الإنسان بين مرايا ذاته ومآرب غيره
تاريخ النشر: 9th, April 2025 GMT
د. بدر بن أحمد البلوشي
الله على الإنسان… هذا الكائن العجيب، الممتلئ بالتناقضات، الرقيق حينا والعنيف حين تتلبسه مصالحه.. كم يبدو جميلاً حين يتجرد من أناهُ، وكم يصبح مفزعا حين ينكفئ على ذاته ويرى العالم من ثقب رغباته.. ما أن تختلف الرؤى، حتى تبدأ معركة التأويلات، وما أن تتعارض المصالح، حتى تُستخرج السكاكين المُغلفة بالمجاملات.
الرؤية ليست قالباً جاهزا ينسكب في كل عقل، بل هي عدسة تتشكل من ذاكرة التجارب، وتراكم المعارف، وحساسية النفس تجاه الأشياء.. كل واحد فينا يرى الأمور من قمة جبل بناه بنفسه، لذلك ما يراه أحدنا شمسا، يراه الآخر سرابا.. هنا لا يكون الصدام ضرورة، لكنه غالباً ما يصبح قدرا حين يغيب احترام الاختلاف.
المصالح، تلك المفردة الملساء التي تخفي تحت جلدها شهوات ومكاسب وخسائر.. كم من مصلحة لبست رداء المبادئ، وكم من مبدأ ذُبح على محراب المصلحة.. المصالح لا تطرق الأبواب بأدب، بل تقتحم المشهد مدفوعة برغبة الهيمنة أو الخوف من الفقد.. وعندما تتصادم، تُسقط معها كل شعارات التعايش والتكامل.
في زاوية أخرى من الصورة، يتمدد الخطر الأخطر.. نرجسية الرأي.. حين يقدس الإنسان رأيه كأنه وحي منزل، ويقصي ما عداه، تنكمش المساحات المشتركة.. تغيب المرونة، ويُختزل الصواب في زاوية واحدة.. كم من فكرة قُتلت قبل أن تولد، فقط لأنَّ من حملها لم يكن يملك الصوت الأعلى.
الحوار، ذلك الغائب الأكبر عن مشاهد الاختلاف، لا يأتي إلا حين ننزع عباءة التفوق.. ليس الحوار ضعفا ولا مساومة، بل هو فن لا يتقنه سوى الأقوياء بثقتهم، الأوفياء لفكرة الإنسان قبل الموقف.. بدون الحوار، تصبح الكلمات خناجر، والمواقف جدرانا.
التاريخ لا يرحم من يعيد أخطاءه.. كم من حضارات تساقطت أوراقها لا لهجوم الأعداء، بل لخيانة الداخل، لتناحر الرؤى وتكالب المصالح.. إنها سنة كونية، أن الضعف لا يبدأ من الخارج، بل من الداخل حين تتحول العقول إلى معاول.
الإنسان يعيش بين مرآتين.. مرآة يرى فيها ذاته، وأخرى يرى فيها الجماعة.. إن بالغ في الأولى، أصبح أنانيا مهووسا.. وإن ذاب في الثانية بلا ملامح، صار تابعا بلا موقف.. التوازن بين الرؤية الفردية ومصلحة المجموع هو ذروة الحكمة.
الرؤية حين تتحول إلى سلاح، تفقد معناها.. حين تصير أداة إقصاء لا أداة بناء، تصبح الرؤية مشروعة على حساب الآخر، لا بالتشارك معه.. وكل فكرة تُطرح من على منصة مرتفعة تُقصي من تحتها، لا يمكن أن تبني مجتمعا.
الاختلاف حين يُدار بذكاء، يصبح فرصة للتطوير لا ذريعة للتمزيق.. اختلاف الزوايا هو ما يصنع الصورة الكاملة.. أما إذا تحول الاختلاف إلى ساحة حرب، وخضع لإملاءات المصالح الضيقة، فحتى أعظم العقول تغدو وقودا لصراع لا عقل فيه.
ويبقى السؤال، وهو بيت القصيد.. متى يدرك الإنسان أن الحقيقة لا تختبئ في جيب أحد، وأن المصلحة الآنية لا تبرر خنق الحوار؟ متى يعترف بأن الحق ليس نسخة واحدة، وأن الخلاف لا يعني العداء، وأننا جميعا عابرون فوق مسرح الحياة، فما نتركه من أثر هو ما يبقى، لا ما ننتزعه من مكسب؟
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
حين لا يصبح العمل محتملا.. كيف تحصل على إجازة طويلة؟
الإرهاق الوظيفي لا يُصنف كحالة طبية. لكن منظمة الصحة العالمية، تصفه بأنه متلازمة "تنجم عن الضغط المزمن في بيئة العمل، والذي لم يتم التعامل معه بنجاح"، ويتميز هذا الإرهاق بنفاد الطاقة أو الشعور بالإجهاد، وازدياد الشعور بالانفصال النفسي عن العمل، وانخفاض الكفاءة المهنية.
تقول مدربة تطوير الذات ناتالي كراهي، العضو في رابطة علماء النفس الألمان "بي دي بي" (BDP)، "كثيرا ما أتعامل مع أشخاص يشعرون بأنهم مرهقون للغاية، أو لا يريدون الوصول إلى هذه المرحلة"، مضيفة أنها تقدم لهم الإرشاد في كيفية إدارة التوتر والوقاية من الإرهاق.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2التشخيص عبر الإنترنت.. هل يُغنيك تيك توك عن زيارة الطبيب النفسي؟list 2 of 2في انتظار تقدير لا يأتي.. "متلازمة تيارا" التي تصيب النساء في العملend of listطريقة التعامل المثلى مع هذا الوضع تختلف حسب كل شخص وظروفه. ومن الخيارات المتاحة أخذ استراحة مؤقتة من العمل "لإعادة شحن البطاريات"، أو حتى التفكير في تغيير المسار المهني بالكامل. من الأفضل التحرك في الوقت المناسب، وعدم الانتظار حتى تنهار تماما.
من هذه الخيارات: أخذ إجازة طويلة الأجل، يطلق عليها اسم "ساباتيكال" (Sabbatical) والتي قد تتجاوز أحيانا الشهور أو عاما كاملا، وذلك عادة من خلال تجميع الإجازات أو توفير المال مسبقا، ثم العودة لاحقا إلى وظيفتك.
من الصيغ الأخرى لهذا النوع من الإجازات: تراكم الساعات الإضافية غير المدفوعة على مدى سنوات، ثم استخدامها كإجازة، مثل ربع أو نصف سنة. أو العمل لفترة معينة بأجر مخفّض، مقابل الحصول لاحقا على إجازة مدفوعة جزئيا.
وتعطي مدربة الإجازات الطويلة أندريا أودر مثالًا: "تتقاضى 83% من راتبك على مدى ثلاث سنوات، تعمل خلالها بدوام كامل لمدة عامين ونصف، ثم تحصل على ستة أشهر إجازة".
إعلانوفي أحيان كثيرة، يكون الحل أبسط من ذلك، تقول أودر "كثير من الأشخاص الذين يغادرون مكتبي يكتشفون أن لديهم ساعات عمل إضافية غير مدفوعة يمكنهم الاستفادة منها، ودمجها مع إجازتهم السنوية للحصول على عدة أشهر راحة".
وإذا استطعت تنسيق هذه الإجازة الممتدة في فترة هدوء نسبي في نشاط الشركة، فقد يكون من الأسهل إقناع صاحب العمل بالموافقة.
مهما كانت صيغة استراحتك من العمل، عليك أن تستغلها لاستعادة طاقتك المفقودة. كيفية القيام بذلك أمر شخصي، ولا ينبغي أن تكون الرحلة ضخمة مثل رحلة بحرية حول العالم.
تقول كراهي "ربما يكون اليوغا أو التأمل مفيدين لك. أو ربما ترغب في المشاركة في مشروع اجتماعي مجتمعي لتغيير روتين العمل المكتبي".
وأحيانًا قد تكفي بضعة أسابيع لإعادة شحن طاقتك والعودة إلى العمل بحيوية. لكن قد تصل إلى قناعة بأن وظيفتك لم تعد تناسبك.
وبحسب ظروف سوق العمل، قد يكون من السهل إيجاد وظيفة جديدة. وإذا قدمت استقالتك ولم تجد عملًا بسرعة، فستجد نفسك تلقائيًا أمام فترة راحة إجبارية من التوتر الوظيفي، والتي قد تتيح لك بحسب قوانين بلدك الحصول على إعانات بطالة أو دعم الباحثين عن عمل.
وتشير سوزانه إيكماير، المتحدثة باسم وكالة التوظيف الفدرالية الألمانية: سواء كنت بحاجة فقط إلى استراحة أو قررت ترك وظيفتك بالكامل، فإن استحقاقك للمزايا، وقيمتها، ومدتها، قد تتطلب شهادة طبية تثبت عدم قدرتك على العمل في وظيفتك الحالية، أو مع صاحب العمل الحالي، لأسباب صحية مثل الإرهاق النفسي.