مسقط.. عاصمة الحكمة والتوازنات الكبرى
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
مدرين المكتومية
كشفت الساعات القليلة الماضية عن حجم التأثير الدبلوماسي لوطننا الحبيب سلطنة عُمان في مجريات السياسة الدولية، بعدما تصدر اسم "عُمان" عناوين الأخبار في شتى بقاع الأرض، وبمختلف لغات العالم، وذلك مع انطلاق أولى جولات المفاوضات بين الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الإسلامية الإيرانية، والتي قادتها عُمان بحكمة منقطعة النظير.
جولة المفاوضات التي استضافتها مسقط من أجل التوصل لاتفاق عادل ومُلزم بين البلدين، لا سيما فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني، لم تكن مجرد حدث عابر في سجل الدبلوماسية الدولية والإقليمية؛ بل تجلٍ جديد لدورٍ راسخ ومكانة متقدمة أحرزتها عُمان في هندسة التوازنات ونسج عرى التفاوض بين الخصوم، وترجمة عملية لميزان الحكمة الذي تحتكم إليه سياستنا الخارجية المُتفرِّدة، التي ترتكز على الحياد الإيجابي والحوار العقلاني، بابتعاد مشهود عن الاصطفافات الحادة والمحاور المُتصارِعة.
وقد آتى هذا النهج أُكُلَه، فأصبحت عُمان اليوم مركزًا دبلوماسيًا موثوقًا للحوار، ووجهة مُفضَّلة لتفكيك الأزمات الإقليمية والدولية، ومتنفسًا سياسيًّا نادرًا حين تُسد الأبواب وتضيق السبل.
ففي تطور لافت يعكس هذه المكانة، فتحت السلطنة باب الأمل مجددًا، باستضافتها المحادثات النووية عالية المستوى؛ لتُعيد بذلك فتح نافذة الحوار وسط أجواء مشحونة وتصعيد يُهدد الأمن الإقليمي والدولي.
إن اختيار مسقط لاحتضان هذه المفاوضات في ظل تصعيدٍ غير مسبوق في لغة التهديد والوعيد، لا يُقرأ إلا بوصفه شهادة دولية متجددة على الثقة المطلقة في حكمة القيادة العُمانية، وقدرتها على توفير بيئة تفاوضية محايدة وآمنة. وليس الأمر وليد المصادفة، بل نتيجة طبيعية لمسار طويل من السياسات المتزنة التي أثبتت فاعليتها في أكثر الملفات تعقيدًا.
وفي هذا السياق، تبرز حكمة مولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- كرمز للرصانة السياسية؛ إذ تمضي إدارته الحكيمة قُدُمًا في تعزيز دور عُمان كجسرٍ للسلام لا كأداة للصراع. وقد أكدت السنوات الأخيرة أن السلطنة، بقيادته -أبقاه الله- تمضي على ذات النهج القويم الذي أسّسه المغفور له السلطان قابوس بن سعيد- طيب الله ثراه- ولكن بنَفَس جديد يُواكب المتغيرات، ويُعزز مكانة عُمان في عالم متغير.
وتتجاوز رمزية الحدث أبعاده التفاوضية المباشرة، لتصبّ في خانة الأثر الأشمل للدور العُماني في هندسة الاستقرار الإقليمي. فعُمان لم تكن يومًا دولة طارئة في مشهد الوساطات، بل لطالما كانت حاضنة لقمم ولقاءات رفيعة بين أطراف مُتخاصمة، من لقاءات سعودية- يمنية إلى عمليات تبادل وإفراج عن محتجزين، لعبت فيها السلطنة دور المفاوض الأمين، والوسيط الصادق.
كما لا يُمكن إغفال الأثر التراكمي لهذا الدور، والذي أكسب السلطنة مصداقية استثنائية لدى القوى الدولية، وأطراف النزاعات على حد سواء؛ فهي الدولة التي تملك القدرة على أن تُنصت لكل طرف دون أن تُدين أحدًا، وأن تُقنع الجميع دون أن تُملي على أحد، وهذه ميزة لا تُمنح إلا لمن رسّخ تاريخه في النزاهة والاحترام المتبادل.
لقد أدركت الأطراف الدولية والإقليمية أن عُمان، بخبرتها المُتراكمة ورؤيتها البعيدة عن التشنج، تملك من أدوات الإقناع ومفاتيح الاتصال ما لا يتوافر لغيرها. وما كان لهذا الدور أن يترسخ لولا انضباط السياسات العُمانية وثباتها على مبادئها رغم عواصف المنطقة.
إنًّ العالم، في لحظاته المأزومة، يحتاج إلى أصوات تتحدث بلغة العقل، لا لغة الرصاص. وعُمان، وهي تحتضن اليوم هذا المسعى الدبلوماسي الجديد، تؤكد مجددًا أنها دولة رسالية تحمل مشعل التهدئة في زمن الصَّخب، وتمدّ يد البناء في عالم تكثر فيه معاول الهدم.
وهذه الجولة الاستهلالية من المفاوضات بلا شك، تبقى شاهدًا جديدًا على أن مسقط لم تخرج يومًا عن معادلة التأثير؛ بل إنها تسكن قلبها بثقة وهدوء بفضل حكمتها وثباتها على الموقف، وهو ما جعل الجميع يُكن لها كل التقدير والاحترام، وقبل ذلك كله الثقة في حيادية الدبلوماسية العُمانية الرصينة.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
مسقط تجمع طهران وواشنطن.. ما سيناريوهات مفاوضات السبت؟
طهران- بين تصعيد محسوب ومبادرات حذرة، تمضي المحادثات غير المباشرة بين إيران والولايات المتحدة في مسار شائك تعكسه تفاصيل الأسابيع الأخيرة، حيث تتقاطع الحسابات النووية مع التحولات الإقليمية، ويتداخل الضغط بالعقوبات مع رسائل الانفتاح على التفاوض.
وتحتضن سلطنة عُمان، المعروفة بدورها الوسيط، جولة جديدة من هذه الاتصالات غدا السبت، وسط تساؤلات متزايدة حول فرص التفاهم وحدود التصعيد.
جاءت البداية مع رسالة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لطهران التي قالت أنباء إنه خاطب بها المرشد الأعلى علي خامنئي، ثم صرح وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي بأنه يغلب عليها التهديد، ولكن هناك فرصة في قلبها، وهو ما يتضمن إشارات من الجانب الإيراني إلى "فرصة ممكنة" في أفق المفاوضات، في ظل مقترح لاتفاق مؤقت يخضع للدراسة.
تفاؤل حذرفتحت هذه النغمة الباب لتفاؤل حذر، لكنّها لم تلبث أن ترافقت مع رسائل تحذيرية شديدة اللهجة من طهران، أكدت فيها أنها جادة في التفاوض، ولكنها في الوقت ذاته "جاهزة للحرب" إن استمرت الضغوط، مما يعكس إستراتيجية مزدوجة تجمع بين الانفتاح والردع.
في المقابل، لم تكن واشنطن بعيدة عن هذا الخطاب المزدوج، فقد عاد ترامب إلى نبرة التهديد، ملمحا إلى استخدام القوة العسكرية، في وقت استمرت فيه وزارة الخزانة الأميركية بفرض عقوبات اقتصادية جديدة، مما دفع طهران إلى الإعلان عن خطة لتعزيز بنيتها الدفاعية، وتوسيع قواعدها الخاصة بالطائرات المسيّرة، وهو ما اعتبره مراقبون رسالة إستراتيجية تتجاوز مجرد الاستعراض العسكري.
إعلانومع اتساع الهوة، جاء تصريح إيراني لافت يؤكد أن الجمهورية الإسلامية "تدعم السلام، لكنها لن تستسلم"، في وقت عبرت فيه عن استيائها من الضغوط الأميركية، دون أن تغلق الباب أمام مواصلة الحوار، بل ألمحت إلى إمكانية الانتقال من المحادثات غير المباشرة إلى مسار مباشر إن توفرت الشروط المناسبة.
يعكس تسلسل هذه التطورات مشهدا دبلوماسيا معقدا، إذ لا يزال الطرفان يتبادلان الرسائل عبر التصريحات والإجراءات في ظل غياب مؤشرات واضحة على اختراق سياسي قريب. وتبقى الأسئلة مفتوحة: هل يشهد الملف النووي انفراجة دبلوماسية تقود إلى تفاهم مرحلي؟ أم أن التصعيد المتبادل سيدفع الأمور نحو مواجهة أكثر اتساعا؟
#إيران: نؤمن بمبدأ المفاوضات وكما أكدنا سابقا سنخوضها إذا تمت مخاطبتنا بلغة الاحترام pic.twitter.com/HgrgzYt2NL
— قناة الجزيرة (@AJArabic) April 8, 2025
سيناريوهاتبخصوص سيناريوهات غد السبت في مسقط، قال الباحث في الأمن الدولي عارف دهقاندار، للجزيرة نت، إن المفاوضات المرتقبة بين إيران والولايات المتحدة تواجه تحديات أساسية وعقبات جدية تقلل من احتمالات نجاحها، مشيرا إلى أن طهران تعتبر مطالب الجانب الأميركي غير منطقية وغير واقعية، رغم أن تفاصيل العروض الأميركية لم تتضح بعد.
وأوضح أنه إذا اشترطت واشنطن تخلي إيران الكامل عن قدرات تخصيب اليورانيوم، فإن ذلك سيؤدي حتما إلى فشل المفاوضات، لأن طهران لن تقبل بذلك. واعتبر أن العودة إلى الاتفاق النووي تشكل السيناريو الأول الممكن، لكنه مستبعد، خاصة بعد أن اعتبرت إدارة ترامب السابقة الاتفاق غير مقبول وانسحبت منه، في حين أن التقدم النووي الإيراني تجاوز كثيرا ما كان عليه وقت توقيع الاتفاق.
أما السيناريو الثاني الأكثر ترجيحا، برأي دهقاندار، فإنه يتمثل في تركيز الطرفين على التحقق من سلمية البرنامج النووي الإيراني والتوصل إلى تفاهم بشأن آليات التفتيش. وبيّن أن طهران قد تسعى، من خلال تقديم بعض التنازلات إلى إثبات الطابع السلمي لبرنامجها مقابل مكاسب اقتصادية، لكنه أشار إلى أن نجاح هذا السيناريو سيعتمد على مدى توافقه مع الخطوط الحمر للطرفين.
إعلانوأضاف أن الفريق الأميركي الجديد يتبنى نهجا عمليا يركز على النتائج، ويسعى إلى تحقيق مكاسب سريعة وملموسة من المفاوضات، في حين تميل إيران إلى إدارة التوتر وتحقيق مكاسب اقتصادية من دون تقديم تنازلات كبيرة في ملفها النووي، مما يجعل فرص التوصل إلى اتفاق ملموس محدودة، بل وقد يؤدي ذلك إلى مزيد من التصعيد.
مسارات طهرانمن زاوية أخرى، قال أستاذ الدراسات الأميركية في جامعة طهران فؤاد إيزدي، للجزيرة نت، إن إيران تبدو مستعدة للسير في مسارين متوازيين: إما التوصل إلى اتفاق نووي جديد، أو خوض مواجهة عسكرية إن اقتضت الضرورة.
وأوضح أن هذا الاستعداد يشبه ما حدث عام 2015 حين أبدت طهران مرونة أفضت إلى توقيع الاتفاق النووي، مشيرا في الوقت نفسه إلى أنها طورت قدراتها الدفاعية خلال العام ونصف العام الماضيين، بما يعزز موقفها إذا اندلع أي صراع.
وحسب إيزدي، فإن إيران لا ترى نفسها مضطرة للتخلي عن برنامجها النووي وتضع له خطوطا حمرا واضحة، مؤكدا أن تجربة ليبيا غير قابلة للتكرار في الحالة الإيرانية، وأن طهران ترفض سيناريو إسقاط النظام أو تفكيك الدولة تحت غطاء التفاوض.
ووفقا له، إن زيارة الوفد الأميركي إلى سلطنة عُمان تهدف إلى تقييم مدى فاعلية الضغوط الاقتصادية والإعلامية على إيران، وقياس إمكانية تحقيق مكاسب تتجاوز ما تحقق في اتفاق 2015. لكنه لفت إلى أن الجانب الأميركي يواجه تحديات داخلية، أبرزها المزاج الشعبي الرافض للحروب والانقسام داخل إدارة ترامب بين تيار يعطي الأولوية للمصالح الأميركية، وآخر يتأثر بنفوذ اللوبي الإسرائيلي.
وختم إيزدي بالإشارة إلى أن هناك في الداخل الإيراني، وخصوصا ضمن الحرس الثوري والجيش، قيادات لا تخفي مرارتها مما يجري في غزة، وقد ترى في أي مواجهة مقبلة فرصة للرد على ما تصفه بالإبادة الجارية هناك، مؤكدا أن هذه الشريحة لا تمانع في توجيه "درس" للقوات الأميركية الداعمة لإسرائيل في المنطقة.
إعلان