لجريدة عمان:
2025-04-14@10:18:22 GMT

موت النفوس حياتها

تاريخ النشر: 11th, April 2025 GMT

قد تكون الحياة مجردة قنطرة عبور عند آخرين، وعند آخرين هي اتساع أفق ممتد لما بعد القنطرة، وإذا نظر إلى أن تجارب الحياة، والمواقف التي يتخذها الإنسان، والظروف التي تمر عليه هي مجموعة قناطر، فماذا إذن بعد هذه القناطر؟ لذلك تذهب حياة الكثيرين منا هباء منثورا لا قيمة لها، ولا طعم ولا رائحة، يأتي الغد؛ كما يذهب اليوم، لا تغيير فـي القناعات، ولا إعادة جدولة لكثير منها، فمن هو ظالم - وفق موقف معين - يظل هو ظالما بحكم بقائه، ومن هو سخي وعدل - وفق موقف معين -يظل هو سخيا وعدلا كذلك، وهذا ليس صحيحا إطلاقا، فقد تتغير ظروف الحياة اليومية، فتتغير؛ فـي المقابل القناعات، والمواقف، ولولا هذا التغير الدائم، والتشكيل المستمر لصور الحياة المختلفة، لما وصلنا اليوم إلى هذا الإنجاز المادي والمعنوي فـي حياة الناس، مع أن هناك حقيقة غائبة عن البعض؛ وهي: لهاثهم الشديد، نحو التغيير، الكل يود التغيير؛ إلا الاستثناء؛ والذين لا يؤمنون بحقيقة الوجود المتغير فـي كل لحظة وحين، ومع أن هذا اللهاث نحو التغيير، ونحو الجديد، إلا أن هؤلاء الغالبية، ليس من اليسير أن تتغير قناعاتهم، ومواقفهم من الآخرين، حيث أنه وفق قناعاتهم أن الظالم يراكم فـي ظلمه، وأن الصالح يضاعف من صلاحه، وهي مسألة نسبية، وهذا الأمر يتنافى مع الحقيقة الإنسانية التي تعيش متضاداتهم المستمرة، والإنسان محكوم بالأهواء، وبكثير من هواجسه النفسية لا تسعفه على البقاء صامدا طوال سنوات عمره الممتدة، وهذه من الفطرة، وليس حالة مكتسبة، نعم؛ قد يكون هناك ثبات نسبي محكوم بزمن ما، ولكن أن يظل كذلك، فهذا مما يتنافى مع الحقيقة الإنسانية.

ولفظة الموت الواردة فـي العنوان، ليس شرطا أن يكون الموت البيولوجي الملتحم بالكائن الحي، ولكن قد يكون شدة الجهد المبذول؛ وهو الملتحم بحقيقة الحياة، فلكي تنجز أمرا حقيقيا، ويكون لك فـيه فضل الحياة، فلا بد أن تموت من الجهد والمشقة، والتضحية، سواء على مستواك الشخصي، أو على مستواك الجمعي، أو على مستواك الوطني، فالذين يموتون دون أعراضهم، ودون حياة مجتمعاتهم، ودون أوطانهم؛ هم فـي المقابل «يُوَلِّدُونَ» حيوات أخرى لمن يأتي بعدهم، من أبنائهم، ومن أصدقائهم، ومن أفراد مجتمعهم الكبير فـي الوطن، فقيد الحياة مرتبط ارتباطا كبيرا ووثيقا بما ينجزه الإنسان فـي حياته، ولذلك فالذين يبذلون الغالي والنفـيس؛ ليس شرطا أن يحققوا مآلات هذا البذل لأنفسهم، وإنما يتحقق ذلك لآخرين يأتون من بعدهم، وهذا مصداقا لقول النبي محمد صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له» - وفق المصدر - فعدم انقطاع جريان الخير عن الفرد بعد موته من هذه المصادر المذكورة فـي الحديث، هي فـي مجملها ديمومة لحياة آخرين، يأتون بعد هذا الفرد الذي استطاع؛ بتوفـيق الله أن ينجز هذه المشاريع الحيوية، له وللآخرين من بعده، ولذلك قيل: «السؤال الحقيقي ليس ما إذا كان هناك حياة أخرى بعد الموت، السؤال الحقيقي هو هل كنت على قيد الحياة قبل الموت؟»- انتهى النص؛ حسب المصدر. والسؤال الاستنفاري؛ يذهب إلى حث الإنسان لأن يبذل ما يستطيع بذله قبل أن يغادر هذه الحياة، فحياته بعد موته، وليس قبلا، وكما يقال أيضا: «من لم يزد طوبة على بنيان الحياة؛ فهو عبء على الحياة».

«موت النفوس حياتها»: دعوة للبقاء الموسوم بترك الأثر، والبذل والعطاء، فحياة الإنسان قصيرة؛ مهما طالت، فـ «لا يغر بطيب العيش إنسان» وتكملة البيت «إن شئت أن تحيا فمت» ويقال أن قائله عنترة بن شداد.

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

عادل الباز يكتب: عروة.. “غاب بعد طلوع.. وخبا بعد التماع” (1)

1 أصدقكم القول إنني أكتب هذا المقال بعد أن توقفت ثلاث مرات وانصرفت عن كتابته نهائيًّا، إذ انتابتني تلك الحالة التي تحدث لي للمرة الثالثة، حين أبدأ في الكتابة عن صديق أو عزيز رحل، سرعان ما تفيض المآقي بالدموع، وأجد نفسي أبتسم حين تمر أطياف وصور ذكرياته وحكاياته الجميلة، ومرات أضحك ومرات ابكى وتغلبنى الكتابة ، لا أدري كيف تختلط هذه المشاعر وتتفاعل داخلي في ذات اللحظة الحزينة.

انتابتني تلك الحالة عند وفاة أمي نفيسة بت الشيخ الريح، والمرة الثانية عندما غادر وارتحل صديقي ماجد يوسف إلى الفردوس الأعلى بإذن الله، وكذلك الحال كان مع استاذى عبد الله حمدنا الله والآن ها هو الفاتح عروة يعيدني لتلك الحالة.

عندما تنتابني تلك الحالة أتوقف عن الكتابة مباشرة، وقد لا أستطيع أن أكتب حرفًا أو أكملها، فأهجرها ولا أعود وقد افعل بعد زمن طويل.
بعد خبر وفاة #الفاتح_عروة هرعت إلى الكمبيوتر وحاولت أن أكتب عنه، وما أقسى الكتابة عن حبيب غاب من بعد طلوع وخبا بعد التماع. غالبت نفسي، وها أنا في اليوم الثالث نجحت في تجاوز تلك الحالة لأول مرة بعد عناء .. كيف لا أعرف،وأكتب الآن و الدموع في المآقي والبسمات التي تثيرها ذكريات وحكايات طويلة مع عروة وعنه، تعلو وجهي!!.
حين تنظر إلى التاريخ الذي كتبه عروة عبر مسيرة حياته، تتيقن أنه ذاهب إلى ربه بتلك النفس التي قال عنها سبحانه:(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي). لقد خضّر الفاتح دنياه، وعمّر آخرته بالأعمال الصالحة وفتح له صراطا مستقيما في كلا الدارين، كما أظن وأحسب.

2
كانت رحلة حياته عذابًا وصبرًا ومتعة، أسفار وإنجاز. غدرت به الدنيا مرات ومرات ولم يهتم، ورفعته مكانًا عليًّا فلم تبطره المناصب. عاش فقيرًا حينًا من الدهر فلم تقعده همته عن طلب المجد. صادق الزعماء والرؤساء، بل صنعهم بذكائه وجهده، ولكنه لم ينسَ قط أصدقائه.
عاش حياة عريضة، وما أجملها من رحلة حياة زاخرة وملهمة تفيض بالمآثر. لم يفته في الحياة ما يمكن أن يُؤسَى عليه. عاش حياته كما يجب أن تُعاش، عابدًا، ذاكرًا، شهمًا، كريمًا، ودودًا. أدى واجبه تجاه دينه ووطنه كما ينبغي، أكمل مشوار حياته وأدى رسالته ورجع إلى ربه، وإن إلى ربك الرجعى.
قال لي في آخر زيارة له إلى الدوحة وهو يحكي: “تعرف يا ود الباز، الموت المشينا نفتش ليهو في أدغال الجنوب، يطاردني الآن في مشافي أمريكا.”

وحكى لي قصة صراعه مع المرض اللعين وهو يضحك، ثم أهداني عطرًا. قلت: سبحان الله! رجل يمضي في طريق الموت يوزع الضحكات ويهديك أفخم العطور… يا له من رجل نادر!
تذكرت عبارة باهية لنجيب محفوظ في رائعته الحرافيش، جاءت على لسان عاشور الناجي:
“الخوف من الموت لا يمنع الموت، بل يمنع الحياة.”

وقد صدق. عروة لم يمنعه الخوف من الموت من الحياة، فعاشها بحقها، وترك وراءه أثرًا سيبقى بين الناس طويلًا.
3
قال لي أستاذي عبد الله علي إبراهيم (أمد الله في أيامه ونفعنا بعلمه): إن هناك لحظة في حياة الإنسان في نهاية العمر، يلتفت فيها خلفه، فينظر ليرى أنه خضّر تاريخه وجعله أرضًا ممتدة بالعطاء والبذل، وترك من الآثار ما يفخر به هو وأبناؤه وجيله، فتنشرح نفسه ويمضي بقية عمره هادئًا مطمئنًا فرحًا.

ولكن إذا التفت تلك الالتفاتة ووجد أنه أهدر عمره في سفاسف الأمور والتفاهات، فلا تصدّق ولا صلى،وغرته الدنيا بزبدها وبهرجها، ففي تلك اللحظة يُصاب الإنسان بالاكتئاب ويقضي بقية حياته في خوف وحذر. وشتان بين هذا وذاك.
لقد كان تاريخ عروة أخضر، حياته عامرة بالمعاني والعبر والإنجاز، ولذا مضى إلى ربه ضاحكًا مستبشرًا، ومقبلًا على الموت واقفًا له، كأن أبا الطيب المتنبي عناه حين قال وهو يمدح سيف الدولة الحمداني:
“وقفتَ وما في الموتِ شكٌّ لواقفٍ… كأنك في جفنِ الردى وهو نائمُ.”
4
ستجد كثيرين يحدثونك عن الفريق الفاتح عروة، وعن حكايايتو المضن والبقن، وعن مشاويرو الطويلة، اليها وداهو الزمن”. وما أكثرها وما أجملها وما أمتعها. إنه رجل له في خدمة الشعب دم وعرق.

ستجد من يكتب عن تاريخه في جهاز الأمن أيام نميري، وعن مجاهداته في القوات المسلحة (أعجبني وفاء الرئيس البرهان لرفاقه في الجيش، إذ كان أول من نعاه من خلال مجلس السيادة)، وعن بطولاته وفدائيته في معارك الميل (40) في تسعينيات القرن الماضي.
وستجد من يحكي لك القصص عن مدى تأثيره في القرن الإفريقي، حين غير معادلاته وأنظمته، وستجد من يحدثك عن معاركه الدبلوماسية في مجلس الأمن حين كان ممثلًا للسودان (كما فعل السفير الوفي عبد المحمود)، وبلا شك سيحدثك كثيرون عن بصماته في قطاع الاتصالات وكيف تطور على يديه، بل وماذا فعلت زين تحت قيادته وهو يصارع المرض العضال أثناء هذه الحرب، وكيف عادت زين إلى الخدمة في وقت وجيز بعد أن
تدمرت بنيتها التحتية تمامًا.
5
سيحدثك رفيق دربه وصديقه وتلميذه لسنوات، صالح محمد علي، عن مسيرة طويلة في زين الخرطوم و #أديس_أبابا وذكرياتها، كما سيفعل رفيقه في زين إبراهيم محمد الحسن، حين يحدثك عن “زواياه المخفية البعيدة”.
وتحدثك #سناء_حمد عن “عمو” الفاتح، الإنسان، الجد، والصديق.
يا ليتني أستمع لشهادة #الرئيس_البشير في صديق عمره الوفي الفاتح عروة ومواقفه معه.
كل ذلك ستجد من يحدثك عنه.
أما أنا، فسأختار الزاوية التي قدّرت أن لا أحد سيذكرها، وأخشى أن تُهمَل ونحن نسجل تاريخ رجل أعطى وطنه، وأنجز في مجالات شتى، ولم يستبق شيئًا، وهي زاوية بصمته فيها أوضح من الشمس، ولكن لا أحد يراها، ولم يذكرها كاتب، لا في حياته ولا الآن بعد رحيله. فما هي؟ … نواصل.

عادل الباز

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • عادل الباز يكتب: عروة.. “غاب بعد طلوع.. وخبا بعد التماع” (1)
  • سيدة تعذب كلب حتى الموت بسبب عقر طفل بالقاهرة
  • طالبة تنهي حياتها بقرص الموت في طهطا بسوهاج
  • شرح صلوات الأسبوع العظيم في الكنيسة الأرثوذكسيّة
  • شرح أيقونة قيامة سبت العازر
  • حصار غزة: مأسسة الموت
  • في بيت عنيا.. تعرف على قبر القديس لعازر
  • “سبت لعازر”.. تمهيد الفرح وانتصار الحياة على الموت
  • “سبت لعازر”.. ذكرى إقامة المسيح للموتى وبشارة الحياة الأبدية