والقَصَر إِنَّ البُرهان لفِي خُسرٍ

فتحي الضو

يقول السودانيون في أمثالهم الدارجة: (حبل الكضب قصيِّر) أي الكذب. وهو مثلٌ أن أردت له تطابقاً عملياً فدونك عبد الفتاح عبد الرحمن البرهان. وما عليك سوى أن تيمم وجهك شطر التكنولوجيا التي لا يُظلم عندها أحد. فلسوف يُذهلك ويُدهشك ما ستسمع وترى إن كنت من أصحاب القلوب الرهيفة.

مئات الفيديوهات والمقاطع التي يمارس فيها هوايته تلك بلا رقيب ولا عتيد. فهو يكذب ويتحرى الكذب دون أن يطرف له جفن، مع أنه جاء في الأثر قولٌ بليغ: إن كنت كذوباً فكن صدوقاً.

لكن المذكور صار من فرط ولعه وإدمانه الكذب، يتلذذ بتعذيبنا نحن عباد الله الصابرين، ويبيح لنفسه ذلك بحسبه هو إبن جلا وطلَّاع الثنايا، وإنه حامينا ومنقذنا من مليشيا الجنجويد الذين يستهدفون هويتنا. بالرغم من أنها طلعت من رحمه هو وليس القوات المسلحة. وبالتالي تصبح المفاضلة إما الجنجويد والموت الزؤام أو الجنرال والفردوس المفقود. ومطلوب منك أيها المواطن المغلوب على أمره ألا تسأل: هل جاؤونا من القمر أم هبطوا علينا بصبح وكان سيادته يغط في نوم عميق؟ ثمَّ بدأت القرى والمدن تتساقط كأوراق الشجر، على مدى عامٍ أو يزيد تحت سمعه وبصره، بينما الشعب المسكين يكابد القتل غيلة ويتجرع مرارات التشرد والمهاجر والمنافي والكرامة المُهدرة. ثمَّ خرج من مخبئه ليقول للطيبين والطيبات بأنه سيسترجع بالإبرة ما أخذته مليشيا الدعم السريع بالصواريخ والراجمات والمُسيرات.

والغريب في الأمر يا – سيدي الوالي – أن السؤال ممنوع، وهكذا انسلخ عام ثانٍ من ظهر الشعب الكريم. وكان منافسه في الكذب ياسر العطا قال إنهما محض أسبوعين وتعود الحياة إلى طبيعتها ليتراقص فيها الشجر ويتلألأ فيها القمر. وتلك تذكرني بلعبة روسية طريفة تُسمى (البابوشكا) أو (ماتريوشكا) وهي عبارة عن مجموعة من الدمي الخشبية ذات الحجم المتناقص تُوضع الواحدة تلو الأخرى. كلما أزحت الدمية الأعلى ظهرت الأدنى بنفس الملامح والشبه، وهكذا حتى يقضي انتهاؤها على تلاشيها.. تماماً مثل تلك الدوائر التي يصنعها حجر أُلقي في بركة راكدة، فيصنع دوائراً دوائراً تتسع حتى يقضي عليها اتساعها.

لعل الناس يذكرون للجنرال روايته التي سارت بها الركبان عن حلم أبيه، والتي كشفت عشقه للكرسي وأصبحت مصدر تندر وسخرية واستهزاء. فيا أيها العاشق الولهان ما جدوى حلم يجي على أشلاء ودماء وموت الآلاف من البشر، حتى لو تحقق؟ ما قيمة سلطة تبعثر الآمنين في ديارهم وتسلبهم الأمن والأمان، حتى لو جاءتك تجرجر أذيالها؟ ما جدوى حلم، حتى لو تحقق يسمع فيه المرء أنين المغتصبات ثيباتٍ وأبكاراً؟ وما قيمة الحكم حتى وإن جاء على طبق من ذهب لمن توسد ضميره ونام؟ وكيف يغمض لك جفن ودعوات المظاليم تشق عنان السماء؟

يعلم من يعرف الجنرال أن الكذب ليس مُدهشاً في سلوكه، ولكن المدهش تصديقه هو لكذبه. أنظر – يا رعاك الله – حصيلة ما جرى خلف الكواليس في شهر مارس المُنصرم. أولاً: حركت دولة الإمارات الساكن لصالحها بزيارة قام بها رئيسها محمد بن زايد إلى الولايا المتحدة الأمريكية، وقدم فيها عرضاً مغرياً للرئيس المثير للجدل دونالد ترامب، وذلك بطرح استثمارات أمريكية لصالحها بقيمة 1,4 (واحد وأربعة أعشار ترليون دولار) بمقابل معروف والمعروف أكثر شراهة الرئيس ترامب للمال حلاله وحرامه ثانيا: نتج عن ذلك الاهتمام بالملف السوداني الذي كان خاملاً فاعتلى الطاولة. ثالثاً: تبع ذلك مساومة تاريخية من البيت الأبيض، قضت بوقف اطلاق النار وانسحاب قوات مليشيا الدعم السريع من الخرطوم العاصمة. رابعاً: يشترط أن يكون انسحاباً آمنا حاملاً معه عدته وعتاده والشمس في كبد السماء. خامساً: استئناف المفاوضات برعاية سعودية.

كان ذلك اتفاقاً مُشدداً وبالطبع يتضمن بنوداً قاسية يصعُب الكشف عنها. المهم في الأمر وقعَّ على الاتفاق (أسد البرامكة) وكانت المحصلة إخلاء الخرطوم من الإنس والجن لتخرج المليشيا وتمشي الهوينا عبر جسر جبل الأولياء. ومن قبل أن ينجلي غبار معداتها بدأ إعلاميو بورت كيزان في ترويج أن الخرطوم أصبحت حُرة. ولاستكمال العرض المسرحي توجه البرهان نحو القصر وصلى ركعتين باعتباره الناصر صلاح الدين. ولأن السؤال ممنوع أيضاً، لم يقل أحد كيف هبطت طائرته في مطار ملغوم؟ ولماذا القصر وحده وعلى بعد دقيقتين تقع القيادة العامة التي قيل إنه يقبع بداخلها 314 أسيراً، وعلى رأسهم المفتش العام للجيش وثُلة من الأولين وثُلة من الآخرين (تردد لاحقاً نقلهم لمكان ما في دارفور) وكيف عاد لبورت سودان والمسيرات تحوم في الفضاء كأكوام من العهن المنفوش.

الآن يا أيها الايتام وقد أوصلنا الجنرال بطموحاته إلى برزخ اللا حرب واللا سُلم وأصبحنا رهائن عنده. وإلا فلماذا لا يستطيع أكثر من أربعين مليون سوداني أن يقولوا له ثم ماذا بعد؟ ماذا نحن منتظرون؟ وإلى متى نحن مصلوبون؟ وما الذي يدور في دماغك ونحن لا نعرف منه سوى كلام مكرور لا يغني ولا يسمن من جوع؟ لا تحدثنا عن الحرب أيها الجنرال فقد عرفناها وخبرنا دروبها، ولا تحدثنا عن الموت فقد رأيناه وعشنا مآسيه، ولا تحدثنا عن الدمار فقد شاهدناه بأم أعيننا. إن شئت فحدثنا عن المليارات التي تراكمت ارصدتها طبقاً عن طبق، لا تحدثنا عمَّا فعله سفهاء المليشيا، فنحن أدرى بما فعلوا بل حدثنا عن سفهاء بني قينقاع المتحولقين حولك. حدثنا عن امرأة تأكل القديد في سوق الضعين، نزعت ما يستر عُورتها لتستثير فينا كرامتنا ونخوتنا وصمتنا المُخزي. إذ لا فضيلة مع الجوع.

حدثني أحد الأقربين منه نقلاً عن أحد المقربين إليه وقال: نحن نعلم إنه يعشق الكرسي ويدمنه وتلك نقطة ضعفه التي نعرفها. نجلس إليه نهارا ًونشجعه على القيام بخطوة دراماتيكية معروفة يتوق لها الشارع بقياسات الرأي العام، بل ويتوق لها مسؤولون في دول شقيقة لم يكفوا عن إسداء النُصح إليه، ويجزلون له الإغراء الخاص والعام. فيوعدنا ويوعدهم خيراً. ولكن ما أن يغادروا ونغادر نحن، وما أن يرخي الليل سدوله فيأتيه خفافيش الظلام بالتهديد والوعيد، ويذكرونه بما يخشاه ويخاف عقباه فينكص على عقبيه، وندرك نحن أن كلام الليل قد محاه النهار.

البرهان أصبح غارقاً في (أحلام ظلوط) أي أحلام (ديك أم الحسن) كما هو معروف في المثيلوجيا السودانية، فقد أضحى أسير شهوة السلطة، ينام على سرر مرفوعة وأكواب موضوعة، ويزدرد من الطعام أطيبه وتنتفخ أوداجه عندما ترفع له التحية صباح مساء تلبية لرغائبه وشغفه بالسلطة، لأنه أصلاً أقبل عليها بضمير ميت وفؤاد أفرغ من جوف أم موسى، ولكنه لا يكُف عن إطالة النظر إلى كتفيه مبهوراً بالنجوم التي ترصعها، ثمَّ يجيل النظر إلى صدره فيرى النياشين التي تزغلل العيون، فيزداد صلفاً وغرورا وخيلاءً، بينما الشعب الكريم ينتظر الذي يأتي ولا يأتي وقد يبس الزرع وجف الضرع وصارت الحياة قاعاً صفصفاً!

أيها الناس: إن صمتم مُتم وإن تكلمتم نجوتم!!

آخر الكلام: لابد من الديمقراطية وإن طال السفر.

[email protected]

الوسومالإمارات البيت الأبيض الخرطوم السودان الضعين الولايات المتحدة الأمريكية بورتسودان جبل الأولياء دونالد ترامب عبد الفتاح البرهان فتحي الضو محمد بن زايد مليشيا الدعم السريع

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: الإمارات البيت الأبيض الخرطوم السودان الضعين الولايات المتحدة الأمريكية بورتسودان جبل الأولياء دونالد ترامب عبد الفتاح البرهان فتحي الضو محمد بن زايد مليشيا الدعم السريع

إقرأ أيضاً:

دورات المياه في بغداد.. الحكومية تزكم الأنوف والخاصة فيها محارم وعطور (صور)

دورات المياه في بغداد.. الحكومية تزكم الأنوف والخاصة فيها محارم وعطور (صور)

مقالات مشابهة

  • ذي غارديان: مجزرة المسعفين برفح نفذتها وحدة بغولاني تحت قيادة هذا الجنرال
  • الجيش الأردني يقظُ أيها الحاقدون . . !
  • من هو شيخ الإسلام البريطاني الذي بنى أول مسجد فيها؟
  • دورات المياه في بغداد.. الحكومية تزكم الأنوف والخاصة فيها محارم وعطور (صور)
  • الجنرال المتقاعد دان كاين رئيساً لـ«هيئة أركان الجيش الأمريكي»
  • قبل يومين من الاقتراع.. ما التوقعات بشأن انتخابات الغابون الرئاسية؟
  • قاآني: أمريكا وإسرائيل لا يفهمون قوة إيران
  • الصغير: قسم “عودة الحياة” بالمتحف مسمى سياسي للكثير من الكذب والتدليس
  • اعلام عبري يكشف المدة التي سيبقى فيها جيش الاحتلال بجنين وطولكرم