صراع الحضارات وسيناريوهات الهيمنة في مفاوضات واشنطن وطهران
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
كانت سلطنة عُمان اليوم محط أنظار العالم؛ لا لأنها منطقة نزاع أو تدور حول سياستها الخارجية علامات استفهام وتعجب، ولكن لأنها المساحة الوحيدة التي تجد فـيها القوى المتصارعة فـي الشرق الأوسط متسعا للحوار واحتفاء به والقوة السياسية القادرة على إدارة اللحظات التاريخية الخطرة حينما يحتاج العالم إلى بوصلة أخلاقية وجيوسياسية فـي منطقة تتقاذفها أهواء القوة والتصعيد.
ولذلك لا يبدو لي، شخصيا، أن السؤال الأهم يتعلق، فقط، بإمكانية نجاح هذه المفاوضات أو فشلها، رغم البدايات المبشرة جدا، بل يتعلق بالسياق الذي دفع الطرفـين للجلوس ـ ولو بشكل غير مباشر ـ مرة أخرى على طاولة الوساطة/المفاوضات. ما الذي تغير؟ ومن يُراهن على الوقت؟ ومن يسعى لتثبيت معادلة جديدة قبل أن تنفلت الأمور نحو صدام قد لا يُمكن احتواؤه؟
إذا ما عدنا إلى جذور الأزمة، فإن «الملف النووي الإيراني» ما هو إلا واجهة مقبولة ويمكن التبرير بها، لحرب طويلة على الاستقلال السياسي، وربما، الكرامة الحضارية، ومحاولة الدول الخارجة عن نادي الهيمنة الغربية أن تضع موطأ قدم فـي نظام دولي بُني ليقصيها. ولذلك لا ينبع الخوف الأمريكي/ الغربي من إيران من برنامج نووي قد يعرف مجتمع المخابرات الأمريكي حدوده وإمكانياته، ولكن ينبع قبل كل شيء من أن إيران، ومنذ ثورتها عام 1979، قررت أن تتحرر من عباءة التبعية الغربية، وأن تقول لا، وهو أمر لا يُغتفر فـي العقل الإمبريالي. لكن هذا لا يعني، بالمطلق، أن علينا، جميعا، ألا نخشى من أي برنامج نووي إيراني أو إسرائيلي أو أي برنامج آخر فـي المنطقة، بل على العكس من ذلك فإن أي برنامج نووي كان موجودا أو فـي طريقه للوجود هو خطر جديد يضاف إلى الأخطار التي تهدد منطقتنا الملتهبة، وما أكثر تلك الأخطار التي تتراوح بين خطر القوميات والمذهبيات إلى خطر الشرارة النووية. ويسعدنا جميعا أن تكون المنطقة خالية من جميع أنواع الأسلحة النووية.
لم يُخفِ ترامب العائد بقوة إلى البيت الأبيض رغبته فـي عرض مهاراته التفاوضية، ولكن خلف هذه الرغبة يقف منطق أكثر عمقا، وأكثر بعدا فـي التشكل من السنوات التي عرف فـيها العالم هذا السياسي والمطور العقاري.. إنه منطق السيطرة على التوازنات الإقليمية ومنع إيران من امتلاك ورقة ردع، ولو كانت رمزية، فـي وجه تحالف واشنطن ـ تل أبيب. والأمر، كما كان واضحا طوال الوقت، لا يتصل فقط ببرنامج نووي، بل بمحور إقليمي يمتد من طهران إلى بيروت، ويهدد بإعادة تشكيل الجغرافـيا السياسية للشرق الأوسط خارج النسق الأمريكي المعتاد.
لكن تفاصيل التاريخ تخبرنا أن هناك لحظات تقارب بين الفرقاء والخصوم غير متوقعة، ويمكن أن تحدث فـي لحظات الالتباس الكبرى وكذلك لحظات التحولات العميقة التي تغير كل شيء، دون أن نعتقد أن ذلك يحدث صدفة؛ فالرئيس الأمريكي الأسبق فرانكلين روزفلت له مقولة مهمة وتستحق التأمل دائما: «فـي السياسة، لا يحدث شيء بالصدفة. وإذا حدث، فبالتأكيد انه قد تم التخطيط له بهذه الطريقة». والكتابات التي تناولت العلاقات الأمريكية الإيرانية منذ خمسينيات القرن الماضي منذ الانقلاب على مصدق بدعم من الاستخبارات الأمريكية ووصولا إلى الاتفاق النووي فـي 2015 تشير إلى أن لحظات التقاطع كانت ممكنة حين تراجعت نزعة الهيمنة ولو مرحليا لصالح العقلانية الجيوسياسية.
ويمكن أن نقرأ فـي هذه الجولة من المفاوضات التي بدأت هذه المرة فـي العلن، خلافا لما كان عليه الحال فـي الجولات الأولى من المفاوضات التي أدارتها سلطنة عُمان بحكمة واقتدار وأفضت إلى اتفاق 2015، إرادتين متناقضتين: فواشنطن تبدو أنها تريد إنقاذ المظهر دون التخلي عن جوهر السيطرة، فـيما تريد طهران الحفاظ على الكرامة دون أن تخسر كل شيء؛ ولذلك جاء الجميع إلى مسقط بنوايا مشروطة وكذلك برؤية واضحة حول التحولات التي حدثت فـي المنطقة خلال العامين الماضيين. تطالب الإدارة الأمريكية بتوسيع إطار التفاوض ليشمل الصواريخ الباليستية والنفوذ الإقليمي الإيراني، وهو ما تعتبره طهران مسا بثوابت سيادتها. أما إيران، فتقدم إشارات ولو كانت محدودة، بشأن خفض تخصيب اليورانيوم مع وجود مراقبة دولية، ولكن يبدو أنها ترفض بشكل قاطع النقاش حول «تفكيك» المشروع النووي كما حدث في تجارب عالمية سابقة، كما لا يبدو أنها مستعدة، رغم كل التحولات، أن تنسحب من ساحات نفوذها فـي المنطقة.
هذا يقودنا لأن نطرح سؤالا يبدو مهما فـي هذه المرحلة: ما الذي يجعل أي تقارب ممكنا إذا؟
من المفـيد استحضار السياق الحضاري لمحاولة الإجابة على مثل هذا السؤال. فالعلاقة بين إيران وأمريكا ليست مجرد صراع جيوسياسي، بل هي احتكاك حضاري بين نموذجين: الأول يرى نفسه حاملا للقيم العالمية الليبرالية، والثاني يستند إلى تاريخ طويل من الهوية الحضارية والتمسك بالخصوصية ويعتبر الحضارة الفارسية أحد أعرق الحضارات فـي العالم دون منازع. ومعروف كيف توظف الدول موضوع الهوية فـي بناء سردية العداء. واستطاع الغرب أن يصور إيران منذ اندلاع الثورة الإيرانية باعتبارها تهديدا وجوديا للغرب ليس لأنها ترفض شروط التبعية، ولكن لأنها تمتلك سردية مضادة للهيمنة.
لا يمكن الآن، إذا، أن نفصل هذه المفاوضات التي يمكن أن يعتبرها البعض فنية حول تفاصيل ملف نووي يرفضه الغرب ويرفضه جيران إيران عن منطق «الصفقة» ومنطق «السيادة».
وتفهم سلطنة عُمان، المعنية جدا بإطفاء أي شرارة يمكن أن تشعل الحرب فـي هذه المنطقة المشتعلة بالكثير من الصراعات عبر التاريخ، كل هذه الأفكار وهذه التوازنات وهذه النزاعات وتحاول جاهدة دفع الطرفـين نحو مساحة وسط، حيث يمكن الحفاظ على ماء الوجه دون تفجير المنطقة ودون ترك اللحظة التاريخية تفلت من سياقها دون مكاسب.
لكن خطر عدم التوصل إلى هذه المساحة يبقى حاضرا وإنْ بدرجات متفاوتة. وتصريحات نتنياهو الأسبوع الماضي بأن «العمل العسكري هو الخيار الوحيد إن لم يتم تدمير المواقع النووية» لا يمكن تجاهلها. كما أن ترامب، الذي يظهر أنه لا يفضل خيار الحرب، يحشد قوة عسكرية هائلة على مقربة من إيران. ولذلك تضعف هذه التناقضات احتمالات نجاح طويل الأمد، ما لم يكن هناك عمل جماعي لكبح جماح منطق التصعيد والوصول إلى فهم مشترك مفاده أن السلام ليس تنازلا ولكنه يمكن أن يكون استراتيجية تبني عليها الدول لمستقبل أكثر استقرارا.
ولذلك أرى، شخصيا، أن هذه المفاوضات التي بدأت اليوم السبت هي أقرب إلى أن تكون اختبارا أخلاقيا أكثر من كونها اختبارا دبلوماسيا لترامب من جهة ولإيران من جهة أخرى. ولكنها فرصة استثنائية لتجنب حرب جديدة، ومناسبة لإعادة التفكير فـي أسس العلاقات الدولية، هل هي علاقات قائمة على الإكراه؟، أو يمكن أن تُبنى على الندية والاعتراف المتبادل؟ هل بإمكان دولة مثل أمريكا أن ترى فـي إيران شريكا لا مجرد خصم؟ وهل تستطيع إيران أن تُطمئن العالم وجيرانها دون أن تتخلى عن هويتها وسيادتها على قرارها؟
أما المفاوضات فقد لا تسفر جولتها الأولى عن نتيجة كبيرة كما قد يحلم البعض، ولكن مجرد انعقادها فـي هذا التوقيت وفـي عُمان بالذات يعني أن هناك أملا فـي أن العالم لم يفقد قدرته الكاملة على التفاهم قبل أن يذهب نحو الانفجار العظيم، ولم يفقد قدرته على فهم المساحة الأكثر قدرة فـي المنطقة على تبني الحوار ورعايته.
عاصم الشيدي رئيس تحرير جريدة «عمان»
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المفاوضات التی برنامج نووی فـی المنطقة إیران من یمکن أن لا یبدو
إقرأ أيضاً:
ترامب يتوعد بتدخل عسكري تقوده إسرائيل ضد إيران في حال فشل مفاوضات النووي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
حذر الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستخدام القوة العسكرية ضد إيران إذا فشلت المحادثات النووية المرتقبة، مشيرًا في تصريحات للصحفيين بالبيت الأبيض إلى أن إسرائيل ستلعب دورًا قياديًا إلى جانب الولايات المتحدة في أي ضربة محتملة.
وردًا على سؤال حول اللجوء للخيار العسكري، قال ترامب: "إذا تطلب الأمر تدخلًا عسكريًا، فسنستخدمه"، مضيفًا أن "إسرائيل ستكون متورطة بشدة، ستكون هي القائدة فيه"، قبل أن يتراجع قائلًا: "لكن لا أحد يقودنا. نحن نفعل ما يحلو لنا"، في تلميح هو الأول من نوعه لضربة إسرائيلية محتملة.
وأكد ترامب وجود جدول زمني للمساعي الدبلوماسية لم يحدده، وسط تقارير عن منحه العملية شهرين لاتضاح مسارها. ومن المقرر بدء المحادثات يوم السبت في عمان، بمشاركة المبعوث الأمريكي ستيف ويتكوف ونائب وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي، وسط تضارب حول كونها مباشرة (حسب واشنطن) أو عبر وسيط (حسب طهران).
منع إيران من امتلاك سلاح نوويوشدد ترامب على أن الهدف هو منع إيران من امتلاك سلاح نووي، قائلًا: "لن نسمح لهم بذلك، الشيء الوحيد الذي لا يمكنهم امتلاكه هو السلاح النووي"، معربًا في الوقت نفسه عن رغبته في "ازدهار" إيران وشعبها.
ونقلت "واشنطن بوست" عن مسؤولين أمريكيين استعداد المبعوث ويتكوف للسفر لطهران، وترجيحهم تفضيل ترامب للدبلوماسية على الخيار العسكري، وأن إعلانه عن المحادثات ربما يهدف لاستباق انتقادات إسرائيلية محتملة.