابل، تقف المحكمة الجنائية الدولية كالشبح الذي يؤرق مضاجع الطغاة.
هذه المحكمة، التي تأسست بموجب نظام روما الأساسي، تختص بمحاكمة الأفراد المتهمين بارتكاب جرائم الإبادة الجماعية، والجرائم ضد الإنسانية، وجرائم الحرب.
لكن السودان، ذلك البلد الذي يحكمه جنرالات لا يرون في العدالة سوى مؤامرة غربية، لم يصادق على نظام روما.

في هذا السياق، تبدو شكوى الجيش ضد الإمارات كأنها قناعٌ سميك في حفلة تنكرية رديئة.
لا أحد من الأطراف بريء، وكلهم يتقنون التواطؤ.
الدعم السريع، الذي تُتهم به الإمارات، ليس سوى اليد الأخرى للمنظومة التي لا تزال تتحكم في الدولة.
ومن يشتكي اليوم، هو ذاته من كان يربّت على كتف القاتل بالأمس.
أما الضحية، فدائمًا خارج المسرح، يُذكر اسمه في البيان، ولا يملك ترف الدفاع.

لكن لا تكتمل الصورة دون النظر إلى السياق الجيوسياسي، الذي لا يمكن عزله عن لحظة الشكوى ذاتها.
فالعلاقة بين الإمارات والمؤسسة العسكرية في السودان لم تكن علاقة عابرة، بل كانت جزءًا من مشروع إقليمي أكبر تقوده أبوظبي، يسعى لعسكرة السياسة في المنطقة، وكسر أي مسار ديمقراطي يُهدد معادلة الاستبداد.

هذا المشروع، الذي دعم حفتر في ليبيا، والسيسي في مصر، وحميدتي في السودان، قام على فكرة واحدة: تحويل الجيوش من حماة للأوطان إلى حراس للأنظمة.
الإمارات لم تدعم الدعم السريع لأنه خطر، بل لأنه مفيد – حتى خرج عن النص.

لكن، بين الدال والمدلول في جمهورية المعلول، لا تُفهم هذه التحالفات كاستراتيجيات، بل كعلاقات مافيوية تتقاطع فيها المصالح:
ذهب دارفور مقابل طائرات مُسيّرة، صمت سياسي مقابل غطاء إعلامي، استثمارات موعودة مقابل اعتراف دبلوماسي.

لذلك، حين رفع البرهان شكواه ضد الإمارات، لم يكن يحتجّ على جريمة، بل على كسر شراكة غير مكتوبة، على خيانة بروتوكول غير معلن.
كانت لاهاي هذه المرّة مسرحًا لغضب التابع من سيّده، لا من أجل الضحايا.

من جهة التحليل السيميائي، فإن السلطة القائمة ليست سوى تمثيل لغوي مستهلك.
المؤسسة العسكرية، باعتبارها “الدال” الذي يُفترض أن يدل على السيادة والوطنية، لم تعد تشير إلا إلى خواء رمزي يتكرر.

فالدال هنا – الزي، الرتبة، الخطاب، المحكمة، شعار العدالة – لا يحيل إلى مدلول أخلاقي أو قانوني؛ بل إلى تكرار فجّ لسلطة بلا مشروع، بلا صدق، بلا جذور.

هو نوع من العمى السياسي المؤسسي، حيث الدال (الموقع، الاسم، الشكل الرسمي)، لا يُترجم إلى مدلول (مشروع، عدالة، تمثيل حقيقي)، بل إلى حضور فارغ يُستخدم ثم يُستبدل.
كأن السلطة تقول لنا: “هاكم من يشبه القانون في لفظه، لا في فعله.”
وهكذا تتحوّل المحكمة إلى مشهد، والضحية إلى أداة، والجلاد إلى متحدث رسمي باسم الدم.

وما المواطن في هذه اللعبة إلا ضحية مضاعفة.
يُقتَل ثم يُستثمر دمه، يُهجَّر ثم يُستخدم كعُملة تفاوض، يُستغل في الدعاية، ثم يُنسى بعد أن تُودَع الشكوى.

المواطن السوداني – خصوصًا في دارفور – ليس أكثر من جثة في أرشيف الدولة، تُستخرج عند الحاجة وتُطوى عند الفائض.
لا يُستشار حين تُرفع القضايا، ولا يُحضر في المحافل، ولا يُسأل عن رأيه في كيف تُستخدم دماؤه.
وهذه هي الكارثة الحقيقية: أن تتحوّل الضحية إلى أداة لتجميل صورة الجلاد.

هذا تمامًا ما حذّر منه المفكر مهدي عامل حين كتب عن “الدولة كجهاز طبقي يُعيد إنتاج القهر باسم القانون”.
وهنا في السودان، لا يُعاد إنتاج القهر فقط، بل يُجمَّل، ويُسَوَّق، ويُقاضى باسمه الآخرون.

هل كان يمكن أن تكون الشكوى فعلًا أخلاقية؟
نعم، لو رُفعت بالتوازي مع تسليم المطلوبين للجنائية الدولية، وفتح تحقيقات مستقلة داخل السودان، وتفكيك الأجهزة المتورطة في العنف، ومحاسبة قيادة الجيش نفسها.
لكن أن تُرفع في غياب ذلك، فهي ليست سوى فقرة في خطاب علاقات عامة، مُعدّة للتداول في قاعات الأمم المتحدة، لا في ضمائر الناس.

في هذه اللحظة السودانية الحرجة، لا بد من استدعاء ما كتبه فرانز فانون حين قال:
“عندما تُهزم الثورة، يصبح خطاب التحرير بضاعة في يد المستعمر الجديد.”

واليوم، حين تراجعت ثورة ديسمبر إلى حين، صار خطاب العدالة أداة في يد من ثار عليهم الناس.
المؤسسة العسكرية، بقيادة برهان ومن معه، لا تمثّل الدولة، بل تمثل طيفها المعطوب.
وحين تُقاضي دولة أخرى، فهي لا تفعل ذلك باسم الضحايا، بل باسم سلطة تبحث عن شرعية مفقودة.

العدالة لا تُستجدى من محكمة لا تجرؤ على تسمية القاتل.
العدالة لا تبدأ من الخارج، بل من الداخل، من مساءلة الذات.
وما لم نبدأ بتفكيك المؤسسة العسكرية، ومحاكمة قادتها، وتجريم الجبهة الإسلامية التي صاغت هذه الدولة كنظام طاعة مطلقة، فإن كل شكوى، مهما ارتدى أصحابها عباءة القانون، ليست إلا ورقة جديدة في سردية الهيمنة.

هل تسمعينني يا لاهاي؟ إنهم يبيعوننا من جديد،
في جمهورية المعلول، بين الدال والمدلول، لا يبقى من الدولة سوى قناعها.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: محکمة العدل الدولیة المؤسسة العسکریة الدعم السریع فی السودان الذی ی

إقرأ أيضاً:

عراقجي يكشف الدولة التي ستستضيف جولة المفاوضات الثانية مع واشنطن

أعلن وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي عن قرب عقد جولة ثانية من المفاوضات مع الولايات المتحدة بعد جولة أولى جرت في مسقط ووصفت بأنها إيجابية وبنّاءة.

وقال عراقجي إن جولة ثانية لمباحثات بلاده مع الولايات المتحدة، تعقد "قريبا" في روما برعاية من سلطنة عمان.

جاء ذلك خلال اتصال هاتفي، أجراه عراقجي مع نظيره العراقي فؤاد حسين، وفق بيان للخارجية العراقية نشرته على موقعها الالكتروني.

وسبق أن أعلن البيت الأبيض عن جولة ثانية تعقد في 19 أبريل/ نيسان الجاري، دون أن يحدد مكانها.




وقالت الخارجية العراقية إن "نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الخارجية، فؤاد حسين، تلقى يوم الاثنين اتصالا هاتفيا من وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي".

وأشارت إلى أن عراقجي أطلع حسين على "آخر مستجدات المفاوضات الإيرانية-الأمريكية التي جرت في العاصمة العُمانية مسقط".

وبين عراقجي أن "المفاوضات بين الجانبين الإيراني والأمريكي سارت بشكل جيد"، مشيراً إلى "مناقشة المشروع النووي".

من جهته أعرب وزير خارجية العراق عن ارتياحه لمسار الحوار القائم وثمن "الدور الإيجابي الذي تضطلع به سلطنة عُمان في تسهيل المفاوضات".

وأكد حسين على "دعم العراق لأي جهد يساهم في تعزيز الأمن والاستقرار الإقليمي".

وفي ختام الاتصال، وجّه الوزير الإيراني دعوة رسمية نظيره العراقي لزيارة بلاده "في إطار دعم الحوار الثنائي وتعزيز العلاقات بين البلدين"، وفق البيان ذاته.




والسبت الماضي، استضافت سلطنة عمان، أولى جولات المحادثات الإيرانية الأمريكية بمسقط، والتي لاقت ترحيباً عربيا، فيما وصفها البيت الأبيض بأنها كانت "إيجابية للغاية وبناءة".

وقال البيت الأبيض في بيان له، إن ستيف ويتكوف، المبعوث الخاص للرئيس الأمريكي إلى الشرق الأوسط أجرى محادثات مع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، استضافها وزير الخارجية العماني بدر بن حمد البوسعيدي.

وأوضح البيان أن المحادثات كانت "إيجابية للغاية وبناءة"، وأن ويتكوف نقل إلى عراقجي "تعليمات" الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بـ"حل القضايا بين البلدين عبر الحوار والدبلوماسية".

مقالات مشابهة

  • عراقجي يكشف الدولة التي ستستضيف جولة المفاوضات الثانية مع واشنطن
  • الوزير السكاف لـ سانا: نؤكد حرصنا على تحقيق العدالة الإدارية وطيّ صفحة الظلم الوظيفي، بما يعزز الثقة بمؤسسات الدولة الجديدة
  • مجلس الدولة : اعتراف المتهم أمام المحكمة بغني عن أي دليل
  • مجلس الدولة: اعتراف المتهم أمام المحكمة يغني عن أي دليل آخر
  • فخر الدين الثاني.. الأمير الذي حلم بدولة كبرى واعدم على يد العثمانيين
  • أبو الغيط يلتقي المدعي العام للجنائية الدولية ويشيد بدوره في الدفاع عن العدالة
  • وزير العدل: تطويرمكاتب الشهر العقاري يكفل حصول المواطن على حقه بأسرع وقت
  • وزير العدل يفتتح مكتب الشهر العقاري بمجمع محاكم مجلس الدولة بالإسكندرية
  • وزير العدل يفتتح مكتب توثيق الشهر العقاري بمجمع محاكم مجلس الدولة بالإسكندرية