الإعيسر .. العنف الرمزي وإختلال الوظيفة
تاريخ النشر: 11th, April 2025 GMT
كتب الأستاذ الجامعي د. محمد عبد الحميد
في مشهد ميلودرامي يحمل رمزية غاية في التعقيد والدهشة، ظهر وزير الإعلام السوداني وسط جمع من الناس مستهلاً عملية "رجم" لمُجسم شخصية (حميدتي) وفي خضم تقديمه عبر الميكرفون من الجمع المنفعل بسريالية المشهد ليشرع في عملية الرجم كان المسؤول الأول في السودان عن "الثقافة" قد حمل حجراً وهوى به وهو يضحك على رأس المُجسم.
لو أن مسؤول الثقافة الأول إعترض على كل المشهد من خلال ما تفرضه موجبات وزارته(غير العقابية) لكان له في ذلك شرف لا يدانيه شرف، بأنه شخص خليق بأن يقوم على خدمة الثقافة من منظور ما تقتضيه من تهذيب وتشذيب للنفوس والأوراح ومجمل السلوكيات... ولبدا للناس أن هنالك فروقات جوهرية بين مُتسنِم منصب الثقافة و (المُرجوم الذي إستمد وعيه من بنية العقل الرعوي) ولَبَانَ البَونُ شاسعاً لأهل النظر والإعتبار أن السودان عبارة عن عوالم متباينة من دوائر تشغلها الثقافة وما تقدحه في العقل من همة البحث والظمأ المفرط للمعرفة، وفي الروح وما يكتنف براحاتها مِن تطلع لا نهائي لكل ما هو متسامي ونبيل. وبين ما نُسب ويُنسب لمنسوبي صاحب المُجسم من قبيح الطبائع والطباع. ولبدا للمراقب أن الخصمان المتحاربان عالمان مختلفان يفصل بينهما بحر من رجاحة العقل وإتقاد الضمير... بيد أن الوزير راح بفعلته السوقية يؤكد أن الحرب بين ( أحمد وحاج أحمد كلاهما في الهمجية سواء) ولا يكاد أحدهما يتفوق على الآخر برفعة ثقافة أو وضاعة مَنبتٍ... هكذا أخلَّ وزير الثقافة بموجبات وظيفته فأنحدر بها مع أمواج البحر في لا قرار ولكأن حُمرة البحر قد إستمدت لونها من دم الثقافة المسفوح على الضفاف.
إن وظيفة الثقافة في المجتمع هي وظيفة تقوم على تعزيز الفضائل. وتعلي من قدر الضمير إزاء مراقبة الذات عند تفلت شهوات الإنتقام. فهي تعمل من داخل الذات على بناء برج مراقبة ذاتي بين ما يجب وما لا يجب. بين ما هو منكر ومقبول.. بين الجميل والمستقبح فهي أي - الثقافة - سلطة في ذاتها تقوم عليها سلطة تنتجها لنتج هي سلطة على السلطة، وبذلك فهي معمار يتمكن بفضله الناس من مراقبة ذاوتهم بذاتهم... لا يتركون لها العقال كي تمضي كيفما إتفق وإنما وَفق حالة منضبطة من كل ما هو مترع بالجمال، مشبع بفيوض التراحم ومنسجم مع معاني الإشراق. ومتسق مع الوجدان السليم ومتوافق مع الفطرة القويمة. ينبذ العنف ولا يحض عليه. يستخدم في ذلك كل مؤسسات وأدوات الإرتقاء ببني البشر ينتجها الشعراء والفنانون والمبدعون وأهل الفكر وذوو البصائر في شتى الضروب. لا يتبعهم الغاوون المشّاؤون في الناس بكل ما هو ذميم و مرزول ومستقبح. ولا يلج معارج سماواتهم حملة المباخر التي تتصعد منها أبخرة الكراهية والتباغض والبغضاء.
د. محمد عبد الحميد
wadrajab222@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
أربعون عاما على الانتفاضة: الجيش حصان طروادة الاسلامويين ( 4 – 4)
مضت أربعة عقود من الزمن، على انتصار شعبنا في انتفاضته، على الدكتاتورية العسكرية الثانية. تشكل انتفاضة ابريل 1995 معلم هام في تاريخ بلادنا، وتستحق الاهتمام بالدراسة والتحليل، واستيعاب الدروس. للقيمة الهائلة لتجربة انتصار الشعب، سلميا على نظام عسكري، والطريقة التي انجز بها ذلك. هذه المقالات تحاول وتجتهد ان تقدم قراءة للتجربة وربطها ببعض التحديات التي تواجهنا الان، حتى لا يصبح تعاملنا معها نشاطا أكاديميا معزولا على الصراعات والمشاكل الراهنة.
تعرضت في المقال الأول، لنقد المحاولات الحثيثة، التي تبرر لاستمرار الحكم العسكري. الحكم الذي نتج عن انقلاب 25 أكتوبر ضد السلطة المدنية الانتقالية. وأوضحت ان كل الحجج، التي تقدم لتسويغ لذلك النمط من الدكتاتورية، هي حجج لا تستقيم امام المنطق العقلي، ولا التجربة التاريخية لشعبنا. وعرضت لبعض، فقط بعض، الالام والخسائر التي سببها العسكر لبلادنا. وختمت بأن الجيش مؤسسة مهمة وضرورية، مثيل غيرها من مؤسسات الدولة الحديثة، ولكن ليس فوقها. وركز المقال الثاني على ضرورة وحدة القوي السياسية والمدنية لتحقيق آمال شعبنا في نظام ديمقراطي، مبني على المواطنة والمساواة في الحقوق. وأوضح المقال الثالث اننا، بصراعاتنا وانقساماتنا، اغفلنا القضايا الأساسية، ومن ضمن ضرورة قيام نقابات ديمقراطية منتخبة، من قواعدها. المسؤولية ليست مسئولية حزب واحد او تيار واحد، وانما شاركنا في ذلك كلنا، وجهزنا الأرض للجنة الأمنية، لتمارس تخريبها، حتى انقلبت، واستولت على كامل السلطة.
نتعرض اليوم لواحد من دروس تجربة الانتفاضة، وهو قضية الجيش والسلطة. ملأ اعلام الاسلامويين الأرض صراخا عن الجيش، ووضعه فوق كل مؤسسات البلاد. وكان ذلك، كما سنري، عمل منظم للاستيلاء على السلطة من فوق دبابة الجيش. وتنطبق عليهم قصة حصان طرادة الشهيرة، حيث استخدم للخداع، ودخول المدينة المحاصرة، التي صعبت عليهم. فما اشبه ذلك بجهود الاسلامويين، التي عرفوا، من خلال الممارسة، والتحالفات، استحالة وصولهم للسلطة، فوجدوا ان أقرب السبل هو الجيش، حصان طروادة، العصر الحديث.
الخط السياسي للاسلامويين يهاجم ويهدد كل من ينقد ممارسات الجيش، ويدعو لتكوين جيش مهني، ليكون مؤسسة قومية بحق، وانهاء كافة مظاهر التسليح ووجود المليشيات. هذا الموقف لم يكن هو الموقف التاريخي للاسلامويين قبل، سيطرتهم على الجيش. فلنقرأ صفحات التاريخ.
شارك الرشيد الطاهر بكر، امين تنظيمهم، في الانقلاب على سلطة الجيش في عام 1959. كما ان تنظيمهم في جامعة الخرطوم شارك الجبهة الديمقراطية مقاعد الاتحاد. وخاض ذلك الاتحاد معارك مشهودة ضد سلطة الجيش. كما ان الترابي، في ندوة الجامعة الشهيرة، قبل أكتوبر، هاجم الحكم العسكري.
عندما صعد القوميون العرب وجناح من الحزب الشيوعي للسلطة، عبر انقلاب مايو 1969، صعد الاسلامويين من هجومهم على سلطة الجيش، وسافر محمد صالح عمر الي الجزيرة أبا، ليقنع الامام الهادي، بقيادة حملة عسكرية ضد نظام الجيش. وبتوقيت محسوب، قاد اتحاد طلاب جامعة الخرطوم، تحت سيطرة الاسلامويين، حملة شهيرة خلال شهر مارس 1970.
عندما أرسلت الجبهة الوطنية كوادرها للتدريب، في الصحراء الليبية، كان كتائب الاخوان جزءا لا يتجزأ منهم. وعندما جاء جيش الغزو في 2 يوليو 1976، لإسقاط سلطة الجيش، كانت كوادر الاسلامويين، تشارك في ذلك، ضد سلطة الجيش. بل مارسوا أبشع العنف ضد الجنود والضباط البسطاء. وكان غازي صلاح الدين يقود كتيبة اخوانية لاحتلال الكبانية، فاستغلها اعلام مايو بوجود مرتزقة ليبين مع الغزو.
تغير كل ذلك، عندما، خطط الترابي للوصول للسلطة عبر حصان طروادة السودان. فرغم ان الصادق المهدي هو من أجرى المصالحة مع نميري في عام 1977. الا ان الاسلامويين، بخبثهم المعروف، هادنوا نميري وجعلوه اماما للمسلمين في السودان. ومن خلف ظهره صارعوا يجندون الضباط عبر كورسات منظمة الدعوة الإسلامية، وسلفيات بنك فيصل، وفتح باب التجنيد لكوادرهم بجامعة الخرطوم لدخول الجيش.
أثمرت تلك الجهود في دعم المجلس العسكري الانتقالي لهم. فقد أرسل ذلك المجلس طائرة خاصة لإحضار الترابي من سجن الأبيض الى الخرطوم. كما ان وفد التفاوض للتجمع النقابي، وجد، عندما حضر للاجتماع مع لجنة المجلس العسكري، ان تلك اللجنة كانت في حالة اجتماع مع قادة الاسلامويين.
لعب المجلس العسكري، بقيادة سوار الدهب وتاج الدين، دورا كبيرا في تعطيل الانتفاضة، وفي رفض تحقيق السلام مع الحركة الشعبية، وفي اصدار قانون للانتخابات، حسب رغبات الاسلامويين. واليس من غرائب ذلك القانون ان يفوز مرشح الاسلامويين في دائرة من دوائر الخريجين في جنوب السودان، بأصوات المغتربين.
بدأت الحكومة المنتخبة عملها في عام 1986، ليمارس الاخوان مسلسل الخداع. فقادوا الحملات، المفبركة، لدعم الجيش. وصار صوتهم هو الأعلى، في الادعاء انهم حماة الجيش. فسافر على عثمان ليخاطب الجيش في جنوب السودان ويدغدغ مشاعرهم. وتبرع نواب الجبهة بعرباتهم لصالح الجيش. وقامت اخوات نسيبة بحملة قنطار ذهب لدعم الجيش. وعندما قدم الجيش مذكرته الشهيرة لإنهاء الحرب الاهلية، قادوا حملة شعواء ضده. والاغرب ان وزير الدفاع عبد الماجد حامد خليل طرح في مجلس الوزراء ضرورة الحل السلمي لمشكلة الجنوب، فهاجمه الترابي، بطريقة مزعجة، مما ادي لاستقالته.
عندما خدعوا الضباط والجنود بادعاء ان انقلابهم هو انقلاب القيادة العامة، ليستولوا على السلطة. وبعدها مارسوا أفظع الحملات العدائية ضد الضباط وفصلوا الالاف منهم. وحولوا الجيش الي ميلشيا حزبية. كما رأينا ونري حاليا.
هل بعد كل ذلك التاريخ في العداء للجيش، وفي خداع كوادره، وفي تصفية المهنيين وسطهم، يملك الاسلامويين الجرأة والإصرار على ان الجيش فوق الجميع. وان الجيش جدير بحكم البلاد، حتى بعد تجربة الثلاثين عاما المأساوية، وجريمة مذبحة القيادة العامة وقبلها مذابح الجنوب ودارفور وجبال النوبة.
اننا نعرف ان الجيش، بحكم تراتبيته، هو قيادته، التي تتحكم في كل حركاته وافعاله. وان كل ما ارتكب من جرائم هي جرائم تلك القيادة، وليست جرائم كامل مؤسسة الجيش. لذلك نطالب بإصلاح الجيش ليكون جيشا قوميا مهنيا جديرا بتلك الصفات.
siddigelzailaee@gmail.com