لجريدة عمان:
2025-04-14@23:07:25 GMT

عن الدين والدولة ملاحظات أوَّلية

تاريخ النشر: 8th, April 2025 GMT

العلاقة بين الدين والدولة مثيرة للاهتمام بسبب أهميتها البالغة عبر مسار التاريخ فيما يتعلق بنشأة الحضارات ونهضتها وأفولها، وربما يكون هذا أحد الدروس الكبرى التي يمكن أن نتعلمها من فيلسوف التاريخ الشهير أرنولد توينبي. ولكني أريد أن أقتصر هنا على إثارة بعض الملاحظات والتأملات حول دور العلاقة بين الدين والدولة في تحديد شكل الدولة ومكانتها ومدى تقدمها.

سيبادر هنا على الفور أصحاب التوجهات الدينية من الأصوليين والمتأسلمين على السواء إلى القول: حقًا إنها علاقة هامة وضرورية؛ فالدين هو سبب نهوض الأمم والدول التي تتقدم بسبب تمسكها بتعاليم الدين في كل مناحي الحياة والفاعليات الإنسانية، وسيرددون الشعارات التي يرفعونها دائمًا والتي تقول «الإسلام دين ودولة» و«الإسلام هو الحل»، وسيرددون دومًا كلام المولى عز وجل، من قبيل: «إنْ الحكم إلا لله». ولكننا عندما نمتحن مثل هذا الطرح للعلاقة بين الدين والدولة في ضوء وقائع التاريخ السابقة واللاحقة والراهنة، يتبين لنا على الفور عدم مصداقيتها باعتبارها توظيفًا بشكل مضلل لدور الدين ومقاصده. والحقيقة أن هذا لا يصدق فقط على ماضي الدولة الإسلامية التي كانت مترامية الأطراف، وإنما يصدق أيضًا على ماضي الدولة المسيحية في أوروبا: فمن المعروف أن العصور الوسطى في أوروبا قد شاعت تسميتها بالعصور المظلمة؛ لأن الكنيسة كانت مهيمنة على كل مناحي الحياة، بما في ذلك شؤون العلم والفلسفة والفكر عمومًا. وحتى إذا كان هناك إبداع فني فريد في هذه الحقبة يُعرف باسم «فن التصوير المسيحي»، فقد ظل الفن في معظمه محدودًا في إطار خدمة الدين. وفي مقابل ذلك، فإن الدولة الإسلامية (بمعناها الواسع) كانت متطورة في هذه الحقبة؛ بالضبط لأنها (على الأقل في فترات تألقها) قد تحررت من هذه العلاقة المريضة بين الدين والدولة، واستطاعت استلهام روح الدين التي تحث على العلم والفكر وإعمار الأرض؛ ولهذا أمكن لهذه الدولة أن تفسح المجال للعلماء والمفكرين والشعراء والمترجمين من غير العرب، بل من غير المسلمين؛ وأن تعمل على تشجيعهم بأن تجزل لهم العطاء نظير إنجازهم، استنادًا على مدى كفاءاتهم، وليس عرقهم أو دينهم. ولهذا لا غرابة في أن نجد إنتاجًا إبداعيًّا مثمرًا في تلك الحقبة في مجالات العلم والفكر والآداب والفنون (خاصةً فن العمارة).

هذه الرؤية نفسها تصلح لفهم علاقة الدين بالدولة في عالمنا الرهن، وتشهد عليها أمثلة لا حصر لها. وحينما نتأمل هذه العلاقة في عالمنا العربي المعاصر، فسرعان ما يتبين لنا أنه كانت هناك حالة من الاستقرار في هذه العلاقة التي يتعايش فيها طرفاها من دون أن تجور سلطة أحدهما على سلطة الأخرى، فلم يكن الدين يسعى إلى تجاوز سلطته الروحية بحيث يجور على السلطة الزمنية أو سلطة الدولة. وقد أدى هذا إلى نشوء مشروعات نهضوية مثمرة في كثير من بلدان العالم العربي التي عاشت عقودًا طويلة من التألق والازدهار (مثلما كان حال مصر- على سبيل المثال- خلال النصف الأول من القرن العشرين).

اقترن التدهور مع نشأة الحركات الإسلاموية والمتأسلمة، وغني عن البيان أن صفة إسلاموي Islamist تختلف عن صفة إسلامي Islamic، وهي صفة تمثل اشتقاقًا جديدًا أو دخيلًا على اللغة العربية، ولكنها أصبحت مستقرة ومتداولة الآن؛ لأن المتغيرات السياسية العالمية قد فرضت واقعًا جديدًا فرض استخدام هذه الكلمة لوصف الحركات الدينية التي تَدخل تحت عباءة الإسلام السياسي، بصرف النظر عن درجة تطرفها أو مدى استخدامها للعنف، وبصرف النظر عما بينها من خلافات واختلافات؛ ومنها على سبيل المثال: تنظيم القاعدة، وتنظيم داعش، وجماعة بوكو حرام.. إلخ. نعم، هناك اختلافات عديدة بين هذه الحركات أو الجماعات، ولكن ما يجمع بينها في إطار عام هو أنها تستخدم الدين كسلطة متماهية مع سلطة الدولة، ومن ثم كسلطة روحية وزمنية في آن واحد، وأحيانًا ما تستخدم الدين كوسيلة لاعتلاء السلطة الزمنية. وعلى هذا، فإن هذه الحركات والجماعات تتاجر بالدين حينما تريد أن تجعله (أو تتظاهر بأنها تجعله) بديلًا عن شؤون الدنيا ومهيمنًا عليها؛ وبذلك فإنها لا ينبغي أن توصَف بأنها «إسلامية»، بل بأنها «متأسلمة»: فهي لا تفقه قول رسول الإسلام (صلى الله عليه وسلم) «أنتم أعلم بشؤون دنياكم»، ولا تفهم روح الدين باعتباره قوة روحية وعلاقة بين العبد والرب، وليس أداة أو وسيلة لاعتلاء السلطة. وربما يكون من المهم في هذا الصدد أن نتذكر أن مثل هذه الجماعات الدينية هي صنيعة القوى الإمبريالية في الغرب؛ بالضبط لأنها تمثل الدين الإسلامي الذي تريد هذه القوى أن تراه في العالم الإسلامي، وبوجه خاص في العالم العربي؛ فبذلك يمكن استخدام أحد الأسلحة القوية في تفكيك دول هذا العالم وإضعافها من داخلها.

والحقيقة أنني لا أريد من خلال هذا الطرح اللجوء إلى نظرية المؤامرة بحيث نعفي الدول من المسؤولية عن أحوالها ومصائرها. كما أنني لا أريد اختزال أسباب التدهور في إطار الوضع السلبي الذي آلت إليه العلاقة بين الدين والدولة (وإلا كان هذا تبسيطًا للأمر)، ولكننا لا يمكننا إنكار أن هذا الوضع قد ساهم بقوة في حالة التدهور في كثير من البلدان. غير أن مجمل هذا الطرح له أبعاد أخرى متعددة ومثيرة للجدال، وهذا ما سوف نتناوله في مقال تال.

د. سعيد توفـيق أستاذ علم الجمال والفلسفة المعاصرة بجامعة القاهرة

المصدر: لجريدة عمان

إقرأ أيضاً:

إزالة الحواجز الإسمنتية التي وضعها النظام البائد أمام مبنى أمن الدولة في حي المحافظة بمدينة حلب وفتح الطرقات المحيطة لتسهيل حركة مرور الآليات

2025-04-13Belalسابق خدمات اجتماعية وصحية في حمص للمحررين من سجون النظام البائدالتالي وزير الاقتصاد والصناعة و بحضور المحافظ يلتقي عدداً من التجار والصناعيين في غرفة صناعة حلب انظر ايضاً وزير الاقتصاد والصناعة و بحضور المحافظ يلتقي عدداً من التجار والصناعيين في غرفة صناعة حلب

حلب-سانا التقى وزير الاقتصاد والصناعة السيد محمد نضال الشعار عدداً من التجار والصناعيين في غرفة …

آخر الأخبار 2025-04-13وزير الاقتصاد والصناعة و بحضور المحافظ يلتقي عدداً من التجار والصناعيين في غرفة صناعة حلب 2025-04-13خدمات اجتماعية وصحية في حمص للمحررين من سجون النظام البائد 2025-04-13إصابة طفلين بجروح خطرة جراء انفجار لغم في ريف إدلب الشرقي 2025-04-13اتحاد الصحفيين يبحث تطوير عمله وتحسين واقع الإعلاميين في السويداء 2025-04-13الرئيس الشرع يصل والوفد المرافق إلى الإمارات العربية المتحدة 2025-04-13مجلس مدينة درعا يواصل حملة إزالة البسطات العشوائية 2025-04-13مدير مديرية أمن دمشق: داهمت وحداتنا موقعاً تتحصن فيه مجموعة خارجة عن القانون في منطقة مساكن برزة بدمشق وتم القبض على عدد من المطلوبين 2025-04-13وزير السياحة يبحث مع القائم بأعمال السفارة الإسبانية التعاون ‏السياحي بين البلدين 2025-04-13الوزير الشعار ومحافظ حلب يطلعان على واقع مدينة الشيخ نجار الصناعية 2025-04-13جمعية أصدقاء مرضى السرطان بالسويداء تخدم 155 مريضاً خلال ثلاثة أشهر

صور من سورية منوعات أول سماعة طبية رقمية في اليابان تستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل نبضات القلب 2025-04-10 أول دراسة سريرية بالعالم… زراعة الخلايا الجذعية تحسن الوظائف الحركية لمرضى الشلل 2025-03-26فرص عمل وزارة التجارة الداخلية تنظم مسابقة لاختيار مشرفي مخابز في اللاذقية 2025-02-12 جامعة حلب تعلن عن حاجتها لمحاضرين من حملة الإجازات الجامعية بأنواعها كافة 2025-01-23
مواقع صديقة أسعار العملات رسائل سانا هيئة التحرير اتصل بنا للإعلان على موقعنا
Powered by sana | Designed by team to develop the softwarethemetf © Copyright 2025, All Rights Reserved

مقالات مشابهة

  • متحدث الحكومة: توفير التمويل للأعمال الدرامية التي تعزز القيم الأسرية والوطنية
  • أحمد موسي: كلمة أبو العينين بمجلس النواب اليوم كشفت التحديات التي تواجه الدولة
  • عراقجي يكشف الدولة التي ستستضيف جولة المفاوضات الثانية مع واشنطن
  • مركز حقوقيون الأردني يحذر من خطر قانون الأراضي والأبنية
  • رئيس النواب يطالب الحكومة بتدوين ملاحظات النائب ضياء الدين والتأكد من مدى مطابقتها للواقع
  • جبالي يطالب الحكومة بتدوين ملاحظات ضياء الدين داود على الحسابات الختامية للرد عليها
  • فخر الدين الثاني.. الأمير الذي حلم بدولة كبرى واعدم على يد العثمانيين
  • إزالة الحواجز الإسمنتية التي وضعها النظام البائد أمام مبنى أمن الدولة في حي المحافظة بمدينة حلب وفتح الطرقات المحيطة لتسهيل حركة مرور الآليات
  • في ذكرى 11 /أبريل : إبدال الكيزان وجه البشير بوجه البرهان المقنع
  • رئيس شعبة المواد البترولية : مصر من ضمن أقل 8 دول عالميا في التسعير..والدولة تدعم القطاع بمبالغ مالية كبيرة