سودانايل:
2025-01-27@04:42:05 GMT

الحرب البليدة .. ثم ماذا بعد ؟؟

تاريخ النشر: 25th, August 2023 GMT

و لكن البلادة جزء من البنية البشرية ، حتى جاء في الأثر أن غباء الإنسان ليس له حدود .
إن هذه الحرب ليست سوي سم أطعمنا له كياناتنا العسكرية و المدنية ، و ها هم يتجرعونه قطرة قطرة ، و يجرعونه الشعب السوداني قطرة قطرة .
و دوما ما تلبس الحرب لبوسات "منطقية" و دوافع ضرورية ، و لكنها تظل دوما مرآة لما يدور في عقلك .

فحيازتك للسلطة لا تغير شخصيتك ، إنما تضخم ما أنت عليه في حقيقتك فحسب .
على أن أغبى أنواع الحروب هي التي تعبر عن دوافع شخصية ذاتية كحرب "الجنرالين" في السودان . فقد صرح البرهان و حميدتي بعبثية الحرب و خسرانها على التوالي . كما لم يمنعهما الحياء من الإفصاح عن شخصنة هذه الحرب البليدة . فقد أبان البرهان أنه ليس ضد "الدعم السريع" و لكنه ضد قيادة الدعم السريع ، و أبان حميدتي أنه ليس ضد "الجيش" و لكنه ضد قيادة هذا الجيش و من يقف خلفه من الإسلاميين ، حلفاء الأمس . و ما يشكف زيف مبرراتهم لخوض الحرب ، إنما هو عدم اكتراثهم لحياة و ممتلكات الشعب السوداني و لو من باب التظاهر بذلك ، و لكنه الغباء . فلو كانوا غير ذلك لفتحوا مسارات لإغاثة الملهوف و ستر المقتول ، تماما مثلما فتحوا ذات المسارات لإغاثة ملهوف الأجانب .
ستتوقف الحرب قريبا ، إن لم يكن بسبب الأصوات العسكرية التي ترى عبثية الحرب ، فبالتدخل الدولي السياسي و الاقتصادي . فمن فرادتنا ، أن تتدخل العديد من الشركات ، التي تعتمد كارتيلاتها على المواد المنهوبة من السودان ، لتمارس نفوذا سياسيا دوليا لوقف الحرب المجنونة هذه .
ثم ماذا بعد الاتفاق لوقف الحرب ؟؟
كثير من الكتاب يسندون قعود الدولة في السودان عن الانطلاق المستحق ، منذ الاستقلال الحديث منتصف القرن الماضي ، إلى تدخلات العسكر في مجرى الفعل السياسي ، و تمدد هذا الوهم و وجد مقعده في شعارات آخر ثورات الشعب السوداني المجيد و المجيدة .
و لكن الوضع في حقيقته ليس كذلك ، إنما هو فشل الكيانات السياسية التي نسميها مجازا أحزابا و تفاهة مشاريعها . و دعني أقرر مرة واحدة ، و إلى الأبد ، إن فشل الأحزاب السياسية في إدارة الدولة السودانية التي منحهم إياها الشعب السوداني ، إنما هو المغناطيس الوحيد الذي يجتذب العسكر إلي الاستحواذ على السلطة و يجعلهم عرضة لقصاصات الأفكار التائهة التي يجتذبها الفراغ بدوره ، و كان انقلاب العسكر الأخير في 25 أكتوبر ترجمة ناصعة لملء الفراغ ( راجع مقالنا الذي حمل عنوان: نعم انقلاب لكنه ملء تلقائي للفراغ ) .
عند الاتفاق على وقف الحرب ، يكون الجلوس للتفاوض على الانتقال ، و هنا يأتي الحل الناجع بإبعاد كل الأحزاب و كل واجهاتها من المشهد الانتقالي كلية ، فهي ببساطة ليست قدر هذه المهمة . و ذلك لأنها لم تكن قادرة على تطوير طرحها و أكتفت بأن استمرأت مخدع الشعارات الناعم الذي يؤمنها من وجع الدماغ في التقكير الذي يستوعب ذلك الوعي المكشوح خارج مواعينها في ديسمبر 2019 .
و لكن أين تكون هذه الأحزاب و واجهاتها في الفترة الانتقالية ؟؟
للأحزاب مكانان في الفترة الانتقالية: المفوضية العامة للانتخابات و المجلس التشريعي . و بس .
فلتشغل ، إذن ، الأحزاب و واجهاتها كامل مفوضية الانتخابات من مديرها إلى غفيرها . وذلك من أجل وضع قوانين الانتخابات و سبل مراقبتها بالطريقة التي يرونها تؤدي ، في رأيهم ، إلى انتخابات حرة و نزيهة ، بما يشمل تقسيم الدوائر و عمليات الإحصاء و الإدارة المرتبطة بها . و ليس ذلك من أجل تحييد حججها الأثيرة بتزييف إرادة الجماهير عند فقدانها الانتخابات ، كونها وضعت قوانينها بيديها فحسب ، بل لينمو مع ذلك إحساسها أن للسلطة واجبات و شغل يجعلها مستحقة .
و أما المجلس التشريعي ، فليكن للأحزاب الربع منه . و ربع ثاني للحركات المسلحة . أما النصف ، فللشباب . و لا داعي لنسب أخرى كالمرأة و غيرها . فلو كانت تؤمن هذه المجموعات المتنطعة بالمرأة و غيرها ، فلتقدمها جزءا من نسبتها في هذا المجلس .
و في هذا المجلس ، يتعلم الشباب بعض "فنون" الحكم الضرورية من ملاواة الأحزاب لبعضها البعض داخل كل من المجلس و المفوضية ، و من أجنحتها لجنة حصر خراب الحرب و إعادة الإعمار . و هو أمر يشجع الشباب لتكوين حزبهم المبرأ من الأسرية و الطائفية و الدوغما و مفاهيم الإثنية ، كما يسرع في إنضاج الأحزاب لتقوى على البقاء .
ستمضي خمس سنوات تتعافر فيها الأحزاب داخل المفوضية لإخراج قانون يرضيهم . و ظني المستحب أنهم يكونون صرعى "الأمبيفلانس" تجاه الأمر الانتخابي ، و هو تناقض الوجدان . فمن جهة ، هم شغوفون لنيل السلطة مما يدفعهم إلى تجويد شغلهم السياسي و يتخلون عن أفكارهم الصبيانية كتحرير العالم من "الإمبريالية" أو "نفوق العالم أجمع" أو نحن و العرب أصحاب "رسالة خالدة" ، و ذلك لأن العالم من فوقهم و من تحتهم الجيل الراكب راس. و من جهة أخرى ، هم يخشون نهاية عجلى للفترة الانتقالية قبل ترتيب أصوات جماهيرهم ، فتبعدهم الانتخابات من دفء السلطة إلى صقيع التيه السياسي في معارضة تتطلب فهما جديدا.
و بنهاية الخمس سنوات ، تكون حركة الدكتور استيفن قرير اكتسبت زخمها البديع حول العالم بعد تدشين فيلمه "القرن المضاع ، كيف نستعيده" ، في مطلع الشهر القادم أو الذي يليه . و هو يتناول كشف القمع المدروس لأعمال نيكولا تسلا المتعلقة باستقبال الطاقة المجانية التي تتحدر من أزقة متصل الزمان و المكان ، و هي قادرة على مد كل كواكب مجرة الطريق اللبني بالطاقة المجانية التي لا تنتهي ، و تضع بذلك الأرض أقدامها على مشارف اتحاد المجرات الفيدرالي . و تأتي أهمية هذه النقطة ، ضمن أشياء أخرى ، لأنها تعزز من فرضية تقلص الحروب بسبب مورد مهم كالطاقة (الكهرباء و النفط) و ما يتبعه من زيادة في سكان الأرض ، مضافا مع توهان النحل عن خلاياه لارتباك المجال المغنطيسي الذي يسترشد به النحل لتلقيح الخضروات و الفواكه (70% من غذاء الإنسان و الحيوان) ، الأمر الذي يجعل زراعة كل شبر ممكن من "سلة غذاء العالم" أمرا بالغ الأهمية .
كان حمدوك صاحب مشروع نهضة حقيقي ، بل هو الوحيد الذي طرح فكرة تقسيم السودان لخمسة أقاليم اقتصادية ، و هو المشروع العملي الذي أفتقده السودان منذ استقلاله ، منتصف القرن الماضي . و هو مشروع شبيه بالمشروع الأثيوبي الذي انتشلت به اثيوبيا أكثر من عشرين مليونا أثيوبيا من الفقر ، كما أشارت إلى ذلك سوزان رايس في كلمتها في جنازة ملس زيناوي . فمن شأن إعادة هذا المشروع ، و انخراط الشباب فيه بالتدريب و العمل ، أن يساهم في إعادة إعمارنا و نهضتنا و يحررنا من قيود العطف المزعج للمجتمع الدولي نحونا .
و لعلك تذكر ، أن جيمي كارتر صرح ، ذات مرة ، أنه لم يقض ليلة في البيت الأبيض بعد خروجه منه ، إلا مرتين إثنتين ، و المرتان الإثنتان كانتا بسبب السودان ، فقد شرح لبيل كلنتون ، الرئيس حينها ، أهمية السودان لأمريكا و للعالم مستقبلا ، و لكن كلنتون كان غارقا في أزماته العاطفية في ذلك الوقت .
كيف تتشكل الحكومة ، إذن ، بلا أحزاب ؟؟
و الإجابة هي بالمتاح الممكن ، بما يساعد على اقتلاع ما يعرف بالدولة العميقة لتسيير دولاب العمل . و ذلك يتم ببساطة بتعيين نواب الوزراء و الولاة و المدراء العامين مكان رؤسائهم ، و بذلك تكون رفعت "العمق" درجة إلى السطح . فأنت لا تستطيع محاربة المجرمين تحت الأرض في الظلام ، لأن تلك بيئتهم التي يجيدون العمل فيها ، فعليك إخراجهم إلى الضوء رويدا رويدا ، فتتفكك معهم شبكات المصالح اللصوصية مع فتح ملفات الفساد التي تتناسب طرديا مع درجة الإنكات من هذا "العمق" ، و ذلك حتى لا يرتج دولاب العمل و تفقد السيطرة عليه ..

adil.esmail@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الشعب السودانی

إقرأ أيضاً:

كاميرون هدسون: ترامب وحده قادر على صنع السلام في السودان

نجح دونالد ترامب في ولايته الأولى بضمِّ السودان إلى اتفاقيات أبراهام، وأزاله من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وبفضل نفوذه على القوى الإقليمية، يمكنه إنهاء الحرب المُستعرة فيه

*كاميرون هدسون*
_زميل بارز في برنامج أفريقيا في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية_
------------------
_نجح دونالد ترامب في ولايته الأولى بضمِّ السودان إلى اتفاقيات أبراهام، وأزاله من قائمة الدول الراعية للإرهاب. وبفضل نفوذه على القوى الإقليمية، يمكنه إنهاء الحرب المُستعرة فيه.
------------------

عادةً لا تحتلُّ أفريقيا مرتبةً عالية في قائمةِ أولويّات السياسة الخارجية لرئيسٍ أميركيٍّ جديد. لكن في تحوُّلٍ نادر، يَبرُزُ السودان الآن كدولةٍ حيث تُشكّلُ مشاركة الولايات المتحدة حاجة مُلحّة وعالية، وحيث يُمكنُ أن يكونَ نفوذُ واشنطن في عهد الرئيس الأميركي دونالد ترامب العنصرَ المفقود الحاسم لإنهاء الحرب الأهلية المُشتعلة حاليًا في ذلك البلد.

على عَكسِ معظم البلدان الإفريقية، فإنَّ ترامب لديه تاريخٌ مع السودان. في العام 2019، اندلعت الثورة الشعبية التي أدّت إلى إطاحة الديكتاتور السوداني عمر البشير وأسفرت عن فترةِ حُكمٍ مَدَنية واعدة، وإن كانت قصيرة، في عهده. في ذلك الوقت، كان دعمُ الولايات المتحدة للقوى المؤيّدة للديموقراطية متواضعًا، وذلك بسبب شبكةٍ مُعقَّدة من العقوبات والقيود القديمة التي قَيّدت الدعمَ الأميركي. كان من بين أهم هذه العقبات استمرارُ تصنيفِ السودان كدولةٍ راعية للإرهاب – وهو تمييزٌ سيِّئ السمعة احتفظت به البلاد منذ الأيام التي استضافت فيها أسامة بن لادن في منتصف التسعينيات الفائتة.

بدأت إدارة ترامب الأولى عملية مُعقّدة ومُستَهلِكة للوقت لإزالة السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب في محاولةٍ لوضع البلاد على مسارٍ نحو تخفيف الديون والتعافي الاقتصادي؛ أصبحت إزالتها رسميًا نافذة في كانون الأول (ديسمبر) 2020. وشملَ الجهدُ الحصول على شهادةٍ من مجتمع الاستخبارات، والتفاوض على اتفاقية تعويض بقيمة 335 مليون دولار لضحايا الهجمات الإرهابية في الولايات المتحدة، والحصول على دعم الكونغرس، كما الوعد بتطبيع العلاقات بين واشنطن والخرطوم بأوّل تبادل للسفراء منذ 25 عامًا.

ثم، في خطوةٍ لم تكن مفاجئة في الماضي، قام وزير الخارجية آنذاك مايك بومبيو بزيارةٍ إلى الخرطوم في اللحظة الأخيرة ليقترح أن صنعَ السلام مع إسرائيل، من خلال التوقيع على اتفاقيات أبراهام التي أُعلن عنها أخيرًا، سيكون ضروريًا أيضًا للمساعدة في تأمين إزالة السودان من قائمة الإرهاب. في تلك اللحظة، رفض القادة العسكريون والمدنيون في السودان، حيث جادل الجانبان بأنَّ الطبيعة الانتقالية لحكومتهما وعدم وجود برلمان قائم لا يمنح أيًا من الجانبين التفويض بالانخراط في التزامات معاهدة جديدة.

في النهاية، لم يكن لدى السودان أي نفوذ للمقاومة واضطر إلى الرضوخ لكي لا يفقد أملَ التخلُّص من العقوبات الأميركية المُتبقّية. بعد موافقة السودان على شروط وزارة العدل الأميركية لإزالتها من قائمة الإرهاب، أعلن ترامب مُنتصرًا، في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، تطبيع السودان للعلاقات مع إسرائيل كواحدة من ثلاث دول عربية فقط وقّعت في حينه على اتفاقيات أبراهام.
لقد كانت صفقة. وكانت ذات بصيرة “نبوية”.

مع عودة ترامب إلى منصبه، فإنّه يرث ملفًا سودانيًا مختلفًا بشكلٍ كبير عن الملفِّ الذي سلّمه إلى جو بايدن قبل أربع سنوات. إنَّ التفاؤل الذي تُبديه الحكومة المدنية الانتقالية والانتفاضة الشعبية في السودان اليوم مدفونٌ تحت الأنقاضِ المشتعلة لبلدٍ مزّقته الحرب منذ ما يقرب من عامين. أصبح السودان الآن أكبر أزمة إنسانية ونزوح في العالم؛ في بداية العام 2025، يحتاج أكثر من 30 مليون شخص في السودان إلى مساعدات إنسانية، بينما نزح أكثر من 12 مليون شخص من ديارهم منذ بدء الحرب الحالية في نيسان (أبريل) 2023.

إنَّ الحجّة الأخلاقية للاستجابة للمُعاناة الجماعية في السودان قد لا تلقى الصدى المطلوب لدى إدارةٍ مُكرَّسة لتعزيز سياسة خارجية عنوانها “أميركا أوّلًا”. لكن واشنطن لديها مصالح استراتيجية ونفوذٌ غير مُستَغَل في السودان يتجاوز بكثير الخسائر البشرية التي خلّفها الصراع والتي تجعل ترامب في وضعٍ فريد لدفع الحلول لإنهاء الحرب.

لقد ربطت إدارة ترامب الأولى نفسها عن غير قصد بمصير السودان عندما أعلن بومبيو عن رحلته الأولى التاريخية من تل أبيب إلى الخرطوم في العام 2020، بهدفٍ وحيد يتمثّل في تعزيز السلام مع إسرائيل. واليوم، يبدو أنَّ فريقَ ترامب يلتقط من حيث توقّف، ويُوضّح خططه لإحياء وتوسيع اتفاق التطبيع التاريخي؛ على سبيل المثال، أعلن مستشار الأمن القومي مايك والتز الشهر الماضي، “إنَّ مصالحنا الأساسية هي محاربة “داعش” ودعم إسرائيل وحلفائنا في الخليج العربي”. لكن ما هو واضح تمامًا هو أنَّ الإدارة لا تستطيع إحياء اتفاقيات أبراهام في الوقت نفسه الذي تراقب انهيار وتفكك أحد المُوَقِّعين الخمسة عليها.
والسبب في ذلك أنَّ الصراعَ في السودان لا يقتصرُ على مجرّد حربٍ بين جنرالين متنافسين يتقاتلان على السلطة في البلاد. بل إنه يُحرّكُ معركةً أعمق بين حلفاء الولايات المتحدة في الخليج العربي من أجل السلطة والهيبة والثروة والنفوذ في مختلف أنحاء البحر الأحمر والقرن الأفريقي. والواقع أن تكاليف هذه المنافسة يتحمّلها شعب السودان.

تشمل هذه المنافسة الإقليمية دولًا مجاورة مثل مصر، التي يظل مصيرها وتاريخها مُرتَبطَين بالسودان، حيث تتقاسم الدولتان موارد مياه نهر النيل والبحر الأحمر الوجودية. كما تشمل المملكة العربية السعودية، التي سعت منذ فترة طويلة إلى إقامةِ نظامٍ مُطيع في الخرطوم لضمان العلاقات الودية والوصول السريع إلى أنواع الصادرات الزراعية والحيوانية التي تحتاجها البلاد. وقطر هي أيضًا لاعب؛ حيث تعمل استضافة الدوحة السابقة لمحادثات السلام في دارفور ودعمها الهادئ للجيش السوداني على تلميع سمعتها كشريك موثوق وصانع سلام محتمل.

لكن الطرف الأجنبي الرئيس في حرب السودان هو الدولة التي أسست اتفاقيات أبراهام: الإمارات العربية المتحدة. وباعتبارها الداعم العسكري والسياسي الرئيس لميليشيا “قوات الدعم السريع”، التي أعلنت إدارة جو بايدن أنها تُنفّذ إبادة جماعية في جميع أنحاء السودان، فقد وضعت الإمارات نفسها كأكبر مُمَكِّن خارجي للحرب.

منذ العام 2015، عندما استعانت أبو ظبي لأول مرة بخدمات “قوات الدعم السريع” وزعيمها محمد حمدان دقلو “حميدتي”، لتكون بمثابة قوة قتالية ضد المتمردين الحوثيين في اليمن ودعم “الجيش الوطني الليبي” بقيادة خليفة حفتر، برزت هذه الميليشيا السودانية كرأس حربة إماراتية تم نشرها من البحر الأحمر إلى البحر الأبيض المتوسط، ما أعطى قوةً نارية كبيرة لبلدٍ يفتقرُ إلى جيشٍ كبير.

لكن على الرُغم من الفظائع التي ارتُكِبت والتغطية الإخبارية لدعمها العسكري الواضح ل”قوات الدعم السريع”، تواصل أبو ظبي إنكارَ أيّ مسؤولية عن الكارثة التي حلّت بالسودان. وهذا لا يلقى استحسان الكثيرين من أعضاء الكونغرس، الذين دعوا إلى تعليق مبيعات الأسلحة الأميركية إلى دولة الإمارات واتخاذ إجراءات صارمة ضد تجارة الذهب غير المشروعة بين أبو ظبي و”قوات الدعم السريع”. حتى وزير الخارجية الأميركي الجديد ماركو روبيو، في جلسة تأكيده الأسبوع الماضي، أشار إلى دولة الإمارات، عندما قال أنه “كجُزءٍ من مشاركتنا، نحتاج أيضًا إلى إثارة حقيقة أنها تدعم علنًا كيانًا يرتكب إبادة جماعية”.

في ظلِّ هذا المزيج اللاذع من الطموحات الإقليمية والمنافسة المُدمّرة، هناك فرصةٌ لإبرامِ صفقةٍ نخبوية تُسكِت بنادق ومدافع السودان، وتتجنّب أسوأ سيناريو إنساني، وتضع الأساس للعودة في نهاية المطاف إلى الحكم المدني. في الواقع، يرى القادة العسكريون السودانيون أنَّ عودة ترامب إلى منصبه، بعلاقاته الشخصية واحترامه المشترك من قبل زعماء المنطقة وميله إلى عقد الصفقات، هي فرصة للتوصّل إلى اتفاقٍ يؤدّي إلى استقرار السودان والسلام الأوسع في الشرق الأوسط.

وبعيدًا من الفوز السياسي المتمثّل في تلميع أوراق اعتماد ترامب كصانع سلام، هناكَ أسبابٌ استراتيجية أخرى تدفع الإدارة إلى تكريس الاهتمام للسودان. فقد عمل فريق ترامب بجدٍّ في ولايته الأولى لقطع علاقات السودان بماضيها الإرهابي؛ وسيكون من المُحرِج أن يضطرَّ ترامب في ولايته الثانية إلى التفكير في إعادة إضافة السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب. وهذا هو بالضبط ما قد تضطر الإدارة إلى القيام به إذا استمرّت حرب السودان من دون رادع.

يزعمُ الجيش السوداني أنَّ أكثرَ من 200 ألف مرتزق أجنبي تم تجنيدهم بالفعل في صفوف “قوات الدعم السريع”، ما يُهدّدُ بانتشار العنف الجهادي الذي يجتاح مالي وبوركينا فاسو والنيجر حاليًا، إلى تشاد والسودان المجاورَين. ونظرًا لضعف مؤسسات الدولة، والحدود المسامية، والجيوش المفرطة التوسع في جميع أنحاء المنطقة، فإنَّ هذا السيناريو معقولٌ تمامًا إذا لم يتم اتخاذ أي إجراء لمنع هذه الصراعات الخبيثة من التقارب في قوسٍ من عدم الاستقرار يمتد من المحيط الأطلسي إلى البحر الأحمر.

تواجه إدارة ترامب انتكاسة مُحرِجة أخرى تتمثل في عودة النظام الإسلامي المتشدد السابق في السودان، والذي كان كثيرون يأملون أن يختفي إلى الأبد. لكن مع استمرار الحرب الأهلية، يعمل الإسلاميون المتشددون السودانيون ــالذين لَجَؤوا إلى تركيا ومصر وقطرــ بجهد كبير لإعادة تنشيط شبكاتهم السياسية والمالية والأمنية، على أمل أن يجعلوا أنفسهم لا غنى عنهم للجيش السوداني المعزول والمفرط في التوسع مع تجنّب المساءلة عن جرائمهم الماضية بالعودة إلى السلطة. ويتعيّن على ترامب أن يعلم أنَّ الحزب الإسلامي المعاد تنشيطه سيكون بمثابة وباء على البلاد وعائق أمام أجندته الإقليمية.

الواقع أنَّ مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات قد تتفق على شيء واحد، وهو أن عودة الإسلام السياسي إلى السودان من شأنها أن تُشكّلَ تهديدًا لجميع مصالحها الاستراتيجية. وتجنُّبُ هذه النتيجة من خلال لعب دور صانع السلام وحرمان الإسلاميين من القدرة على العودة من شأنه أن يتجنَّب انتكاسة سياسية مُحرِجة لترامب في السودان ويضمن قدرًا أعظم من حسن النية من الشركاء الإقليميين الذين يعتمد عليهم لتحقيق أهدافه الأعظم في المنطقة.

وأخيرًا، فإنَّ إنهاءَ الحرب في السودان وحاجته إلى الأسلحة من شأنه أن يحرمَ اثنين من أعظم أعداء واشنطن من الثغرة التي استخدماها للحصول على موطئ قدم استراتيجي في المنطقة. لقد استفادت روسيا وإيران أكثر من أيِّ دولة أخرى من استخدام حرب السودان لإحياء أهميتهما الديبلوماسية، والاستفادة من مبيعات الأسلحة وصادرات الذهب، وإحياء آمالهما في إقامة وجودٍ بحري على ساحل البحر الأحمر السوداني. لكن وفقًا لكبار المسؤولين السودانيين، فإن انخراطهم مع طهران وموسكو ينبع أكثر من رفض المسؤولين الغربيين لهم، الذين أعلنوا علنًا وجهة نظرهم في جيش السودان باعتباره سلطة دولة غير شرعية.

إنَّ الشعبَ السوداني على وشك المجاعة، والدولة نفسها على وشك الانهيار. إذا لم تُجبر الأولى إدارة ترامب على التحرّك، فإن الثاني يجب أن يفعل ذلك بالتأكيد. ومن حسن الحظ أنَّ ترامب في وضعٍ يسمحُ له بالظهور كصانع السلام الذي كان السودانيون يبحثون عنه. إنَّ القيام بهذا الدور لن يخدمَ المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة في أفريقيا فحسب، بل إنه ضروري لتعزيز المصالح السياسية لترامب في الشرق الأوسط.
-------------------
المصدر : مجلة فورن بوليسي الأميركية  

مقالات مشابهة

  • فك الحصار عن القيادة العامة في الخرطوم.. ماذا يحدث في السودان؟
  • المبادرة الغائبة التي ينتظرها الفلسطينيون
  • كاميرون هدسون: ترامب وحده قادر على صنع السلام في السودان
  • اليوم التالي لنهاية الحرب في السودان.. ماذا ينبغي أن يحدث؟
  • سلطة النقد تكشف حجم الأموال التي نُهبت من بنوك غزة خلال الحرب
  • رئيس الهيئة الشعبية السودانية لإسناد القوات المسلحة وبناء السودان يشيد بإلتقاء الجيوش الذي يمثل نهاية المليشيا
  • ماذا يحوي كيس هدايا القسام الذي حملته الأسيرات بعد الإفراج عنهن؟ (شاهد)
  • ماذا يحوي كيس هدايا القسام الذي حملته الأسرى بعد الإفراج عنهن؟ (شاهد)
  • تجمع قوى تحرير السودان: الإنتصارات التي تحققت تؤكد عزيمة القوات المسلحة والقوات المشتركة والمقاومة الشعبية
  • نداء من المجلس الوطني الأرثوذكسي بشأن الحكومة.. ماذا طلب؟