يحلو لهوليوود أن تنتج أفلاما عن تعرض واشنطن والبيت الأبيض لهجات إرهابية مبتكرة، لكن لا يخطر ببال أحد أن يتم احتلالها وإحراق البيت الأبيض، إلا أن هذا الأمر حدث بالفعل!

إقرأ المزيد "أطفأ أضواء إسبانيا".. "قط بـ5 أرواح" كاد يصبح قائدا للعالم

ذلك الحدث التاريخي جرى حين كانت بريطانيا  منشغلة بمحاولة مقاومة زحف نابليون ومنخرطة في حروب لوقف جحافله في أوروبا.

الرئيس الأمريكي توماس جيفرسون على خلفية تلك الظروف الأوروبية العصيبة بالنسبة لبريطانيا، دعا إلى شن حملة بهدف "تحرير" كندا وتخليص الجيران من "نير البريطانيين".

مثل هذه الأفكار، التي لا تبدو غريبة الآن على سياسات الولايات المتحدة، كانت شائعة، ولذلك تم تشكيل "حزب الحرب" في الكونغرس، وبتأثير ذلك، أعلن الرئيس الأمريكي الجديد حينها جيمس ماديسون الحرب على بريطانيا في 12 يونيو 1812.

بدأ العمليات العسكرية الأمريكية لـ "تحرير" كندا بعبور مفرزة بقيادة الجنرال ويليام هال نهر ديترويت واحتلال مدينة ساندويتش، التي رحب سكانها به بحرارة.

هال سارع إلى دعوة السكان المحليين إلى أن يقسموا بالولاء للولايات المتحدة، وجلس في مكانه مكتفيا بذلك. تمكن البريطانيون من استقدام تعزيزات من الاحتياط، ما أجبر الجنرال الأمريكي على التراجع إلى ديترويت، التي حاصرها البريطانيون في أغسطس 1812.

خارت عزيمة الأمريكيين ولم يتمكنوا من الثبات، بعد يومين استسلمت ديترويت، وبدأت منذ البداية الخطة الأمريكية لضم الأراضي الكندية في الانهيار.

الأمريكيون استأنفوا حملتهم لـ"تحرير" كندا وضمها إلى أراضيهم في عام 1813، ومهدوا لذلك بزيادة عدد قواتهم بشكل كبير. 

نفذوا عدة عمليات عسكرية ناجحة بلغت ذروتها في 27 ابريل 1813 باستيلاء وحدات أمريكية بقيادة الجنرال هنري ديربورن على مدينة يورك، التي تعرف الآن باسم تورنتو.

البريطانيون فيما كانوا ينسحبون من المدينة قاموا بتفجير مخزن للبارود، ما أسفر عن مقتل حوالي 250 أمريكيا و100 جندي بريطاني، ورد الأمريكيون بنهب وحرق المدينة بعد السيطرة عليها بشكل كامل.

الأوضاع في أوروبا في عام 1814 تغيرت بشكل كبير بهزيمة نابليون، وأصبح في وسع البريطانيين أخيرا أن يتفرغوا لقتال الأمريكيين بجدية وبقوات أكبر.

القائد الجديد للأسطول البريطاني في أمريكا، الأدميرال ألكسندر كوكرين، كان مصمما على تلقين الولايات المتحدة درسا، وكتب عن خصوم بلاده يقول:" الأمريكيون بشكل أبدي أمة منافقة وذات عويل، خالية من النبالة والشجاعة، يذكرونني بالذليل، الذي لا يمكن إلا للعصا أن تدفعه إلى الأخلاق الحميدة والأدب".

الأدميرال كوكرين كان ينوي قصف المدن الأمريكية الكبرى الواقعة على الساحل، ولهذا الغرض جرى تعزيزات بحرية بريطانية بخبرة قتالية كبيرة من أوروبا.

كوكرين أعلن جهارا بأنه سينتقم من الولايات المتحدة على حرق ونهب المستوطنات في كندا، مشيرا إلى أن التقييد الوحيد يتمثل في عدم السماح بقتل الأمريكيين العزل.

نزل في 19 أغسطس 1814 حوالي 4500 جندي ومقاتل من مشاة البحرية البريطانية بقيادة الجنرال روبرت روس في بنديكت بولاية ماريلاند، وجرى تعزيز مفارز بريطانية متقدمة كانت في المنطقة.

ألحق البريطانيون العديد من الهزائم بتشكيلات عسكرية محلية، ثم توعدوا بتدمير الممتلكات الخاصة، وكان ذلك كافيا لإخماد أي حماس لدى السكان المحليين لمقاومة الغزاة.

القوات النظامية الأمريكية هي الأخرى لم تصمد في القتال، وتمكنت في بلدة بلادينسبورغ بولاية ماريلاند قوات بريطانية يبلغ تعدادها 4000 عسكري، من إلحاق هزيمة ساحقة بقوة أمريكية يزيد عددها عن 6000 جندي معززة بـ 18 مدفعا.

الرئيس ماديسون وأعضاء الكونغرس راقبوا من بعيد المعركة، وبعد الهزيمة سارعوا إلى الفرار للنجاة من قبضة البريطانيين.

الطريق إلى واشنطن أصبحت مفتوحة بعد تلك المعركة وكانت العاصمة الأمريكية من دون حماية، وزاد الأمر سوءا أن البريطانيين حين أرسلوا وفدا لبحث شروط استسلام المدينة مساء يوم 24 أغسطس إلى الكونغرس الأمريكي في الكابيتول هيل، أطلق رجال الشرطة الأمريكية النار على المبعوثين وهم يرفعون العلم الأبيض!

تفجر غضب البريطانيين وهاجوا وقاموا بإضرام النيران في واشنطن، وجرى حرق البيت الأبيض ومبنى الكابيتول ووزارة المالية ومؤسسات رسمية أخرى، بما في ذلك أحواض بناء السفن في منطقة بوتوماك والسفن الموجودة هناك.

البريطانيون أعلنوا أيضا أن انتقامهم طال مستودعات الممتلكات وأنهم أحرقوها هي الأخرى، إلا أن الأمريكيين اعترضوا قائلين إنهم هم من قام بإحراقها لحرمان العدو منها!

مؤسسة واحدة في واشنطن نجت من التدمير هي مكتب براءات الاختراع، وذلك لأن رئيسها ويليام ثورنتون وافق على التعاون مع البريطانيين.

بعد يومين من تدمير العاصمة الأمريكية، غادرت الوحدات البريطانية منتشية بانتقامها، وقدرت الأضرار المادية التي لحقت بواشنطن بمليون ونصف المليون دولار بقيمة العملة في عام 1814.

لم يجد أعضاء الكونغرس الذين عادوا إلى واشنطن مكانا للاجتماع إلا مبنى مكتب براءات الاختراع، الذي أنقذه رئيسه بتعاونه مع المحتلين.

سقوط واشنطن في قبضة البريطانيين في تلك المناسبة ينظر إليه في الولايات المتحدة على أنه "الحلقة الأكثر إذلالا في التاريخ الأمريكي بأكمله".

المتعاطفون مع الولايات المتحدة اعتبروا حرق واشنطن من قبل البريطانيين عملا همجيا، إلا أن بعض البريطانيين جادلوا بالتساؤل قائلين: "يمكنهم حرق يورك، لكن لا يحق لنا حرق واشنطن؟".

هذا ما كان في الماضي، أما الآن فالبريطانيون هم أقرب حلفاء واشنطن في جميع الأحوال، لكن إذا رغب بريطاني في أن يزعج الأمريكيين فسيقول: "نحن على الأقل وضعنا يدنا على واشنطن"، ولن يستطيعوا الرد بالمثل لأنهم لم يصلوا إلى لندن!

المصدر: RT

المصدر: RT Arabic

كلمات دلالية: كورونا أرشيف الولایات المتحدة

إقرأ أيضاً:

العودة إلى السياسة الواقعية الأمريكية

ترجمة: بدر بن خميس الظفري

تثير السياسة الخارجية التي ينتهجها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب حيرة كثيرين وتساؤلات لا تهدأ. فما بين تقليص نفوذ الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية، والتلويح بضم كندا إلى الولايات المتحدة باعتبارها الولاية الحادية والخمسين، والتعامل الفج مع أوكرانيا، يبدو المشهد وكأن الولايات المتحدة تنحرف عن مسارها التقليدي في قيادة النظام العالمي. ثمة من يفسر هذه التوجهات بنزعة ترامب الشخصية نحو الجشع أو افتتانه بالحكام المستبدين، وربما تحمل هذه النظريات قدرا من الصحة، لكنها تظل غير كافية لفهم الصورة الكاملة. فبالنسبة لترامب، المسألة لا تتعلق بثروات الدول ولا بأيديولوجياتها، وإنما بحجم قوتها. إذ يؤمن بأن السيطرة للأقوياء، وأن الولاء يجب أن يُمنح لهم، فيما لا يستحق الضعفاء سوى التجاهل أو الابتزاز. إنها ببساطة واقعية صلبة تعود جذورها إلى أزمنة سحيقة.

ليس في ذلك دفاع عن سياسات ترامب، فالكثير من ممارساته على الساحة الدولية، كما على المستوى الداخلي، تتسم بالخشونة والسطحية وقصر النظر. ومع ذلك، يبدو أن إدارته قد أدركت بوضوح أن النظام الليبرالي العالمي الذي ظلت الولايات المتحدة ترعاه لعقود طويلة، كان قائماً بالأساس على تفوقها العسكري، وأن الشعب الأمريكي لم يعد مستعداً لدفع كلفته. وهذه في جوهرها نظرة واقعية، وإن جاءت في صورتها البدائية التي وصفها الباحث ستيفن والت يوماً بأنها «واقعية نياندرتالية»، لكنها تظل مع ذلك قراءة واقعية للعالم.

ينظر الواقعيون إلى العالم باعتباره ساحة صراع فوضوية لا مكان فيها للأوهام الأخلاقية. فالأمن، في هذا التصور، لا يتحقق عبر نشر الديمقراطية أو ترسيخ القوانين الدولية، بل في امتلاك ما يكفي من القوة لردع الخصوم، مع تجنب الاصطدام المباشر بالقوى الكبرى. من هذا المنطلق، يسعى ترامب لتفادي أي مواجهة مع روسيا، ولو كان الثمن التخلي عن أوكرانيا ومعاناتها.

يعود أصل هذا النمط من التفكير إلى الحرب البيلوبونيسية في القرن الخامس قبل الميلاد، عندما فرضت أثينا حصاراً على جزيرة ميلوس، مطالبة سكانها بالخضوع وإعلان الولاء، وإلا تعرضوا للقتل والاستعباد. وحين اعترض سكان ميلوس محتجين بأن أثينا لا تملك الحق في فعل ذلك، جاءهم الجواب صريحاً وواضحا: «الأقوياء يفعلون ما يستطيعون، والضعفاء يعانون ما لا بد لهم من معاناته»، كما نقل عنهم المؤرخ ثوسيديديس.

لو قُدر لي أن أعيش تلك اللحظة، لربما اخترت الخضوع على أمل مقاومة لاحقة أكثر جدوى. لكن قادة ميلوس آثروا القتال حتى النهاية، وكانت المحصلة أن قتل الرجال، واستُعبدت النساء والأطفال، واستولت أثينا على الجزيرة. وهنا يبقى السؤال معلقاً: هل كانوا أبطالاً يدافعون عن شرفهم، أم حمقى أغرتهم شعارات لا تصمد أمام منطق القوة؟ من يراهم أبطالاً ينتمي إلى المدرسة الليبرالية الدولية التي تؤمن بأن الأمن والسلام يعتمدان على عدالة الحكومات واحترام القوانين. أما من يراهم حمقى، فهو أقرب إلى الواقعية السياسية التي تحتكم إلى موازين القوى وحدها.

وفي لقاء جمع ترامب مؤخراً بالرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، بدا الرئيس الأمريكي وكأنه يستعيد الموقف الأثيني نفسه، إذ قال لزيلينسكي بوضوح: «أنتم لا تملكون أية أوراق حاليا». لم يكن يشير إلى قيم أو مبادئ، بل إلى موقع أوكرانيا الضعيف في لعبة الأمم.

لطالما افتقرت الواقعية إلى حضور قوي في أروقة السياسة الخارجية الأمريكية، التي ظلت لعقود ساحة صراع بين المحافظين الجدد، الذين سعوا لفرض الديمقراطية بقوة السلاح، والليبراليين الذين فضلوا نشرها عبر أدوات ناعمة، من بينها برامج دعم المجتمع المدني التي تمولها الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية. وفي خضم هذا الصراع، همش العديد من المفكرين الواقعيين، ممن حاولوا مراراً تحذير الإدارات الأمريكية من مغبة التورط في مغامرات عسكرية مكلفة. هانز مورغنثاو حذر إدارة جونسون من توسيع حرب فيتنام فأقصي عام 1965. جورج كينان عارض توسع الناتو في التسعينيات، محذراً من استفزاز روسيا، فلم يسمعه أحد. برنت سكوكروفت حاول ثني جورج بوش الابن عن غزو العراق دون جدوى.

إلا أن السنوات الأخيرة شهدت عودة لافتة للمدرسة الواقعية في واشنطن. برزت مراكز أبحاث تتبنى هذا التوجه، مثل معهد كوينسي لفن الحُكم المسؤول، وأولويات الدفاع، ومركز تحليل الاستراتيجية الكبرى بمؤسسة راند. وظهر على الساحة عدد من المسؤولين الذين يُنظر إليهم باعتبارهم واقعيين، من بينهم نائب الرئيس جيه دي فانس، ووزير الخارجية ماركو روبيو، ومديرة الاستخبارات الوطنية تولسي غابارد. بل إن أبرز المفكرين الواقعيين المعاصرين، إلبريدج كولبي، مرشح لمنصب وكيل وزارة الدفاع للسياسات في إدارة ترامب المقبلة. ولعل السيناتور الجمهوري عن ولاية ميزوري إريك شميت لخّص هذا التحول بقوله: «ندخل عصراً جديداً من الواقعية الأمريكية».

وراء هذا التحول شعور متزايد بالخطر. فحين كانت الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة، لم تكن بحاجة لحسابات معقدة تأخذ في الاعتبار مصالح روسيا في أوكرانيا أو الصين في تايوان. أما اليوم فإن المعادلة تغيرت، روسيا والصين تمتلكان أسلحة متطورة تفوق سرعة الصوت، في حين لم تطور الولايات المتحدة حتى الآن وسائل فعالة للتصدي لها. وتملك الصين القدرة على تعطيل الأقمار الصناعية الأمريكية، مما يعني تهديد أنظمة حيوية تعتمد عليها القوات المسلحة والاقتصاد الأمريكي. والأسوأ أن القدرات الصناعية اللازمة لخوض حرب كبرى باتت متركزة في الصين نفسها، نتيجة السياسات الليبرالية التي حوّلتها إلى مصنع العالم.

ورغم ذلك، ما زالت الولايات المتحدة تملك من التحالفات والقدرات ما يضعها في موقع تفوق إذا أحسنت توظيفه. لكن المزاج الشعبي الأمريكي تغير كثيراً. فبعد تجارب العراق وأفغانستان، لم يعد الأمريكيون مستعدين لخوض الحروب من أجل شعارات نبيلة.

يبقى أن نعرف نوع الواقعية التي سيتبناها ترامب. فهناك الواقعيون الهجوميون الذين يرون المواجهة مع الصين أمراً محتوماً. وهناك الواقعيون الدفاعيون الذين ينصحون بتجنب استفزاز القوى الأضعف ودفعها إلى التسلح. ترامب، كالعادة، لا ينتمي بوضوح لأي من المدرستين. يقول ستيفن والت إنه «لا يوجد واقعي حقيقي يهدد بضم كندا أو غزة أو غرينلاند»، ومع ذلك، يفعل ترامب ذلك وأكثر.

ورغم اعتماد ترامب على منطق القوة والتخلي عن الضعفاء، فإن تهديداته لجيرانه وحروبه التجارية قد تكلف بلاده ما كلفته مغامرات النظام الليبرالي السابق. وكما قال راجان مينون، أستاذ العلوم السياسية في كلية سيتي بنيويورك: «من ينتظر من ترامب سياسة خارجية واقعية متزنة سيصاب بخيبة أمل كبيرة».

وفي لقائه مع ترامب، حاول زيلينسكي تحذيره قائلاً: «ربما لا تشعرون بالخطر الآن، لكنكم ستشعرون به لاحقا». فرد ترامب بحدة: «أنت لا تعرف ذلك. لا تخبرنا بما سنشعر به».

في النهاية، يعتقد ترامب أن الولايات المتحدة تظل قوة لا يجرؤ أحد على تحديها، وأن أوكرانيا ليست سوى ورقة يمكن التضحية بها. لكن دروس التاريخ تقول غير ذلك. فحتى أثينا، بعد أن أمعنت في إذلال ميلوس، دفعت الثمن لاحقاً بخسارة الحرب وتفكك تحالفاتها. ليتأكد مجدداً أن الأفكار والقيم النبيلة، رغم ضعفها الظاهر، قد تكون أقوى مما يظن الواقعيون.

فرح ستوكمان عضو هيئة التحرير في نيويورك تايمز ومؤلفة كتاب «صُنع في أمريكا: ماذا يحدث للناس عندما تختفي الوظائف».

** خدمة نيويورك تايمز

مقالات مشابهة

  • ارتفاع عدد قتلى العاصفة القوية التي ضربت الولايات المتحدة إلى 28
  • البيت الأبيض: الحوثيون استهدفوا السفن الأمريكية أكثر من 300 مرة منذ 2023
  • العدوان الأمريكي على اليمن.. الكشف الفاضح للنوايا والحماية القصوى للاحتلال
  • رسميا: صنعاء تكشف عن الخسائر التي خلفتها الغارات الأمريكية اليوم
  • العودة إلى السياسة الواقعية الأمريكية
  • صفقة ترامب للمعادن.. هل يتجه للتكنولجيا الخضراء التي يسخر منها؟
  • عاجل | واشنطن بوست عن مصادر: إسرائيل تطبق قواعد جديدة صارمة على منظمات الإغاثة التي تساعد الفلسطينيين
  • احتفاء إسرائيلي برسالة الإنجيليين الأمريكيين لترامب حول ضمّ الضفة الغربية
  • كيف تنظم وقتك بين العمل والعبادة والبيت في رمضان؟
  • روسيا: مستعدون لمحادثات مع الولايات المتحدة بشأن أوكرانيا