ولأن الأحلام السيئة لا تموت، تحوّلت نبوءة الأب إلى فكرة ملحّة في ذهن الجنرال.
وهكذا خطرت الفكرة في رأسه… لا كقرار استراتيجي، بل كانت لحظة انخطاف رمزي، تتويجًا لوهم داخلي دفين: أن يكون لابن البرهان، أخيرًا، شيء يُذكر… ولو كان رسالة انبطاح مختومة بختم الرضا الإسرائيلي.

أرسل البرهان مبعوثه الشخصي إلى تل أبيب، لا ممثلًا لحكومة بورتسودان، بل كمقاول قلق في مزاد الشرعية الدولية، يبحث عن شهادة “حسن سير وسلوك” من الخارج ليُقنع العالم أن الجريمة قابلة للإخراج… متى ما توفّر لها راعٍ رسمي.



وبين تل أبيب وطهران، لا يبدو البرهان صاحب وجهة، بل زبونًا دائمًا في سوق الاصطفاف؛ وولاءً مشفوعًا بخيبة من إيران. ليس في هذه الرحلة ما يشي بالكرامة، بل كل ما فيها يشبه مشهدًا من كوميديا سوداء، جنرال هائم في متاهة، لا يعرف هل هو أمير حرب أم وسيط سلام، فيمد يده إلى الجميع وهو يخطو فوق جماجم الجميع.

ولأن مصير بعض الأحلام أن تُترجم على يد أبنائها إلى كوابيس قومية، قرر البرهان أن يصنع لهذا “الشأن” هيئة، ولو كانت على شكل ملف تطبيع.
لم يكن ذلك وفاءً لحنين عائلي، بل لأن الجنرال، في أعماقه، أراد أن يثبت لنفسه أن “الشيء العظيم” الذي تنبّأ به أبوه يمكن أن يكون شيئًا – أي شيء – حتى لو كان توقيعًا ذليلاً في دهليز دبلوماسي.

الخطوة التي خطاها الجنرال تعبّر عن ارتباك وقلق، لا عن رؤية. إذ يتأرجح البرهان بين طهران وتل أبيب، كما يتأرجح الغريق بين يدين لا تنويان إنقاذه.
لا مبدأ، لا بوصلة، لا اتساق… فقط غريزة باهتة للبقاء، أيًّا كانت التكلفة، وأيًّا كان ما يُقتطع من شرايين هذا الشعب المنهك.

سلطة الأمر الواقع الحاكمة اليوم لا تملك مشروعًا، ولا حتى خطابًا يمكن تمثيله. بل فقط سلسلة من التحركات الاستعراضية المصابة بـ”هوس القبول الخارجي”، كأنها تخوض امتحانًا شاقًا للحصول على تأشيرة للبقاء في سلطة لا يعترف بها أحد.

وهكذا يُبعث الفريق الصادق إسماعيل، لا كمبعوث سياسي، بل كخادم دبلوماسي في مطبخ بلا طهاة أو زبائن.
يحمل في جيبه قائمة طعام منتهية الصلاحية تُسمّى “موقف السودان الرسمي”، ويقدّمها بإيماءة موظف في شركة علاقات عامة.

يحمل بيانًا عن “رغبة السودان في استكمال اتفاقيات أبراهام”، ويعرض على الإسرائيليين انبطاحًا على الطريقة ما بعد السيادية: حين تصير الدولة ملحقًا دعائيًا، والجنرال ظلًا يحبو على ركبتيه ليحقق نبوءة أبيه… أيًّا كانت فداحة الثمن.

ولأنه لا شيء يُثير الشفقة مثل العجز حين يتزيّن بالبذلة العسكرية، فإن هذا الجنرال الذي يتسكع الآن بين العواصم، هو نسخة مشوهة من جنرال ماركيز، ذاك الذي ضاع في متاهة مجده.
أما جنرالنا، فغارق في متاهة نكرانه. لا يتيه في الحنين، بل في الخواء.
لا يحمل خريطة لأمجاد ضائعة، بل دفتر ديون معلّقة في كل سفارة.
يسأل العالم: من يشتري هذا البؤس السياسي؟ من يمنحنا ختم البقاء ولو على ورق مهترئ؟

الجنرال هنا لا يسير في ممرات التاريخ، بل في دهاليز المذلة.
يتوكأ على ماضٍ لم يكن له، ويقدّم وطنًا على طبق من الندم، مقابل أن يقول له أحد: “أنت لا تزال قابلاً للاستعمال.”

من يقرأ هذا المشهد لا يحتاج إلى الخيال، بل إلى قليل من غثيان.
لأن ما نراه ليس تسوية، بل قاعًا سياسيًا بلغ من الرداءة أن صاحبه لم يعد يفرّق بين الاعتراف والارتماء، بين التحالف والذل، بين أن تكون في موقع القرار، أو أن تكون في موقع التسوّل باسم وطنٍ لم تُجِد إلا خيانته.

قال أنطونيو غرامشي ذات مرة: “كل أزمة عظيمة تفرز مخلوقات غريبة.”
والبرهان، دون أدنى شك، هو الكائن الأكثر فرطًا في الغرابة بين تلك المخلوقات.
ليس لأنه دكتاتور كلاسيكي، بل لأنه بلا شكل، بلا مضمون، بلا أعداء حقيقيين ولا أصدقاء.
فقط يبحث عن أي سطح يعكس له وجهًا لا يعترف به أحد.

رجل يخطو بين العواصم مثل ظلٍ مرتجف، يحمل الخواء كمن يحمل صليبه، لكنه لا يُصلب من أجل فكرة، بل من أجل مقعد.

لقد أصبحت السلطة في السودان لا تملك بوصلة، بل خريطة مرسومة على ورق مبلول.
تتأرجح بين طهران وتل أبيب، بين المرتزقة والجنرالات، بين أعداء الأمس وأوهام الغد.
إنها لا تتقدّم، بل ترتجف.
سلطة فقدت لغتها، فصارت تتحدث بإيماءات شخصٍ يحدّق في مرآة متكسرة، فيرى نفسه في كل شظية مخلوقًا جديدًا، ثم يقنع نفسه أن هذا التمزق مكافأة تأويلية، لا عرضٌ جانبي للانهيار.

يا للمهزلة. يا للمفارقة حين تتحوّل الدولة من مشروع إلى نثار سيادي يتنقّل كالغبار بين العواصم، بحثًا عن تصريح إقامة مؤقت في ضمير العالم.

البرهان لا يفاوض من موقع الدولة، بل من موقع العزلة.
إنه رجل يمدّ يده لا ليصافح، بل ليستجدي أن يكون له مكان في صورة جماعية، حتى لو كان على أطرافها: نصف ظلّ، نصف اسم، ربع تاريخ.

هل يظن أن التطبيع ممحاة أخلاقية للمذابح؟
هل يدرك أن قصف المدنيين لا يُنسى لأنك ابتسمت في وجه سفير؟
هل يظن أن توقيع اتفاق سلام مع قوة استعمارية سيُعيد إليه ما فقده من احترام في عيون أهل الضحايا؟

ربما لا يعلم. وربما يعلم، لكنه لا يكترث.
فالفرد الذي قرر أن تكون السلطة هي الله، لن يتورّع عن تحويل كل الشعب إلى قربان على مذبح بقائه.

وعندما تُسائل الزمن: لماذا الآن؟
لا يردّ عليك أحد، بل تشعر بأن الزمن نفسه قد فقد إحساسه بالاتجاه.
وأن السلطة، في جوهرها، ليست مؤسسة للقرار، بل معدةٌ خاوية تلتهم كل ما يُطيل عمرها، دون أن تهضم شيئًا.

إنها جوعٌ متحوّل، يتنكر تارة بهيئة الدولة، وتارة بهيئة الدعاء.
لكنها، في حقيقتها، تجسيد للجوع حين يُصبح كائنًا سياسيًا.

وهكذا يذهب البرهان برسوله إلى تل أبيب، لا بصفته قائداً للجيش، او رئيسا للمجلس السيادي كما يحلو له، بل بصفته طالبًا عند بوابة الجلاد.
يعرض عليه خرائط وطن مبللة بالدم، مقابل لافتة تقول:
“تم اجتياز امتحان العبودية بنجاح… نوصي باعتماده كرمز حيّ للفشل القابل للتوظيف.”

لكنه، ويا للمفارقة، نسي شيئًا صغيرًا:
أن الشهداء لا يصافحون السفارات،
وأن الخلاص لا يأتي عبر البريد الدبلوماسي،
وأن التاريخ، حين يُكتب، لا يستعمل محاضر الزيارات…
بل أسماء الضحايا.

وفي الخلفية، بينما يغادر الصادق إسماعيل مطار بن غوريون،
كان صدى محجوب شريف يتسلل من حنجرة غاضبة:

“سلم مفاتيحو… وافتحو الشباك
خلو الضو يدخل… نسمع العصافير”

لكن النوافذ ظلّت موصدة، لأن العفن تمدد حتى مفاصل الأبواب.

zoolsaay@yahoo.com  

المصدر: سودانايل

إقرأ أيضاً:

النظام المالي الأميركي على حافة الانهيار.. يوم عصيب في وول ستريت يكشف هشاشة السوق

واجهت الأسواق المالية الأميركية في التاسع من أبريل/نيسان واحدة من أكثر لحظات التوتر منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008. فقد تهاوت أسعار الأسهم على مدار أسابيع، لكن المفاجأة الكبرى جاءت حين بدأت سوق السندات الأميركية، التي تُعد الأداة الاستثمارية الأكثر أمانا في العالم، في الاهتزاز العنيف.

وارتفع العائد على سندات الخزانة الأميركية لأجل 10 سنوات إلى 4.5%، بعدما كان 3.9% فقط قبل أيام، مما يعني أن أسعار السندات نفسها انهارت بشكل حاد. هذا التزامن بين انهيار الأصول المحفوفة بالمخاطر وتلك الآمنة هدد بإحداث زعزعة شاملة للنظام المالي بأكمله.

لكن مع نهاية اليوم، ألقى الرئيس الأميركي دونالد ترامب بيانا مفاجئا قلب المعادلة مؤقتا: فقد أعلن عن تأجيل تنفيذ عدد من الرسوم الجمركية التي كانت السبب المباشر في إثارة الذعر في الأسواق، لمدة 90 يوما. والنتيجة كانت صعودا قويا في أسواق الأسهم، حيث أغلق مؤشر ستاندرد آند بورز 500 مرتفعا بنسبة 10%، وهو أعلى مكسب يومي منذ عام 2008. ومع أن عوائد السندات بقيت مرتفعة، فإن التوترات في بقية الأسواق هدأت قليلا، مما خفف من خطر العدوى المالية.

اضطرابات عميقة وتكرار لأزمات سابقة

ما حدث لم يكن مجرد موجة بيع عابرة بحسب تقرير للإيكونوميست، بل كان تجسيدا لهشاشة متزايدة في البنية التحتية للأسواق الأميركية.

إعلان

وأشارت مجلة إيكونوميست إلى أن مؤشرات التقلب ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة، إذ دفع القلق المستثمرين ومديري المخاطر في البنوك وصناديق التحوط إلى تقليص مراكزهم المالية بشكل جماعي. وهذه التحركات الجماعية قد تسبّب ما يُعرف بـ"موجة بيع قسرية" تزيد من انهيار الأسعار، كما حدث لفترة وجيزة في أسعار الذهب حين اندفع الجميع نحو السيولة.

مؤشرات التقلب ارتفعت إلى مستويات غير مسبوقة (الفرنسية)

الأمر الأكثر إثارة للقلق كان تشابه ما حدث مع أزمة 2020 في بدايات جائحة كورونا (كوفيد-19)، حين شهد سوق السندات الأميركي نقصا حادا في السيولة، مما جعل الفرق بين أسعار الشراء والبيع يتسع بشكل كبير، وأصبحت السوق عاجزة عن امتصاص الطلبات الكبيرة. في ذلك الحين، تدخل الاحتياطي الفدرالي بقوة عبر شراء كميات ضخمة من السندات لإعادة الاستقرار، وهي سابقة أصبحت مرجعية في مثل هذه الأوقات.

وأكدت مؤشرات أخرى حجم الأزمة، منها اتساع "فروق المبادلة"، أي الفرق بين عوائد سندات الخزانة ومعدلات الفائدة المتوقعة. هذه الفروق بلغت 0.6 نقطة مئوية، وهو مستوى قياسي يدل على عزوف المستثمرين عن شراء السندات وسط انعدام اليقين، بحسب مارتن ويتون، محلل الأسواق في بنك ويستباك الأسترالي.

حلقة مفرغة.. من المطالبات إلى الانهيار

وأدت هذه الضغوط إلى موجة "مطالبات هامش" ضخمة من البنوك على عملائها من صناديق التحوط، وهي المبالغ التي يجب دفعها لتغطية خسائر المراكز المالية المفتوحة. ومع تراجع أسعار السندات والذهب، اضطرت هذه الصناديق إلى بيع كميات إضافية من الأصول لتوفير السيولة، مما تسبب في تسارع وتيرة الهبوط. هذا السيناريو يُعرف بحلقة الهلاك، التي تتكرر حين تدفع الخسائر إلى مزيد من المبيعات، والمبيعات تؤدي إلى مزيد من الخسائر.

وتضيف إيكونوميست أن هذا ما حدث بالضبط في بريطانيا عام 2022، عندما اضطرت صناديق التقاعد إلى بيع كميات ضخمة من السندات الحكومية البريطانية لتلبية مطالبات الهامش، مما أدى إلى ارتفاع حاد في العوائد واضطر بنك إنجلترا للتدخل.

إعلان

أحد أبرز العوامل التي زادت من تعقيد الوضع هو اعتماد عدد كبير من صناديق التحوط على ما يُعرف بـ"تجارة الفجوة"، وهي آلية تقوم على استغلال الفروق السعرية بين سندات الخزانة والعقود الآجلة الخاصة بها. وتُعد هذه التجارة مربحة في الأوقات المستقرة، لكنها خطيرة للغاية عند حدوث تحركات غير متوقعة في السوق، خصوصا أن حجم التعرض المكشوف في هذه الصفقات بلغ نحو تريليون دولار، بحسب التقرير.

ووصف أحد مديري صناديق التحوط هذه الآلية بقوله: "إنها تشبه التقاط العملات من أمام آلة بخارية.. الأرباح صغيرة، والخسائر قد تكون مدمرة إذا سارت الأمور عكس التوقعات".

تدخل الفدرالي ومأزقه السياسي

وإن تفاقمت الأوضاع مجددا، فإن الاحتياطي الفدرالي سيكون مضطرا للتدخل مجددا، كما فعل في 2020. لكن هذه المرة، ستواجه المؤسسة معضلة سياسية معقدة: هل تتدخل لحماية الاستقرار المالي؟ أم أنها بذلك تحاول إخفاء ضعف الثقة في الديون الأميركية؟

رغم أن ترامب أعلن تأجيل الرسوم الجمركية، فإن التوتر التجاري مع الصين ما زال في أعلى مستوياته (رويترز)

فقد بدأت الأسواق تسعّر ديون الحكومة الأميركية على أنها أكثر مخاطرة، في ظل ما وصفته إيكونوميست بـ"انهيار الثقة في صانعي السياسة الاقتصادية الأميركيين"، نتيجة توجهات ترامب التي قلبت النظام التجاري العالمي رأسا على عقب.

ورغم أن ترامب أعلن تأجيل الرسوم الجمركية، فإن التوتر التجاري مع الصين ما زال في أعلى مستوياته، وهو ما يقود المستثمرين إلى الخشية من ارتفاع التضخم وتباطؤ النمو، أي السيناريو الأسوأ المعروف بـ"الركود التضخمي"، والذي يحدّ من قدرة الفدرالي على خفض الفائدة.

الثقة مفقودة.. والمخاطر مستمرة

واختتمت إيكونوميست تقريرها بتحذير واضح من التراخي في مواجهة هذا الوضع، معتبرة أن "التهديد الأكبر لا يزال سياسيا". وبينما تأجّلت بعض القيود الجمركية، فإن الحواجز الفعلية بين أميركا وشركائها التجاريين، وخاصة الصين، لا تزال قائمة بل تتصاعد.

إعلان

وتضيف المجلة: "سيكون من السذاجة الاعتقاد بأن الصدمة قد انتهت، أو أن ثقة المستثمرين الأجانب في الأصول الأميركية يمكن استعادتها ببساطة.. السؤال الحقيقي الآن هو: كم من الصدمات يمكن لهذا النظام المالي تحمّله قبل أن ينهار بالكامل؟".

مقالات مشابهة

  • النظام المالي الأميركي على حافة الانهيار.. يوم عصيب في وول ستريت يكشف هشاشة السوق
  • الجنرال بترايوس رئيساً لمجلس إدارة "كيه كيه آر الشرق الأوسط"
  • القبض على زوج متهم بقتل زوجته ودفنها وإقامة حائط خرسانى عليها بالإسماعيلية
  • “المجاهدين”الفلسطينية تشيد بقصف اليمن ليافا”تل أبيب”
  • مصدر أمني بطرطوس لـ سانا: بعد ورود معلومات عن تجمع لفلول النظام البائد في قرية بقعو قرب منطقة دريكيش، تم نصب كمين محكم في المنطقة، ومن خلاله تم إلقاء القبض على العميد المجرم “حامد علي برهوم” وهو يحمل سلاحاً، وسيتم تحويله للقضاء المختص لاستكمال
  • الأمطار تفضح هشاشة البنية التحتية بالرشيدية
  • ذي غارديان: مجزرة المسعفين برفح نفذتها وحدة بغولاني تحت قيادة هذا الجنرال
  • أخبار قنا | اعتماد تعريفة المواصلات بزيادة 15%..مصرع صغيرين أسفل حائط قديم
  • فضيحة الشاباك تكشف هشاشة نتنياهو: من يحكم إسرائيل حقا؟
  • مصرع صغيرين سقط عليهما حائط قديم في قنا