لطالما امتلكت الصور الفوتوغرافية القدرة على التعريف بالقضايا الكبرى، فمنذ التقاط الصورة الأولى في الربع الأول من القرن الـ19، تم تطوير الفوتوغرافيا لتصل اليوم إلى واحدة من أبرز وسائل التعبير عن الرأي والتوثيق وحتى تحقيق العدالة.

وفي واحدة من المحطات الهامة في تاريخ التصوير، تمكّن المحقق الأميركي لويس هاين من وضع حدٍ لظاهرة عمالة الأطفال التي استشرت في أوج سنوات الثورة الصناعية بالولايات المتحدة، وذلك باستخدام عدسته وقلمه فقط.

آفة عمالة الأطفال في المجتمع الأميركي

في العام 1900، كشف التعداد الفدرالي الأميركي أن هناك 1.75 مليون طفل تقل أعمارهم عن 16 عاما، تم توظيفهم في مهن مختلفة في جميع أنحاء البلاد، وتراوحت هذه الوظائف بين المزارع والمطاحن والمصانع والمناجم.

وفي العام 1904، تم تشكيل اللجنة الوطنية لعمالة الأطفال على أمل إنهاء أهوال عمالة الأطفال. وتم إرسال فرق من المحققين لجمع الأدلة على الظروف القاسية التي يعمل فيها الأطفال.

المحقق الأميركي لويس هاين أسهم في إنهاء ظاهرة عمالة الأطفال بأميركا من خلال صوره (مواقع التواصل الاجتماعي)

وعندما أرادت اللجنة غير الربحية زيادة الوعي العام بهذه القضية، استأجرت عالم الاجتماع والمصور الأميركي هاين للسفر عبر البلاد، واستخدام عدسته لتوثيق ما يتعرض له الأطفال العاملون من استغلال وسوء معاملة وأحيانا عمل بالسُخرة، والذين بلغت أعمار بعضهم 4 سنوات فقط.

إعلان العمل الاستقصائي لكشف الجرائم والتجاوزات

كان هدف هاين هو فتح أعين المجتمع الأميركي على الطبيعة الاستغلالية لتشغيل الأطفال، والمساعدة في تحفيز التغيير التشريعي لإنهاء الممارسات المسيئة بحقهم.

وقد واصل المصور عمله في الفترة من 1906 حتى 1918، موثقا آلاف الحالات من الأطفال الذين انضموا للقوة العاملة في البلاد، وواجهوا شتى أنواع الظروف القاسية التي عملوا فيها بأدنى معدلات للأجور.

سافر هاين عبر البلاد، والتقط صورا لأطفال في سن ما قبل المراهقة وهم ينزلون إلى مناجم الفحم ويخاطرون بحياتهم في ظروف عمل مأساوية، كما صوّر الأطفال الحفاة في السابعة أو أقل من أعمارهم وهم يبيعون الصحف في الشوارع في البرد القارس والأمطار، ووثق أيضا معاناة الأطفال في الرابعة من العمر وهم يعملون في مزارع التبغ ويتعرضون للمواد المؤذية.

ورغم أن البلاد كانت لديها نقابات لحماية العمال في ذلك الوقت، فإن عمالة الأطفال كانت منتشرة ومقبولة على نطاق واسع. وتقدر هيئة إحصاءات العمل أنه بحلول مطلع القرن، كان ما لا يقل عن 18% من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين 10 و15 عاما يعملون.

امرأة تعمل على آلة غزل في مصنع مولاتان بمدينة نيوبيري بولاية ساوث كارولينا الأميركية في ديسمبر/كانون الأول 1908 (غيتي)

وباستخدام كاميرا "غرافليكس" ثقيلة، التقط هاين آلاف الصور التي تم إقرانها بتعليقات وقصص من مقابلاته مع الأطفال، الذين أخبروه بأعمارهم وخلفياتهم وظروف عملهم وصعوبات الحياة التي يواجهونها.

وبالفعل، جذبت صوره الاهتمام الوطني وساعدت في إقرار قوانين عمالة الأطفال. وعلى الرغم من أن التأثيرات المترتبة على الصور والمقابلات الصحفية مع الأطفال، التي تم نشرها في الصحف والمجلات، لم تكن فورية، فإن المشاهد المروعة التي التقطها بعدسته نجحت في لفت الانتباه إلى محنة الأطفال في مسار القوى العاملة آنذاك.

إعلان تشريعات الكونغرس لوقف عمالة الأطفال

بحلول العام 1910، عندما ارتفع عدد الأطفال العاملين إلى مليوني طفل في أميركا، ووسط تنامي الاعتراض والأصوات المنادية بسن التشريعات المطلوبة، حاول الكونغرس معالجة القضية عام 1916، من خلال تمرير قانون "كيتنغ-أونز" الذي وضع معايير أكثر صرامة لمتطلبات تشغيل الأطفال.

وقد نص هذا القانون على أن الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 14 عاما أو أقل لا يجوز لهم العمل في المصانع، وأن الأطفال الذين تبلغ أعمارهم 16 عاما أو أقل لا يجوز لهم العمل في المناجم، وأنه لا يجوز أن يتجاوز يوم العمل للطفل القاصر 8 ساعات، كما لا يجوز أن يبدأ القصّر وظائفهم قبل الساعة 6 صباحا أو ينتهون من العمل بعد الساعة 7 مساء.

وبالرغم من أن هذه المعايير الجديدة آنذاك كانت واعدة، فإنها لم تدم طويلا، فبعد عامين فقط اعتبرت المحكمة العليا القانون غير دستوري.

وقد تواصلت الأزمة بأشكال مختلفة عبر الولايات، ولم تبدأ الآراء السياسية بشأن عمالة الأطفال في التغيير إلا بعد فترة الكساد الكبير. وهنا ساعد عمل هاين واللجنة الوطنية لعمالة الأطفال في الدفع بإصلاحات قانونية شتى، منها "قانون الانتعاش الصناعي الوطني" و"قانون معايير العمل العادلة" لعام 1938.

صورة التقطها هاين سنة 1911 في أحد مصانع ولاية ميسيسيبي تظهر مجموعة من الأطفال العاملين بعضهم بالكاد بلغ سن العاشرة (غيتي)

وقد أدت هذه القوانين تدريجيا إلى تقليل عدد الأطفال في قوة العمل، ولأول مرة حددت معايير الحد الأدنى للأجور والحد الأقصى لساعات العمل على المستوى الوطني، علاوة على تحديد العمر الأدنى المسموح به في الوظائف.

تأثير خالد في حماية حقوق الأطفال

أعادت صور هاين المروعة للأطفال العاملين صياغة التصور العام لعمالة الأطفال، وألهمت القوانين التي حظرتها في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الغربية.

واليوم، تحتفظ مكتبة الكونغرس بمجموعة تضم أكثر من 5 آلاف صورة فوتوغرافية التقطها، بما في ذلك الآلاف التي التقطها للجنة الوطنية لعمالة الأطفال، والمعروفة باسم (NCLC).

وبحسب جيفري نيومان، الرئيس السابق للجنة التي تتخذ من نيويورك مقرا لها "كان هاين هو الذي تأكد من أن ملايين الأطفال الأميركيين لا يعملون اليوم".

وبالرغم من هدفها الواضح، لم تكن مهمة هذه الصور المؤثرة تتلخص في إظهار أن الأطفال يتم استغلالهم لتحقيق مكاسب مالية، فقد كانت هذه حقيقة معروفة بالفعل.

إعلان

ففي ذلك الوقت، اعتقد الكثيرون أن هذه الممارسة لها فوائد كبيرة، باعتبار أنه يمكن للشباب أن يتعلموا قيمة العمل الشاق في سن مبكرة. كما رأوا أنه يمكن للشركات زيادة إنتاجيتها وخفض الأجر بالساعة، ويمكن للآباء الاعتماد على أطفالهم لدعم الأسرة، مما يعني أن البالغين يمكنهم العمل بنسبة أقل.

لكن في الواقع، أظهرت صور هاين الثمن في مقابل هذه "الإيجابيات المفترضة"، وهي ظروف عمل غير آمنة وتعرُّض أطفال صغار لآلات ومواد خطرة، وواجهوا أصحاب الأعمال الذين رفضوا تعليم الأطفال أو الحد من ساعات عملهم.

ورغم أن هناك تحقيقات جرت في الماضي حاولت الكشف عن هذه الظروف، فإن "الصناعة رفضت ببساطة تلك التقارير باعتبارها "أخبارا كاذبة".

لكن كما يقول هيو هندمان، المؤرخ في مجال عمالة الأطفال "عندما أتى هاين وأكمل التحقيقات بالصور الدامغة لمعاناة الصغار، فقد خلق مجموعة من الحقائق التي لا يمكن إنكارها أبدا".

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات عمالة الأطفال فی لعمالة الأطفال الأطفال الذین لا یجوز

إقرأ أيضاً:

حرارة الصيف .. تطرق أبوابنا من جديد!

ها هو الصيف، الزائر الثقيل، يعود مجددًا ليطرق أبواب أيامنا دون استئذان، فبالكاد ودّعنا أجواء عيد الفطر المبارك حتى بدأت حرارة الأجواء تفرض نفسها بقوة، تذكّرنا -وإن قسرًا- بأننا على أعتاب فصلٍ طالما ارتبط في الذاكرة باللهيب والوهج.

كأننا قد نسينا طقوسه المؤرقة في زحمة الحياة اليومية، أو تناسينا الحديث عنه في المجالس وأروقة العمل، حتى باغتنا بحضوره اللاهب، ليقلب الموازين ويجبرنا على التكيف مع واقعه من جديد. ومع كل صعود تدريجي في درجات الحرارة، نُدرك ألا مفر من التعامل مع متطلباته التي تتكرر كل عام، لكن حدتها لا تقلّ.

فمن صيانة أجهزة التبريد المنزلية، إلى التفكير الجدي في تحديث وسائل النقل الخاصة لتناسب الظروف المناخية القاسية، يصبح التأقلم ضرورة لا خيارًا. ولعلّ هذه العودة المتكررة لفصل الصيف تُذكّرنا دائمًا بأن الاستعداد المسبق ليس رفاهية، بل حاجة تُحتّمها طبيعة هذا الفصل الذي يفرض نفسه بقسوة، ولا يزاحمها ندٌّ في سطوتها، ولا ينافسها خصم في وهجها المستعر.خاصة في منطقتنا الخليجية.

في منطقة الخليج العربي، لا تُعدّ أيام الصيف مجرد فصل عابر، بل هو واقع طويل المدى تفرضه الطبيعة كل عام، تزداد قسوته عامًا بعد آخر. ورغم تباين درجات الحرارة بين دولة وأخرى، إلا أن الإجماع لا يختلف على حقيقة واحدة: «الصيف في الخليج لا يُحتمل». وفي الوقت الذي يتصبب فيه الخليج تحت وطأة الحرارة اللاهبة، تشهد العديد من الدول الأوروبية والآسيوية تحولات مناخية غير مألوفة، إذ بات الارتفاع في درجات الحرارة ظاهرة عالمية مقلقة، تتجاوز حدود الجغرافيا والمواسم، ويقف خلفها المتهم الأبرز في هذا المشهد المتغير: التغير المناخي، الذي لم يعد مجرد مصطلح بيئي، بل هو واقع تتجلى تبعاته بأرقام مرعبة ومسارات غير مسبوقة في مناخ الأرض».

إذن مشكلة الحرارة أصبحت مع الوقت تأخذ مكانتها العالمية، بمعنى أنه لا تختص بهذه الزيادة في الحرارة قارة دون أخرى، ولذا تغيرت معيشة الناس وفرضت الظروف عليهم أعباء جديدة، وزادت متطلبات التأقلم مع الأوضاع المناخية على العائلات، وباتت أجهزة التبريد هي المطلب الأول الذي يجب توفيره من أجل مواكبة الطفرة الهائلة في معدلات الحرارة، وعدم قدرة الناس على تحمل العمل في الأجواء الحارة.

هناك دول عدة في العالم كانت تعرف أن درجات حرارة أجوائها مستقرة طول فترات العام، ألا أن الوضع تغير خلال السنوات القليلة الماضية وأصبحت هي الأخرى تعاني من موجات الحر والطقس المتقلب، وهذا ما دفع علماء المناخ على التأكيد بأن العام الماضي كان هو «العام الأكثر سخونة على الإطلاق»، بدليل أن العالم قد شهد خلاله سلسلة من التغيرات المناخية التي فسّرها الخبراء على أنها جاءت نتيجة استمرار ظاهرة «الاحتباس الحراري» والانبعاثات الغازية في طبقات الجو العليا التي أفزعت الناس وأقلقت المجتمع الدولي.

بالطبع هناك جهود أممية ودعوات دولية بضرورة التصدي لهذه المشكلة والسعي إلى التقليل من الآثار التي تؤدي إليها، والحد من الانبعاثات المدمرة التي تؤدي بدورها إلى حدوث اختلال واضح في فصول السنة والدفع بزيادة درجات الحرارة إلى معدلات «مقلقة».

هذا التغير المناخي دفع الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو جوتيريش إلى إصدار بيان صحفي قال فيه: إن ظاهرة «الاحتباس الحراري حقيقة قاسية وصادمة. مؤكدا أنه لا يزال هناك وقت لتجنب أسوأ كارثة مناخية. لكن على القادة التحرك الآن قبل فوات الأوان».

من المفارقات العجيبة وصف الرئيس الأمريكي الحالي دونالد ترامب، الذي تولى منصبه في 20 يناير الماضي، أن «تغير المناخ هو عبارة عن خدعة، رافضًا الإجماع العلمي العالمي.. وخلال ولايته الأولى، انسحبت واشنطن من اتفاقية باريس للمناخ، وتعهد بزيادة إنتاج الوقود الأحفوري وكبح جماح مساعي الرئيس السابق جو بايدن نحو الطاقة البديلة».

أحد الباحثين في علم المناخ واسمه «ال زيك هاوسفاذر» توقع أن يكون العام الحالي من بين أكثر الأعوام حرارة على الإطلاق، لكنه على الأرجح لن يتصدر التصنيف. وأشار إلى أن درجات الحرارة في أوائل العام الماضي تلقت دفعة إضافية من ظاهرة النينيو، وهي نمط مناخي دافئ يتجه الآن نحو نظيره الأكثر برودة.

وإذا كانت أوروبا التي تعد أكثر تقدمًا في مجالات عدة أصبحت تعاني حرفيًا من هذا التغير المناخي، الأمر الذي دفعها إلى التفكير بجدية في إيجاد الحلول والالتزام بتنفيذ الإجراءات الوقائية خوفًا من تفاقم أوضاعها خلال المستقبل القريب.

أما إصرار أمريكا على تحدي العالم والاستهانة بمخاوفه فإن الحرائق التي تشتعل في أكبر مدنها مثل لوس أنجلوس وكاليفورنيا، التي خلفت خسائر بشرية ومادية بلغت مليارات الدولارات، وقد تكون هذه الحرائق نذير شؤم على السكان وخطرًا حقيقيًا يهدد أمنها الداخلي، وسلامة مواطنيها، وربما يكون القادم أسوأ بكثير من الذي شهدته هذه المدن من دمار هائل خلال الفترة الماضية.

مقالات مشابهة

  • وزير الشئون النيابية: الحساب الختامي أداة حيوية تمكن المجلس من مباشرة دوره في الرقابة
  • فلكية جدة ترصد البدر اليوم في ظاهرة فلكية
  • فلكية جدة ترصد البدر اليوم في ظاهرة فلكية مميزة
  • حماس تبث تسجيلًا مصورًا للجندي المحتجز لديها الذى يحمل الجنسية الأمريكية عيدان ألكسندر
  • اليوم العالمي لـ«الهيموفيليا».. «عبدالغفار»: ارتفاع نسبة الأطفال الذين يتلقون العلاج الوقائي لـ80%
  • محللون: الضغط الأميركي سيجبر نتنياهو على إنهاء الحرب
  • حرارة الصيف .. تطرق أبوابنا من جديد!
  • عمالة الحوز تبدي تقدماً بارزاً في معالجة ملفات ضحايا زلزال الحوز
  • وزارة العدل: مصافحة الوزير الويس أحد قضاة محكمة الإرهاب لا تحمل أي ‏دلالة على التسامح أو المصالحة مع أي من الأشخاص الذين ‏ارتكبوا انتهاكات ‏بحق الشعب السوري ‏