المخرجة غريتا غيرويغ بعثت الروح في جسد الحركات النسوية التي تجاوزها الزمن
لا أتحدث عن الفيلم الذي ملأت أخباره الدنيا، لسببين: الأول، ليس لدي ما أضيف إلى ما كُتب وقيل عن الفيلم. والسبب الثاني، أنني لم أشاهد الفيلم أصلاً.ولكن، يكفي الفيلم أنه استطاع أن يقسّم العالم، ويحرّك المياه الراكدة، ويثير جدلاً لا يعرف أحد كيف سينتهي.
الفيلم الذي طرح في الأسواق يوم 21 يوليو (تموز) الماضي، حقق حتى الآن ملياراً و212 مليوناً و583 ألف دولار في شباك التذاكر حول العالم، وعند قراءة هذا الكلام سيكون الرقم قد ارتفع، لتصبح مخرجة الفيلم غريتا غيرويغ أول امرأة مخرجة تكسر حاجز المليار دولار. والفيلم مرشح ليكون واحداً من بين أعلى الأفلام تحقيقاً للإيرادات على مستوى العالم.
ما أتحدث عنه هنا هو "الدمية باربي" التي استطاعت أن تهزم الحركات النسوية في فترة الستينيات منفردة.
لا أريد أن أحسب من البداية على الرجال المعادين للحركات النسوية، لأنني فعلياً لست ضدها. أنا مع المنادين باحترام المرأة ومساواتها في الحقوق والواجبات مع الرجل، ولكن على ألاّ يصل حدّ القول إن "المرأة هي الأصل".
في نهاية الخمسينيات لم تكن الأمريكية روث هاندلر تعمل في مجال صناعة الألعاب عندما ابتكرت الدمية الأشهر حتى يومنا هذا، وأعطتها اسم "باربي" مستلهمة في ذلك اسم ابنتها باربرا.
استطاعت روث بعد أكثر من محاولة إقناع شركة "ميتيل" بتصنيع الدمية على شكل أيقونة الجمال مارلين مونرو، وعرضتها للمرة الأولى في 9 مارس (آذار) 1959 في مهرجان الألعاب، ولكنها لم تحقق الأرباح والشهرة إلا بعد إعلانها الأول في التلفزيون مع عرض برنامج "نادي ميكي ماوس"، لتبيع الشركة في عامها الأول فقط 350 ألف نسخة من الدمية.
ومنذ البداية حرصت ميتيل على إسناد أدوار مختلفة لباربي، لتأكيد استقلاليتها وقوة شخصيتها. فالستينيات كانت قمة موجة الحركات النسوية، التي لم تتوان عن شن حرب ضد الدمية.
واجهت باربي منذ البداية اتهامات عدّة. أولها أنها تساهم في إرساء النظرة النمطية للمرأة، وأن نسب جسدها هي السبب وراء انتشار مرض فقدان الشهية العصابي بين الفتيات المراهقات.
خلال 64 عاماً خفت الجدل قليلاً. اعتاد العالم رؤية باربي في مهام مختلفة، من بينها عالمة فيزياء حاصلة على جائزة نوبل، وقاضية بالمحكمة العليا، وعروس بحر، ومرشحة لرئاسة الولايات المتحدة، ورائدة فضاء، حتى قبل أن يهبط الرواد التابعون لوكالة الفضاء الأميركية "ناسا" على سطح القمر، وقبل 13 عاماً من بدء الوكالة قبول رائدات إناث ضمن برنامجها.
وخفت الجدل أكثر عندما طرحت نماذج من الدمية ببشرة سمراء وشعر أسود وملامح آسيوية.
المخرجة غريتا غيرويغ، سواء بقصد أو دون قصد، أعادت الجدل إلى السطح، وبعثت الروح في جسد الحركات النسوية التي تجاوزها الزمن، لتعود باربي وتصبح حديث الجميع، وتثبت أن البحث عن الشباب الخالد توق لا تمثله فقط صناعة التجميل. إنه توق لازم البشرية، يمكن تعقبه في كهوف تاميرا، وعلى ضفاف الرافدين والنيل، وفي أروقة المعابد اليونانية والرومانية.
شكرا باربي..
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: التغير المناخي محاكمة ترامب أحداث السودان النيجر مانشستر سيتي الحرب الأوكرانية عام الاستدامة الملف النووي الإيراني فيلم باربي
إقرأ أيضاً:
الحركات الإسلامية وما بعد الإسلاموية.. قراءة في المفاهيم والتحولات
ظُهور ما يُعرف بــ "الحركات الإسلامية" كأسلوب حياة أو شكل للحكم والسياسة مُرتبط بتنظيم جماعي يعود لنشأة الدولة القومية في العالم الإسلامي والتحرر من الاستعمار الغربي.
يُشير هذا المصطلح إلى الفكر النظري والمُمارسة العملية لفكرة إنشاء نظام سياسي واجتماعي واقتصادي على أساس المبادئ المُستمدة من الشريعة الإسلامية. فالدين بحسب هذه الحركات "دين ودولة" وهو أيضا "أسلوب حياة" و"الدين هو الحل." لذا، فأصحاب هذه الفكرة ينظرون للدين باعتباره نظامًا كليًا وشاملاً لكل نواحي الحياة.
على سبيل المثال، عندما عرّف حسن البنا (1906 ـ 1949) الإخوان المسلمين في كتابه "مجموعة رسائل الإمام حسن البنا"، وهي أكبر الحركات الإسلامية انتشارا في العالم الإسلامي وصفها بكونها: "دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية، وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية."
هذا فهم واضح وصريح أن الدين يشمل جميع جوانب الحياة.. حسن البنا بطبيعة الحال ليس أول من دعا لتكريس وتطبيق هذا الفهم للعلاقة بين الدين والسياسة. فهناك الكثير من الإسلاميين الذين قدموا مشاريع سياسية مُشابهة على سبيل المثال، أبو الأعلى المودودي (1903 ـ 1979) قدم فهما مشابها لهذه العلاقة أيضا.
رغم تنوع بل ووجود اختلافات بين الإسلاميين مثل، الأولويات وهل تكون للدعوة أو التربية أو الوصول للنظام السياسي، وهل أسلمة المجتمع تتم من أعلى السلطة أم من القاعدة، إلا أنه يُمكن القول إن الإسلاميين في هذا الصدد يشتركون في عنصر مهم وجوهري وهو أنه لا يمكن الفصل بين السياسة والدين، فالدين والسياسة مُتشابكان بشكل لا يمكن فصلهما بتاتاً.
حاولت كل الجماعات الإسلامية تقريبا أن تُطبق هذا الفهم الشمولي للإسلام في كل نواحي الحياة، كالدعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية وإقامة الحدود، وأسلمة المُجتمع، وتأسيس نظام سياسي واقتصادي واجتماعي على أساس المبادئ الإسلامية. لكن هذه التجارب لم تنجح، مما اضطر الكثير من هذه الحركات إلى تغيير جوهري بفكرها واطروحاتها.
رغم تنوع بل ووجود اختلافات بين الإسلاميين مثل، الأولويات وهل تكون للدعوة أو التربية أو الوصول للنظام السياسي، وهل أسلمة المجتمع تتم من أعلى السلطة أم من القاعدة، إلا أنه يُمكن القول إن الإسلاميين في هذا الصدد يشتركون في عنصر مهم وجوهري وهو أنه لا يمكن الفصل بين السياسة والدين، فالدين والسياسة مُتشابكان بشكل لا يمكن فصلهما بتاتاً.بناءً على هذا، انبعثت من هذه الحركات الإسلامية نوع جديد يُسمى في الأدبيات السياسية وعلم الاجتماع حركات "ما بعد الإسلاموية." والسؤال هنا. هل كان التحول من الإسلامية إلى ما بعد الإسلاموية مرده إلى الفشل في تطبيق الإسلام على كل الأصعدة كما كان يرغب أصحاب هذا التوجه؟ أم أن ذلك التغيير الجذري في الأطروحات والفكر كان مجرد مُناورة سياسية وتغييرا في التكتيكات السياسية للوصول إلى السلطة ومن ثم العودة إلى الفكر الإسلامي.
ما بعد الإسلاموية.. حرف الدين إلى التدين
ما المقصود بمصطلح ما بعد الإسلاموية؟ وما هي سمات هذا المصطلح؟ يشير المصطلح بشكل عام لرؤية لعصر جديد وتقديم رؤية جديدة لعلاقة الدين بالسياسة والدولة، بحيث تتحول الحركات الإسلامية إلى حركات ما بعد إسلاموية. وهذا يعني نهاية عصر أو بداية مرحلة تاريخية جديدة. يمكن القول إن هذا المصطلح ظهر كامتداد لرؤية جديدة لكنها مُختلفة تماما لفهم العلاقة بين الدين والدولة.
إن مفهوم ما بعد الإسلاموية يرتبط عادة بـ "المدرسة الفرنسية" في التحليل الإسلامي ـ وبالتحديد أوليفييه روي وجيل كيبيل.
لكن يمكن القول إن "آصف بيات" هو من أوائل الباحثين الذين استخدموا مصطلح ما بعد الإسلاموية كأداة تحليلية في كتاباته. ومن أهم أعماله في هذا المجال كتابه الُمعنون بـ "جعل الإسلام ديمقراطياً: الحركات الاجتماعية والتحول ما بعد الإسلامي" والذي نُشر في عام 2007. قدم آصف بيات مُصطلح ما بعد الإسلاموية بصفته "مشروعا مُستمرا". يصف عالم الاجتماع المُصطلح باعتباره حالة ليست معادية للإسلام ولا للعلمانية. ويقوم هذا المشروع على أساس دمج التدين والحقوق، والإيمان والحريات، والإسلام والحرية.
تتجلى مرحلة ما بعد الإسلاموية بالإقرار بالُمتطلبات العلمانية، والتحرر مما يسمى بالجمود الديني، وبالتالي الدعوة لكسر احتكار الحقيقة الدينية. أيضا، مشروع ما بعد الاسلاموية يؤكد على المرونة في فهم النصوص الدينية ويركز على المستقبل بدلا من الماضي.
يمكن القول إن مشروع ما بعد الإسلاموية قلب الأمور رأسا على عقب وذلك بسبب التأكيد على الحقوق بدلاً من الواجبات والمسؤوليات. بعبارة أخرى، تُقدم الأديان بشكل عام والإسلام بشكل خاص الواجبات على الحقوق. فعلى سبيل المثال، على الفرد أن يحترم الآخرين وألا يقوم بالاعتداء اللفظي أو الجسدي عليهم وبناءاً على هذا الالتزام بهذا الواجب يكون من حق الفرد أن يشارك رأيه مع الآخرين في إطار الآداب في المعاملات. أي أنه عندما يقوم الفرد بواجباته يحصل على الحقوق كنتيجة لذلك.
حيث كانت الحركات الإسلامية تدمج بين الدين والواجبات والمسؤوليات، فإن ما بعد الإسلاموية تركز على التدين والحقوق. بعكس الإسلامية لا تحاول حركات ما بعد الإسلاموية تطبيق الشريعة الاسلامية أو إقامة الحدود، ولا تسعى إلى أسلمة المُجتمع كما هو حال الاسلامية ولا تقوم ما بعد الاسلاموية ببناء مؤسسات ذات طابع إسلامي. إن ما بعد الاسلاموية تقوم بشكل مباشر أو غير مباشر بفصل الدين عن الدولة.
أسباب التحول من الإسلامية إلى ما بعد الإسلاموية
يمكن القول إن كل الحركات الإسلامية فشلت وبشكل واضح وبكل البلاد تقريبا. الحديث أن أسباب فشل الحركات الإسلامية مُتشعب ويحتاج الكثير من المُراجعات، ولعل من أسباب هذا الفشل: أن الحركات الإسلامية حصرت نفسها وفكرها بنظام الدولة القومية، ومعلوم أن نظام الدولة القومية تطور كنتيجة لحرب دينية مسيحية ضروس في أوروبا، راح ضحيتها أكثر من عشرة ملايين قتيل.
ومعلوم أن الدولة القومية كبُنية سياسية واجتماعية واقتصادية لم تكن مُحايدة ولا موضوعية ولا عالمية. بل هي خاصة بتجربة مُعينة في سياق تاريخي وجغرافي وثقافي وديني، بل ومذهبي محدد. مُفكري وقادة الفكر الإسلامي لم يتجاوزوا الفهم الدقيق لهذه الإشكالية. بل وناقشوا الدولة القومية الحديثة كأمر مُسلّم به. ولم يحاولوا تجاوز القطرية. كتاب هبة رءوف عزت والمعنون بـ "الخيال السياسي للإسلاميّين: ما قبل الدولة وما بعدها" والذي نُشر في عام 2015 هو دراسة نقدية لفهم الإخوان المسلمين في مصر لمفهوم الدولة الحديثة على سبيل المثال لا الحصر.
لقد أصبحت الحركات الإسلامية ذات توجه قومي، بل وقطري في كل مكان تقريبًا، وقد تخلت في أغلب الأحيان عن خطاب التضامن الإسلامي الشامل والهوية القائمة على مفهوم الأمة. أي أن نظام الدولة القومية الأوروبي الحديث أصبح مُسلّما به لهذه الحركات.لقد أصبحت الحركات الإسلامية ذات توجه قومي، بل وقطري في كل مكان تقريبًا، وقد تخلت في أغلب الأحيان عن خطاب التضامن الإسلامي الشامل والهوية القائمة على مفهوم الأمة. أي أن نظام الدولة القومية الأوروبي الحديث أصبح مُسلّما به لهذه الحركات.
لعل هذه الإشكالية أيضا ما حفزت المُفكر الفلسطيني وائل الحلاق لكتابة كتابه الشهير "الدولة المستحيلة" ليُبين هذه المُشكلة بالتفصيل. حيث جادل حلاق بحجج متينة نظريا وعمليا أنه لا يمكن إقامة دولة إسلامية ضمن بنية الدولة القومية الحديثة وذلك لأن الإسلام بحسب حلاق رسالة أخلاقية وبنية الدولة القومية الحديثة غير أخلاقية وبالتالي لا يمكن تطبيق هذه المنظومة الإسلامية الأخلاقية داخلها.
أيضا يمكن إضافة أن الحركات الاسلامية تم قمعها، وسجن واغتيال وإعدام وإبعاد الكثير من قادتها من قبل الأنظمة الاستبدادية، والعسكرية في البلاد المُسلمة. ما جعلها لا تستطيع في كثير من الأحيان الاستمرار وتعويض قياداتها الفكرية والاستمرار في العمل السياسي والاجتماعي.
في النهاية نُشير إلى أن هناك من يقول إن الحركات الإسلامية لم تفشل وإنما طورت من خطاباتها السياسية كوسيلة للوصول إلى السلطة أو بالأحرى كمناورة سياسية لكسب الشرعية السياسية للوصول للحكم. ولكننا نقول إنه لا يوجد تجربة واحدة دخلت السياسة كحركة ما بعد إسلاموية ثم عادت وأصبحت إسلامية.
*أستاذ مساعد في قسم العلوم السياسية والعلاقات الدولية في اسطنبول صباح الدين زعيم.