لجريدة عمان:
2025-04-13@09:38:57 GMT

لكم سخافتكم ولنا ثقافتنا

تاريخ النشر: 8th, April 2025 GMT

سؤال أساسي يغلب فـي حالِ التقلُّب التي نحياها اليوم، وفـي لهيب التحوّلات المعرفـيّة والاقتصادية والإقليميّة، وفـي وَهج إعادة توزيع عناصر الكون، سؤال دومًا يُطرَحُ كلّما عصفت بالواقع متغيّراتٌ تهزّ ثوابته، وهو البحث عن المثقّف، أين هو المثقَّف الذي يُفتَرَضُ أنّه ضمير الأمم وبصيرتها، وأنّه المُبشِّرُ والنذير؟ هل يعيش داخل الصّراع التاريخيّ؟ أو هو يُقيم أنانيَّةً يحيا بها، ويقتاتُ من فتات النرجسيّة والتعالي على سخافة الشّعوب؟ لقد أظْهرَ التاريخُ أنّ كلَّ مُثَقَّف ينسحبُ من متغيَّرات تلحق العالم، ويدسُّ رأسه فـي التراب، ينتهي إلى الإهمال وعدم الذكر، المثقَّف هو مواقف ورؤيةٌ، ولا يُمكن أن يُعزَل عمَّا يدور حوله.

ولقد انبنت فلسفاتٌ ونقود هامَّة على بيان دور المثقّف وعلى بيان ماهيته ووظيفته وأدواره، غير أنّنا نرى فـي هذا الزَّمن الذي لا نُدرِكُ له جوْهَرًا ولا وجْهًا انحسَارًا لإيمان العامَّة والخاصّة برأي المثقَّف، نظرًا إلى تراكمٍ همَّش من أدائه، وسفَّه من آرائه، وحطَّ من منزلته. المثقَّف اليوم ليس قُدوةً، وليس ممثِّلاً لسبيل يرومه النَّاس ويقتدي به الشّبابُ والشِّيبُ. أصبح المُثَقَّف صُورةً من الفقْرِ وعدم المزامنة والخروج عن حركيَّة التّاريخ.

أصبح المعلِّم صورة عن الأمل الذي يجب تفاديه، أصبح كابوسًا، يبتعد عنه الحالمون حتّى فـي كوابيسهم. لا أعرف هل هذا جيِّدٌ أو هو داخلٌ فـي منطق التاريخ المتحوِّل، النّماذج القدوة اليوم، هي النماذج التي إن زارت عرضًا أو مَعرضًا أو مطعمًا تكدَّس عليها الخلْق، وإن قالت كلامًا شُوهِدت بالملايين، هي التجلِّي المنطقيِّ لما سمَّاه آلان دونو بنظام التفاهة، نظام التفاهة الذي لحق كلّ سبيلٍ فـي الكوْن، والعجيب الغريب أنّ أغلب النَّاس يُقرُّون بفساد هذا النّظام، ولكنّهم منخرطون فـيه سرًّا وعلانيّة.

مؤخَّرًا تساءلت صُحف عديدة عن دور الجامعيين فـي الغرب فـي ظلّ الاعتداءات الصَّارخة على الطلبة المُناصرين للقضيّة الفلسطينيّة، وأساتذَتُهم فـي صمتٍ مبينٍ، أو هم فـي ردودِ فعلٍ محتشمة، يُنادُون بعدم التعدّي على مكتسبات الحريّة والتعبير عن الرأي. لم يعد هنالك ثباتٌ فـي جحيم اختمار المتحوِّل العالمي، ولم تعد هنالكٌ قيمٌ متَّفَق عليها، وإنّما كلٌّ يدعو إلى مراعاة مصلحته، ومصلحة بلده التي يضعها فوق جثث الضعفاء.

ما يحدثُ اليوم فـي غزَّة مقرونًا بما فرضه ساخرا هازئا رأسُ الولايات المتَّحدة الأمريكيّة من ضرائب على بقيَّة الأقوام، هو التجلّي الفعلي لنظام الفَتْونة وهيمنة القويّ على الضّعيف، فما رأي المثقّف فـي أشلاء جثث الأطفال المبعثرة، وفـي احتراق العباد وهم أحياءُ، وفـي منع النّاس من مائهم فـي القرن الحادي والعشرين، يُمنَع النّاس من الماء والدواء، يُمنَع النّاسُ من الصُّراخ، ومن دفن موتاهم، يُمنَع النّاس من الموت دون دماء وسماء تُدَكُّ فوق رؤوسهم، أيّ تاريخ سيغفر لنا صمتنا وجبننا ودهشتنا؟ المثقَّف اليوم لا صوتَ له ولا حول له ولا بأس، هو العجز المُطلَق حتّى على الكتابة، لم نسمع أغنيةً مبكيةً، مزلزلة، ولا بيتًا من الشِّعر مُعبِّرًا عن هذا القتْل البائس اليائس لبغْلٍ هائجٍ يُباركه عتاةُ الكون، صمت الكلام، صمت الفنّ، خرس المثقّف، وإن نطق نطق كُفْرًا، أو نطق دون أذن صاخية، هو الفشل فـي نظامٍ كونيّ، متغيِّر كلَّ حينٍ، لا وجه فـيه للإنسانيَّة التي دافعنَا عنها مدى بقائنا، هو عالمٌ من سُلالة مصّاصي الدّماء ومجرمي رعاة البقر وقبائل أكَلة لحوم البشر، ودبيب عناكب سامّة، تلبيس براغيث همجيّة هائجة، يغيب المثقَّف عن هذا العالم، عن هذا النظام العالمي الذي تقدُّ الأدمغة فـيه والأهواء والأخلاق تقلُّبات عالمٍ افتراضيّ تكمن خلفه أدمغةٌ متوجّهة لقتْلِ البشر والبشريّة وإحياء «نظام التفاهة».

لا صوتَ يُسْمَع للفـيلسوف ولا للشّاعر ولا للمسرحيّ ولا للرسّام ولا للروائيّ ولا للجامعيّ ولا للعالم، وإنَّما هو ثُغاء البشر، وبقاءُ الزَّبد، ودوام رغوة الفقاع. ما يُؤلمنا فـي هذا العالم الجديد، ليس قتْل النّاس، يُذَبَّحون على هيكل سليمان، ولا أصوات العربيّات المسلمات النائحات عن معتصَم لم يُوجَد، ولا كوابيس الأطفال، وهم يمدّون الأيادي المكلومة، من بين أشلاء البشر المخلوطة بالإسمنت والحجارة وأجزاء الأسقف السّاقطة فوقهم، المضرَّجة بدماء العجز والمقت والهزيمة، ولا موت الشيخ على قارعة طريقٍ مهزوزٍ بقنابل أنْفقت عليها آلاف الأوراق النقديّة، لتمزِّق هدْأة الكوْن، وهو يستغيثُ شربةَ ماءٍ ولا يُغَاثُ، ولا بذاءة الإسرائيليّ الشّارب لدماء ثور يلحق به شبيهه فـي قريبٍ عاجل، ما يؤلمني حقًّا، أنّني أشهد نهاية الإنسانيَّة، وأنّي وجيلي، بذلْنا من العمر جميله فـي حلمٍ عشناه، أن تسود العدالة، أن يَغلِبَ الإنسانُ الحيوانَ، فإذا فـي الإنسانُ ما لا حيوان اجتباه ولا وحش أتاه، فـيه الرَّغبة فـي شُرب الدّماء دون علَّة أو سببٍ، وإذا ذلك فـي الإنسان مغروس مركوز، منذ أوَّل البشر، منذ قتَّل قابيل هابيل، وقد يصبح القاتل مقتولاً فـي الصياغة الإسرائيليّة للعلاقات العدائيَّة والحربيّة، وقد يتحوّل صاحب الدّار إلى نكرةٍ يجب أن يُطرَد. المُخيف فـي هذا العالم أنّ الفلسفة تخلّت عن نظريّة الإنسان الأسمى، أو الإنسان الأقوى، غير أنَّ أصحاب المال والنفوذ تلقّفوا الفكرة، وهاهم يُجسّدونها، ولا يعنيهم فـي الكون إلاّ الأقوياء، أمَّا الضِّعاف، فالعجْنُ أولى بهم، هل ما زلتم تتحدّثون عن نظرةٍ إباديَّة، نازيّة، عنصريّة، آريَّة لهتلر؟! خلاصَةُ هذا التكسُّر الذي يعيشه المثقَّف الكونيّ لا العربيّ (العربيّ أشدُّ وطْأةَ التّابع) فحسب، أنّ ثقافةً هزيلةً بديلة قد تطمس الثقافة التقليديّة، مسْرَحًا وقصصًا وموسيقى ووعْيًا بمشاغل الإنسان، إلى ثقافةٍ قائمة على عارضين افتراضيين فـي مختلف مواقع التواصل الاجتماعي، هي القُدوة لأجيالٍ قادمة، الأجيال القادمة متذبذبة بين سطوتنا المُفقرة وترسانة القِيَم التي نُريد أن ننقلها إلى جيلٍ له ثقافته ووسائل حلمه، ورغوة الزَّبد التي تَعِد بالثروة والإجلال والتقدير. سيفٌ يخز صدري عندما أرى الفاعلات والفاعلين عبر مواقع التواصل يُحتَفى بهم فـي معارض الكتاب، ويقولون قولاً فـي العلم والفنّ، فأرجوكم، دعونا، ودعوا لنا مقابرنَا، وكتبنا، وهرِّجوا مع جيلكم عبر مواقعكم، فلكم سخافتكم ولنا ثقافتنا.

محمد زرّوق ناقد وأكاديمي تونسي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: هم فـی

إقرأ أيضاً:

جامعة أفريقيا العالمية.. جسر السودان الذي مزقته الحرب

لعقود طويلة، مثلت جامعة أفريقيا العالمية في الخرطوم صرحا علميا وثقافيا يربط السودان بعمقه الأفريقي، حيث احتضنت الآلاف من طلاب القارة السمراء.

لكن الحرب المستعرة منذ عامين حولت هذا الصرح العلمي إلى ثكنة عسكرية بعد سيطرة قوات الدعم السريع عليها، لتنضم الجامعة إلى قائمة طويلة من الخسائر التي خلفتها الحرب المدمرة.

وأظهرت جولة أجراها مراسل الجزيرة حسن رزاق في حرم الجامعة حجم الدمار الذي لحق بمرافقها ومنشآتها، وكيف تحولت من فضاء للعلم والمعرفة إلى ساحة للصراع العسكري.

"من هذه البوابة عبر ذات يوم آلاف من طلبة أفريقيا.. ضجيج خطاهم وصخب أحاديثهم كان يعم الأرجاء، لكن بسبب الحرب بات المكان موحشا وصامتا"، هكذا وصف رزاق مشهد الجامعة التي كانت تعج بالحياة.

وبين أكوام الركام، يتجول فاروق إسماعيل، أحد عمال الجامعة الذين حوصروا داخلها بعد استيلاء قوات الدعم السريع عليها، ليصبح شاهد عيان على ما ارتكب بحقها من انتهاكات.

يقول فاروق: "كانوا يسيؤون التعامل مع الجامعة ويكسرون الطاولات ويحرقونها ويستخدمونها حطبا لإشعال النار، وعندما كنت أطلب منهم التوقف، كانوا يهددونني".

موقع إستراتيجي

وبحكم موقعها الإستراتيجي جنوبي العاصمة السودانية ومبانيها المتعددة، تحولت الجامعة إلى نقطة تجمع لقوات الدعم السريع، ومخزن للذخائر، في حين غرقت المكتبة في الظلام واستباح العابثون محتوياتها.

إعلان

ولم تسلم جدران الجامعة وحجرات الدراسة من أعمال التخريب والدمار، إذ طالها قدر كبير من الخراب، وفق ما أظهرته الصور التي وثقها المراسل خلال جولته.

ويؤكد الدكتور عبد الباقي عمر، مساعد مدير جامعة أفريقيا العالمية، أن الجامعة تأثرت تأثرا بالغا بهذه الحرب، فموقعها الجغرافي جعلها أكثر عرضة للخطر، إذ تحولت لفترة طويلة إلى ثكنة عسكرية تتبع لمليشيا الدعم السريع، الأمر الذي ألحق أضرارا جسيمة ببنيتها التحتية.

وأضاف عمر أن الجامعة فقدت قدرا كبيرا من أصولها، بما في ذلك المكتبات والمنشآت الحيوية جراء الاشتباكات والنهب الذي تعرضت له.

وتمثل جامعة أفريقيا العالمية جسر السودان إلى عمقه القاري، إذ احتضنت هذه الكليات على مدى عقود طلابا من 54 دولة أفريقية، لكن الحرب المستمرة منذ عامين حالت دون هذا التواصل الحيوي.

ورغم ما تركته الحرب من دمار بهذه الجامعة، فإنها بدأت محاولات لملمة جراحها، إذ استأنف عدد من كلياتها الدراسة عن بعد، في انتظار أن تدب الحياة في رحابها مجددا ويملأها الطلبة ضجيجا وصخبا، ويعود السودان ليحتضن أبناء أفريقيا من جديد.

وتبقى هذه الجامعة كموطن للعلوم، تمثل أيضا بعثا للأمل الأفريقي وسط ظلمة الحرب التي خيمت على السودان، وأرخت بظلالها على مشاريع التعاون والتكامل الأفريقي.

مقالات مشابهة

  • الخطاب السياسي الذي أشعل الحروب في السودان
  • عوائد السندات.. القلق الاقتصادي الذي أربك حسابات ترامب
  • جامعة أفريقيا العالمية.. جسر السودان الذي مزقته الحرب
  • ما هو (MoCA) الذي تفوق فيه ترامب ...كل ما تود معرفته
  • من هو شيخ الإسلام البريطاني الذي بنى أول مسجد فيها؟
  • ما الذي يحدث في العالم؟
  • دعاء يوم الجمعة الذي يغير الأقدار للأفضل
  • حصان يحضر جنازة صاحبه الذي توفى بشكل مفاجئ ..صور
  • ما الذي يحدث في العالم ؟
  • الفياض: قانون الحشد الذي سيشرع قريبا يمثل خطوة جديدة في إعادة تأسيسه