«بدر الرفاعي» وسيرة الانعتاق من الأيديولوجيا
تاريخ النشر: 12th, April 2025 GMT
(1)
لعل هذه السيرة المعنونة «حنين إلى الدوائر المغلقة» لصاحبها الكاتب والمترجم الكبير والقدير بدر الرفاعي؛ والصادرة أخيرًا عن دار الكرمة للنشر والتوزيع 2025، واحدة من أهم وأمتع كتب السيرة الذاتية الثقافية والاجتماعية التي صدرت في السنوات الأخيرة، لا لتخمتها بالمعلومات (وإن لم تخل من كثير من المعلومات والتفاصيل المهمة) ولا لانغماسها في التحليل السياسي والتاريخي والاجتماعي المفصل الذي يستهوي الكثيرين من كتاب السيرة (وإن لم تخل من ومضات وتأملات دقيقة ونفاذة)، وإنما بالأساس لبساطتها الآسرة وخروجها من قلب صاحبها لتستقر في قلب قارئها ومطالعها دون وسيط ولا تمهيد ولا جهد ولا توتر!
سيرة قدمها صاحبها كما هي ببساطتها دون مساحيق تجميل أو التواء في التحليل أو تقعر في التقييم.
والمترجم والمثقف بدر الرفاعي لمن لا يعرفه (ومن يقرأ سيرته سيعرفه جيدا ويحبه ويقدره أيضًا) كاتب ومترجم وصحفي قدير، تخرج في كلية الآداب جامعة القاهرة قسم الصحافة سنة 1971، وعمل صحفيا ومحررا للنصوص ومترجما بكبريات الصحف والمجلات المصرية والعربية، وحاز على الجائزة التقديرية من المركز القومي للترجمة بالقاهرة سنة 2020، تقديرا لإنجازه الكبير في الترجمة وتكريما له عن مجمل أعماله المترجمة.
وعلى مدى يزيد على نصف القرن قدم الرفاعي إلى المكتبة العربية ما يزيد على العشرين كتابا لا يختلف اثنان على قيمتها ولا أهميتها ولا على ضرورة ترجمتها إلى العربية؛ في مجالات الأدب، والدراسات التاريخية والثقافية، والاقتصاد، والتحليل الاجتماعي والثقافي.. نذكر منها:
«إعلام الجماهير - ثقافة الكاسيت في مصر»، و«مواجهة الفاشية في مصر - الديكتاتورية في مواجهة الديمقراطية في الثلاثينيات»، و«التنوير الإسلامي - الصراع بين الدين والعقل في العصر الحديث»، و«الصناعات الإبداعية - كيف تنتج الثقافة في عالم التكنولوجيا والعولمة؟»، و«مصر الخديوية - نشـأة البيروقراطية الحديثة (1805-1879)»، و«ضباط الجيش في السياسة والمجتمع العربي»، و«الحروب العربية الإسرائيلية (1948-1982)»، و«الشركات عابرة القومية»، و«الزخرفة عبر التاريخ».. وغيرها وغيرها من الأعمال الفكرية والتاريخية والثقافية التي شكّلت إضافة حقيقية واختيارات تدل على عمق الرؤية ونفاذ النظرة والانطلاق من همومنا وحاجاتنا المعرفية والمجتمعية والثقافية الراهنة.
(2)
وأعود إلى السيرة التي تقع في 216 صفحة من القطع المتوسط أو الأصغر قليلا، تستعرض هذه الحياة الحافلة التي تمتد من لحظة ميلاد صاحبها سنة 1948 وحتى اللحظة التي انتهى فيها من تدوين هذه السيرة. قرابة العقود الثمانية من تاريخ مصر والعالم شهدت أحداثا جساما وتحولات هائلة، ربما لو استغرق صاحب السيرة في تأطير هذه الأحداث وتمريرها عبر مصفاة العقل والنقد والتاريخ لربما احتاج إلى أربعة أو خمسة أجزاء كاملة ليقدم فيها هذا التأطير الذي ينزلق إليه الكثيرون في تدوين سيرتهم وكتابة مذكراتهم الشخصية.
في "حنين إلى الدوائر المغلقة" يبدو الأمر أبسط من ذلك بكثير جدا جدا، لا يستسلم الرفاعي أبدا إلى شهوة التصدي للسرديات الكبرى والوقوف عند سنوات ساخنة في تاريخنا المعاصر، وسيرته حافلة بها (1948/ 1952/ 1956/ 1967/ 1973.. إلخ).
نشأ في أسرة مصرية ذات تاريخ نضالي يساري عتيد، ولد طفلا لأب يساري وعضو التنظيم الأشهر في تاريخ الحركة اليسارية المصرية "حدتو"، أب يعمل ميكانيكيا واعتنق المبادئ الاشتراكية عن قناعة وإيمان، وانضوى في العمل التنظيمي السري، مما كانت له آثاره على حياته، فقد ظل مطاردا دوما من البوليس، يتخفى ويظهر ويتنقل بين أماكن عدة، أما الأم فقد كانت بدورها تنظيمية نشطة عاملة بأحد مصانع النسيج، وقد أصبحت الأسرة بتكوينها وحركية الأب ونضالية الأم "أسرة يسارية" خالصة.
لكن وللغرابة، وعلى عكس المتوقع من سياق نشأةٍ كهذه، فإن بدر الرفاعي وهو يكتب سيرته، بعد أن اقترب من الخامسة والسبعين، يكاد يعلن انعتاقه الكامل من قيود الأيديولوجيا وسجنها، وتخليه عن أي بقايا أو ذيول لها في نفسه أو روحه؛ ومن يقرأ هذه السيرة الأنيقة السلسة المكتوبة بروح البساطة والصدق، والابتعاد عن ادعاء أي دور بطولي أو إضفاء أي هالة تمجيدية على الذات (بل على العكس قد يبدو أحيانا مفرطا في التواضع والتقليل من أدوارها أو هكذا خيل إليّ) سيقع على هذه الفقرة الدالة الكاشفة:
"كان أبي شديد الإخلاص لما يراه قضيته. أما أنا فقد نمَت معي الشكوك في كل شيء. بطبيعتي، عندما يُعرض على عقلي شيء يظهر نقيضه على الفور، وتبدأ الدوامة. لو تُركت وشأني لاخترت أن أكون وجوديا أو عدميا أو لا منتميا أو هيومانيا. لكننا في كل الأحوال لا نختار مصائرنا.
عمومًا، أنا لم أختر شيئًا في حياتي، والمرات القليلة التي اخترت فيها، اكتشفت بعدها أنني لست من أختار، بل الأيديولوجيا. الأيديولوجيا تختم كل شيء في حياتك بخاتمها، وتقود سلوكك، بل وتصبغ ذاقتك بصبغتها. وأبرز تجليات الأيديولوجيا أنها تحتويك وتصبح هويتك الأصيلة التي لا جدال فيها". (ص 9)
(3)
هذه الفقرة التي أعتبرها أحد المفاتيح الصادقة لقراءة هذه السيرة والتوغل فيها وإدراك جوهرها؛ وأظن أن هذه الروح التي انطوت عليها هذه الفقرة هي التي حكمت الرفاعي في كتابته لهذه السيرة من أولها إلى آخرها، فلم يبد في موضع منها دفاعا حارا أو نضاليا كما اعتدنا في مثل هذه النوعية من السير والمذكرات. هو يكتب ما يعتقده وما كان على قناعة منه سواء تكشف له خطأه بعد ذلك أو صوابه لا يهم، ولهذا فقارئ السيرة لا يتوقف عن متابعة القراءة لأنه لا يصطدم بنتوءات الذات المعتادة في كتب السيرة والبوح! فلا تقلقه لحظات الالتباس والتوتر التي تنتاب كاتبها ولا يخشى من بوح يتخفف فيه من أثقال سنوات العمر المنقضية ولا يخشى أن يصيبه من رذاذها شيء.
إنها كما يصفها الصديق والناقد القدير محمود عبدالشكور محقا "ربما يكون الصدق والبساطة هما مفتاح هذه السيرة الذاتية، فلا تجد فيها تضخيمًا للذات ولا للدور، ولا تقرأ فيها "عنتريات" تطمح إلى تغيير العالم، بل ربما هي أقرب إلى سيرة حيرة وأسئلة، وليست سيرة إجابات ووصول، سيرة ضعف ومشقة، وليست سيرة قوة ووصول ويقين".
لكن تبقى هذه السيرة على بساطتها الآسرة شهادة عظيمة القيمة والفائدة على ما يسمى في أدبيات تاريخ الفكر والثقافة والإبداع بجيل السبعينيات؛ ذلك الجيل الذي لم يلق أبدا ما يستحقه من اهتمام وتركيز وتأريخ وتوثيق! كانت شهرة الجيل الأسبق طاغية بل عارمة وظلت مسيطرة ومهيمنة بركام المنتسبين إليها وغزارة إنتاج كتابها والضجيج والصخب اللذين أحاطا بأعلامها.. إلخ، كل هذا قد أثر إلى حد كبير على الالتفات والانتباه إلى أسماء مهمة برزت في الجيل التالي (اصطلاحا جيل السبعينيات).
إنهم "أبناء السبعينيات" هؤلاء الذين يصفهم الكاتب الكبير محمود الورداني بأنهم خاضوا تجربتهم بأقصى درجة من درجات الصدق والتضحية والإيمان بالناس والدفاع عنهم وهُزموا بشرف.
تقدم سيرة الرفاعي واحدة من أهم وأنبل بل أصدق الشهادات على هذا الجيل سواء في تجليه الجامعي والطلابي فيما عرف بالنشاط الطلابي في السبعينيات (تحديدا هنا مطالع السبعينيات) أو خارج أسوار الجامعة وفي المحيط الاجتماعي الأوسع والأكبر..
(4)
أي بوح صادق واعتراف مخلص وتأمل نافذ استصفته الأعوام وكللته الحكمة وأنضجته الخبرة وصفّته من الشوائب والكدر.. هذه السيرة قطعة من روح مصر والعالم العربي في فترة تحولات وتقلبات لم تبق لأحد قطعة خشب يطفو بها على السطح!!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: هذه السیرة
إقرأ أيضاً:
إيكونوميست: إسرائيل عازمة على تدمير غزة وخلق مناطق إبادة فيها
أكدت مجلة "إيكونوميست" أن الاحتلال الإسرائيلي ينوي تدمير قطاع غزة بالكامل، فقد أراد الجنرالات ألا يلاحظ أحد العملية العسكرية التي شنت في الأول من نيسان/أبريل الجاري ولحين تمركز جنودهم في مواقع آمنة.
وأوضحت المجلة في تقرير لها أن "السياسيين سارعوا إلى التباهي بها، وقال وزير الدفاع (الحرب) الإسرائيلي، إسرائيل كاتس، بأن الجيش الإسرائيلي شرع في عملية جديدة لسحق المنطقة وتطهيرها من الإرهابيين".
وأضاف كاتس أن العملية تهدف إلى "الاستيلاء على مساحات واسعة وضمها إلى المناطق الأمنية الإسرائيلية"، وبعد ذلك ساعات قليلة، نشر رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو مقطع فيديو تباهى فيه بأن إسرائيل "تغير مسارها"، مما أثار استياء الجنرالات، حيث كشف نتنياهو أيضا عن اسم العملية وموقعها: "ممر موراغ".
وقد كان الفيديو بمثابة رسالة إلى قاعدته الشعبية المتطرفة، فموراغ كانت مستوطنة إسرائيلية صغيرة، تقع بين رفح وخانيونس عندما احتلت "إسرائيل" قطاع غزة بأكمله، والآن عادت القوات الإسرائيلية، والهدف هو تقسيم الشريط الساحلي الذي تبلغ مساحته 365 كيلومترا مربعا إلى مناطق منفصلة، حيث سيدمر جيش الاحتلال أحياء بأكملها، على أمل القضاء أخيرا على حماس، الحركة التي لا تزال تسيطر على جزء من غزة، بحسب ما ذكرت المجلة.
وأصدر جيش الاحتلال أوامر إلى سكان رفح باللجوء إلى "ملاجئ" ضيقة على الساحل، بينما أكد مسؤولون أمنيون إسرائيليون لصحيفة "الإيكونوميست" أن الخطة تهدف إلى إخلاء منطقة رفح، جنوب قطاع غزة، بشكل دائم، والتي تمثل حوالي 20 بالمئة من إجمالي مساحة القطاع.
وأوضحت المجلة أنه "تجري حاليا عملية مماثلة في منطقة أصغر شمال القطاع"، مشيرة إلى أن هذه الخطوات هي جزء من خطة أوسع لإجبار أكثر من مليوني فلسطيني في غزة على مغادرة المدن والبلدات والتوجه إلى الساحل.
ويهدف هذا، على المدى القصير إلى إنشاء "مناطق إبادة" لا يبقى فيها، نظريا، سوى مقاتلي حماس، أما على المدى البعيد، فتأمل "إسرائيل" أن يهاجر سكان غزة "طواعية".
وأوضحت المجلة أن "الإسرائيليين يهدفون من حصر السكان في منطقة الساحل لتحقيق هدف آخر، ففي ظل الحصار ومنع دخول المواد الغذائية والطبية، يقول مسؤولون إسرائيليون إن ممر موراغ سيكون الخط لنقل المواد الإنسانية لهذه التجمعات الساحلية، وحرمان حماس من السيطرة على المواد الغذائية، كما يزعمون. وأيضا يزعمون أن هناك وفرة كبيرة في المواد الغذائية والإنسانية".
وتقول المجلة إن هذا سيكون تغييرا كبيرا في السياسة الإسرائيلية، فحتى وقت قريب، رفض جيش الاحتلال تحمل مسؤولية الاحتياجات الإنسانية في غزة، مفضلا تنسيق قوافل المساعدات مع المنظمات الدولية. وفي جلسات خاصة، قال الجنرالات إنهم يريدون تجنب إعادة احتلال فعلي لغزة.
أما الآن، وتحت ضغط السياسيين الذين يريدون السيطرة على الإمدادات إلى غزة تمهيدا لإقامة سلطة إسرائيلية طويلة الأمد، فقد رضخوا.
وبموجب الخطط الجديدة، سيوزع جيش الاحتلال الإمدادات مباشرة على المدنيين النازحين إلى الساحل، أما في بقية غزة، فستطبق عليها سياسة الأرض المحروقة التي تهدف إلى القضاء على حماس نهائيا.
وليس من الواضح متى ستبدأ هذه المرحلة، ففي هذه الأثناء، بدأت الإمدادات تنفد مجددا، وقد أغلق برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة 25 مخبزا تنتج الخبز اليومي، إذ لم يعد بإمكانه تزويدها بالوقود أو الدقيق.
كما لا تستطيع العائلات إعداد خبزها بنفسها: إذ يبلغ سعر كيلوغرام غاز الطهي الآن 250 شيكلا على الأقل (66 دولارا)، وكيس الدقيق الذي يزن 25 كيلوغراما هو ضعف هذا السعر.
كما أن العديد من المواد الأساسية كالسكر وزيت الطهي تختفي من الأسواق، وأصبحت المياه نادرة، فقد انخفضت القدرة الإنتاجية لمحطة تحلية المياه الرئيسية في غزة إلى نسبة 85 بالمئة ومنذ توقف "إسرائيل" عن تزويد القطاع بالطاقة الكهربائية الشهر الماضي.
وتقول الأمم المتحدة أن معظم سكان غزة يحصلون على 6 لترات من المياه يوميا. ولا يعتبر الجوع التهديد الوحيد للحياة. ففي الشهر الماضي، قتلت القوات الإسرائيلية 15 مسعفا فلسطينيا قرب رفح.
وزعم جيش الاحتلال أن السيارات كانت تسير بشكل مثير للريبة، دون أضواء أو صفارات إنذار.
وأظهر مقطع فيديو حصلت عليه صحيفة "نيويورك تايمز" أن رواية الجيش كاذبة: فقد كانت سيارات الإسعاف مزودة بأضواء وإشارات طوارئ.
وقتل المسعفون الذين يرتدون الزي الطبي بوابل من الرصاص.
وأشارت الصحيفة لاحتجاجات بين السكان على الأوضاع. وانتهكت "إسرائيل" وقف إطلاق النار في غزة أولا بغارات جوية، في 18 آذار/ مارس.
وقد أسفرت عملياتها البرية منذ ذلك الحين عن استشهاد أكثر من ألف شخص، وتزعم المجلة أن حماس، التي تخشى المزيد من الاحتجاجات، إلى استعدادها لقبول هدنة مؤقتة أخرى تستمر لبضعة أسابيع، والتي ستتبادل خلالها عددا صغيرا من الأسرى الإسرائيليين البالغ عددهم 59 الذين ما زالوا في غزة، مقابل إطلاق سراح سجناء فلسطينيين.
ولكن حتى لو حدث ذلك، فإن "إسرائيل" تنوي استئناف حربها. وهي توقعات قائمة، حيث يقول دبلوماسي شارك سابقا في مثل هذه المحادثات: "لا توجد حاليا أي خطط قيد المناقشة بجدية لليوم التالي للحرب في غزة".
وتقول المجلة إن بصيص الأمل الوحيد جاء في اجتماع بين الرئيس دونالد ترامب نتنياهو في 7 نيسان/ أبريل، قال فيه الرئيس الأمريكي: "أود أن أرى الحرب [في غزة] تتوقف. أعتقد أن الحرب ستتوقف في مرحلة ما، ولن يكون هذا في المستقبل البعيد جدا".
وفي الوقت الذي فرض فيه فريق ترامب المرحلة الأولى من وقف إطلاق النار على "إسرائيل"، إلا أن الرئيس يبدو منشغلا الآن بأمور أخرى. فبدون ضغط منه، يصعب تصور أي شيء آخر يمكن أن يمنع "إسرائيل" من تدمير غزة نهائيا.