تقرير: العطش يحاصر غزة .. حين يُصبح الماءُ أمنيةً
تاريخ النشر: 11th, April 2025 GMT
غزة- «عُمان»- بهاء طباسي: في صباحٍ رمادي مشبعٍ بالغبار والقلق، خرج زيد أبو كوارع، الرجل النحيل ذو الثلاثة والأربعين عامًا، من خيمته المهترئة في شمال قطاع غزة، يجرّ قدميه المثقلتين نحو سيارة مياه البلدية. في يده دلو بلاستيكي، وفي قلبه رجاء، أن يعود بماءٍ يكفي زوجته وأطفاله لليوم. لا لترفِ الاغتسال أو تنظيف الملابس، بل فقط للشرب، وتخفيف وطأة الظمأ التي باتت سيدة الموقف في غزة المحاصرة.
زيد الذي أنهك السرطان جسده، لا يمتلك رفاهية الاستراحة أو التذمّر «لو ما روّحتش بميه اليوم، بتموت العيلة من العطش»، هكذا قال وهو يتنفس بصعوبة، ويمسح جبينه بكم سترته الرياضية، التي لم يخلعها منذ شهرٍ كامل. كانت سابقًا زرقاء زاهية، أما اليوم فقد بهت لونها حتى كادت أن تكون رمادية، تتوسل ماءً يُعيد إليها الحياة، تمامًا كصاحبها.
صراع السرطان والعطش
يحكي زيد أنه عندما دمر الاحتلال خط مياه ماكروت (المياه الحلوة)، الذي كان يغذي معظم شمال القطاع، لم يكن يدرك حجم الكارثة إلا بعد أن جفّت صنابير المياه تمامًا.
يقول زيد لـ«عُمان»: «صارت ميه البلدية تجي على فترات، وطعمها ما بقدر يوصفه غير اللي شربها: مرّة، وبتعمل مغص ونزلات معوية».
ولأن النظافة أصبحت ترفًا، كان زيد وأسرته يستخدمون المناديل المبللة التي كانت تُباع بثمنٍ زهيد في الأسواق، يمسحون بها أجسادهم بدل الاستحمام. واليوم، ومع اختفاء تلك المناديل، صارت روائح العرق والألم والقهر جزءًا من جلدهم. «ما عاد فينا نحس حالنا بشر، إحنا بس بنحاول نعيش.. أو نموت بكرامة».
أحيانًا، حين يُجهده المرض، لا يستطيع زيد الذهاب لجلب الماء. حينها، تترقب عائلته صوت خطواته، وصدى لهاثه، وكأنهم يترقبون الحياة نفسها. فالماء لم يعد مجرد مورد طبيعي، بل صار شريان بقاء، ومعركة يخوضها كل صباحٍ بمواجهة الجفاف، المرض، والحصار.
حياة بلا ماء
في قلب الحرب المتواصلة التي لا تفتأ أن تضع أوزارها على غزة، تأتي أزمة المياه كمأساةٍ موازية لا تقل فتكًا. بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي لخط «ماكروت» الذي يغذي مدينة غزة وشمال القطاع بنسبة تصل إلى 70% من احتياجاتهم اليومية من المياه، تحوّل العطش إلى قاتلٍ صامت، ينهش أجساد النازحين، ويغرس أنيابه في تفاصيل حياتهم اليومية.
لا تقتصر الكارثة على انقطاع المياه فحسب، بل في نوعيتها وتوافرها، إذ أصبحت المياه الموزعة عبر سيارات البلدية غير صالحة للشرب، وتسببت في حالات تسمم، نزلات معوية، وأمراض جلدية. أما المياه المالحة، التي كانت في وقت سابق تستخدم للغسيل والتنظيف، فقد اختفت بدورها بعد استهداف آبارها.
أزمة المياه القائمة منذ الأيام الأولى لحرب السابع من أكتوبر 2023، تفاقمت حتى تجاوزت حدود الاحتمال، في ظل توقف مولدات الكهرباء، وتدمير محطات التحلية، ومنع إدخال أي بدائل أو صيانة للمعدات. وهكذا، صار الحصول على عشرة لترات من الماء النقي يتطلب جهدًا بدنيًا كبيرًا، ومخاطرة بالخروج إلى الشوارع المقصوفة، وانتظارًا قد يمتد لأيامٍ بلا جدوى.
حكاياتٌ من قلب العطش
«نحن النازحين في قطاع غزة، تعرضنا للتشريد عشرات المرات، ليس لدينا مياه صالحة للشرب»، يقول أبو محمد الغندور (52 عامًا) بصوتٍ متهدج كأنما يحمل على كتفيه سنوات من التعب. في خيمته التي أقامها فوق ركام منزله، يعيش مع زوجته وأطفاله الستة، دون نقطة ماء تكفيهم لغسل وجوههم أو طهي وجبة بسيطة.
يضيف النازح في مدينة غزة خلال حديثه لـ«عُمان»، وهو يشير إلى جالون الماء الذي يحمله طفله الصغير: «المياه التي نشربها مالحة، غير صالحة. الاحتلال ضرب آبار المياه وألواح الطاقة الشمسية، نقطع مسافات كبيرة لكي نتحصل على جالون مياه. عندنا كبار في السن، وعندنا صغار.. المياه المالحة أصابتهم بالمرض».
لم تعد المياه مجرد حاجةٍ بيولوجية، بل أزمة تمس كرامة الإنسان. يقول أبو محمد إن النظافة الشخصية أصبحت شيئًا من الماضي «لا بنستحم، ولا بنغسل أواني الأكل، ولا بننظف خيامنا. حياتنا صارت بلا طهارة، لا جسدًا ولا روحًا».
في ختام حديثه، رفع نظره إلى السماء، وقال: «نطالب المجتمع الدولي يحل هذه المشكلة.. نموت من العطش، عندنا أطفال وكبار سن. نريد أن نعيش، لكن نعيش بشيء من الكرامة».
منذ عامٍ ونصف، يعيش زهد الترك (61 عامًا) نازحًا داخل غزة، لكنها الأيام الأخيرة هي الأشد قسوة. «نعاني معاناة كبيرة من إنعدام الميا ه الحلوة ومن المياه المالحة أيضاً. نقطع حوالي كيلومتر ذهابًا وعودة لتعبئة المياه من سيارات البلدية، التي تأتي كل ثلاثة أيام»، قالها وهو يمسح عرقه بطرف كوفيته السوداء.
في كثير من الأحيان، يذهب زهد ليعود بخفيّ حنين، فالمياه إما نفدت، أو لم تصل أصلًا. وعندما ينجح في الحصول عليها، يحملها على ظهره، كما لو أنه يحمل جبلًا من التعب والمعاناة. «تعبنا.. تعبنا من كل شيء».
حتى المياه المالحة لم تعد في متناولهم. يوضح لـ«عُمان»: «ما بنقدر نستحم، ولا نغسل ملابسنا. الاحتلال يضيق علينا من كل ناحية .. تعبنا، انهلكنا».
نظر في عينيّ مراسل «عُمان» وقال: «اكتفينا من الحرب. اعطونا فرصة نعيش. بس نعيش». وكان في صوته ما يُشبه الدعاء، أو ربما نداءً أخيرًا من قلبٍ أنهكه الظمأ.
بعينين واسعتين تتأرجح فيهما الطفولة والأسى، تحدثت روان سيد (12 عامًا): «نحن نأتي مسافات بعيدة لتعبئة مياه الشرب. محتاجين المياه كثيرا. إسرائيل قطعت عنا الماء، ونحن بحاجتها للاستحمام، والغسيل، وحتى الشرب».
حين سألها مراسل «عُمان» عن يومها المعتاد، أجابت: «حينما نهم للطهي والاغتسال، لا نجد ماء حتى نشرب، في بعض الأيام، نصوم عن الشرب، تتشقق شفاهنا، وننتظر اليوم الذي بعده يمكن نجد مياه».
تشير إلى دلو صغير بجانب الخيمة وتقول: «ندفع كثير لنشتري ماء معبئة. وأحيانًا بنضطر نشرب من مياه لا نعرف ماذا فيها. بيحكوا عنها غير صالحة، لكن ما إلنا خيار».
ختمت حديثها بنبرة حزينة: «تعبنا من الحياة، لكن لو تعود المياه، يمكن نرجع نضحك شوي للحياة».
90% نسبة العجز المائي
من جهته، قال المتحدث باسم بلدية غزة عاصم النبيه إن مياه خط «ماكروت» تمثل حاليًا ما نسبته 70% من المياه التي يتم ضخها في شبكات المدينة. وأوضح أن هذا الخط قد دمره جيش الاحتلال، يوم الخميس الموافق 27 مارس 2024 في تمام الساعة 11 ليلًا، ما أدى إلى حرمان المواطنين من هذه الكمية الحيوية، وتسبب بعجز مائي تجاوز 90%.
وأشار النبيه إلى أن هذا الانقطاع أدى إلى حالة عطش شديد لدى السكان، لا سيما أن المياه المنقطعة كانت صالحة للشرب والاستخدام الآدمي. وأضاف أن الوضع المائي كان متدهورًا حتى قبل تدمير خط ماكروت، حيث لم يكن الفرد يحصل إلا على أقل من 15 لترًا يوميًا، في حين تفترض المقاييس العالمية توفير أكثر من 100 لتر للفرد يوميًا.
وأكد لـ«عُمان» أن البلدية تعمل جاهدًة على إصلاح الخط، لكنها لم تتمكن حتى اللحظة من صيانته أو إعادة الضخ، مشددًا على الحاجة الملحّة لتدخل المؤسسات الدولية والضغط من أجل صيانة هذا الخط الحيوي وإعادة توصيل المياه.
وأوضح النبيه أن الأضرار شملت نحو 115 كيلومترًا من شبكات المياه من أصل 550 كيلومترًا تغطي مدينة غزة، كما دُمّرت 63 بئرًا من أصل 85 بئرًا. وتابع أن محطة التحلية المركزية في المدينة، والتي كانت تضخ نحو 120 ألف متر مكعب يوميًا، أصبحت غير قادرة سوى على ضخ 30 ألف متر مكعب فقط، منها 20 ألفًا من «ماكروت» و10 آلاف من «العبار»، أي أن أقل من 7% فقط من المياه تصل إلى السكان.
وأضاف أن انقطاع الكهرباء عن مدينة غزة حرم البلدية والمواطنين من تشغيل المولدات اللازمة لضخ المياه، وأن 75% من آبار المياه تم تدميرها. وأشار إلى أن الاحتلال منع إدخال أي مولدات جديدة أو قطع غيار، وأن المولدات التي تعمل حاليًا غير مؤهلة للاستمرار، وتفتقر إلى الزيوت، والفلاتر، والبطاريات اللازمة.
واختتم تصريحه بالتأكيد على وجود آبار جاهزة لكنها بلا قدرة تشغيلية، مؤكدًا أن أزمة المياه في غزة تُعد كارثة إنسانية حقيقية تستوجب تدخلًا عاجلًا.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المیاه المالحة مدینة غزة من المیاه لـ ع مان
إقرأ أيضاً:
السعودية تشارك في بينالي لندن للتصميم 2025
البلاد ــ الرياض
تشارك المملكة ممثلة بهيئة فنون العمارة والتصميم، وبدعم من وزارة الثقافة، بجناح خاص في بينالي لندن للتصميم 2025، بعنوان “مياه صالحة”، ضمن فعاليات بينالي لندن للتصميم 2025 التي تقام في سومرست هاوس خلال الفترة من 5 إلى 29 يونيو 2025.
ويُشرف على جناح هذا العام فريق من المصممين، الذين سيوظّفون خبراتهم في مجالات العمارة والتصميم والفنون، لتقديم معرض؛ يستجوب ويقوّض ويعيد تصور أنظمة الوصول إلى الماء وتوزيعه، وكذلك طبيعة علاقتنا به.
ويتماشى مفهوم “مياه صالحة” الذي وضعه القائمون على المعرض مع موضوع بينالي لندن للتصميم لهذا العام “Surface Reflections”؛ حيث يستكشف كيف تتشكّل الأفكار من تفاعل التجارب الداخلية والتأثيرات الخارجية والتاريخ الشخصي.
ويتمحور الجناح الوطني السعودي حول مفهوم سبيل الماء، الذي يوفر ماء الشرب مجانًا، ويجسّد رمزية الضيافة المتجذّرة في التقاليد السعودية العريقة، وتنتشر سُبل الماء في جميع أنحاء المملكة، موفرةً الماء لسقي المارة، في تجسيد لأخلاقيات الجود والكرم.
غير أن سبيل الماء، في سياق هذا المعرض، لا يمثل مجرد بادرة لحسن النية- فحسب- بل يطرح تساؤلات جوهرية: مَن يدفع ثمن الماء “المجاني”؟ ما هي تكلفته الحقيقية؟ والأهم من ذلك، إذا وقع هذا العبء على عاتق طرف آخر، أفلا يكون الثمن واقعًا- بشكل أو بآخر- على الجميع؟
وكشف أعضاء فريق المصممين أن الجناح يستخدم عددًا من العناصر المألوفة للفت الانتباه إلى اقتصادات الماء الخفية، وتشجيع الزوار على الشرب بوعي، وتقدير ثمن الماء، وفهم أن تكلفة المياه “الصالحة” المجانية، وإن تحمّلها شخص آخر، فإنها تقع- في الحقيقة- على الجميع، وغالبًا ما تؤخذ سُبل الماء كأمر مسلّم به، ويُنظر إليها بصفتها خدمةً عامةً لا أكثر، وكذلك إعادة تأطيره ليصبح موضوعًا للفحص والتساؤل؛ بهدف إحداث تغيير في الإدراك، وإزاحة الستار عمّا هو خفي، ليتحوّل السبيل من بنية هامشية إلى عامل فاعل في حياتنا اليومية.