يمن مونيتور:
2025-04-30@03:47:47 GMT

تحولات المؤتمر الشعبي العام في 40 سنة (1)

تاريخ النشر: 25th, August 2023 GMT

تحولات المؤتمر الشعبي العام في 40 سنة (1)

من النشأة والتحالف إلى الانفراد

النشأة والتأسيس

في الـ24 من شهر أغسطس/آب 1982، أُعلن عن تأسيس “المؤتمر الشعبي العام” في شمال اليمن (قبل الوحدة)، في أعقاب حوار سياسي شاركت فيه معظم القوى السياسية اليمنية، وضم المؤتمر في صفوفه مختلف القوى والتيارات الفكرية والسياسية، وكان الدستور يحظر التعددية الحزبية حينها، لذلك فقد أصبح المؤتمر يضم جميع التيارات التي كانت تعمل في ظروف العمل السري، وغدا هو الحزب الحاكم، ويرأسه رئيس الجمهورية علي عبدالله صالح الذي تولى السلطة في شمال اليمن في يوليو/تموز 1978.

لم يحمل المؤتمر أي صبغة تنظيمية أو أيديولوجية خاصة، فقد كان بمثابة مظلة سياسية لجميع القوى السياسية، من إسلامية ويسارية وقومية، بالإضافة إلى أن المؤتمر احتوى قطاعات واسعة من المستقلين والعسكريين وشيوخ القبائل والتجار مستفيداً من صيغته الواسعة والفضفاضة.

ويلاحظ أن المؤتمر تأسس بعدما بدأ نظام الرئيس صالح يشهد شيئاً من الاستقرار بداية الثمانينيات، خاصة بعد اتفاقه مع قيادة النظام الحاكم في جنوب اليمن على وقف المواجهات، واستيعاب المعارضين المسلحين المدعومين من نظام عدن، واحتواء كافة التيارات السياسية – بما فيها تيار اليسار الذي كان يقود المواجهات في المناطق الوسطى ضد نظام صالح.

وقد كشفت المواجهات التي شهدتها المناطق الوسطى أواخر السبعينيات جانباً من الضعف في بنية نظام صنعاء وجيشه، وكذلك الخواء الفكري والسياسي، في مقابل امتلاك نظام عدن لمشروع سياسي يتبنى النظرية الماركسية ويعمل على نشرها على مستوى اليمن شمالاً وجنوباً، وكان ذلك سبباً كافياً للبحث عن صيغة سياسية جامعة تسد هذه الثغرة وتملأ الفراغ في هذا الجانب، ومن هنا بدأت الحوارات واللقاءات -بتوجيهات من الرئيس صالح ودعمه، لإنجاز مشروع فكري وسياسي وإطار تنظيمي يجمع القوى السياسية على الأسس العامة والقواسم المشتركة.

تشكلت لجنة للحوار الوطني، وتولت مهمة إعداد مشروع “الميثاق الوطني”، الذي سيكون الدليل النظري للإطار السياسي الجامع، وانعقد المؤتمر الشعبي العام في أغسطس 1982، وأقر المؤتمر صيغة الميثاق الوطني، وتم اختيار قائمة مؤسسي المؤتمر من شخصيات سياسية ومثقفين مستقلين وآخرين من مختلف القوى والأحزاب السياسية.

يقول الدكتور/ عبدالملك منصور المصعبي، وهو أحد أبرز مؤسسي المؤتمر: “لقد كان المؤتمر الشعبي العام في حينه ملبياً لاحتياجات النظام السياسي الجديد الذي كنا بصدد تأسيسه، كما أن المؤتمر جاء ملبياً لاحتياجات المجتمع اليمني في ذلك الوقت” .

وتضم الهياكل القيادية للمؤتمر إلى جانب رئيس المؤتمر اللجنة العامة، وهي أعلى هيئة قيادية للتنظيم، وأمانة عامة تضم الأمين العام وعدداً من مساعديه، كما يضم المؤتمر لجنة دائمة تعتبر بمثابة برلمان الحزب، كانت في السابق لجنة واحدة على مستوى البلد، وفيما بعد تم تشكيل لجان دائمة على مستوى الفروع.

وعلى الصعيد التنظيمي عقد المؤتمر عدداً من المؤتمرات العامة والدورات الاستثنائية، بدءاً بالمؤتمر العام الأول في العام 1982، وانتهاء بالمؤتمر السابع في العام 2005، وكذلك المؤتمر الاستثنائي في العام 2006، انعقدت جميعها في صنعاء باستثناء المؤتمر السابع فقد انعقد في عدن.

من التحالف إلى الانفراد

استمر هذا الوضع حتى تم إعلان الوحدة اليمنية بين الشمال والجنوب في مايو/أيار 1990، ودخل المؤتمر- الحاكم شمال اليمن في تحالف ثنائي مع الحزب الاشتراكي الذي كان يحكم جنوب اليمن، تقاسما خلالها المناصب والمؤسسات الحكومية في الفترة التي أعقبت إعلان الوحدة، وسميت تلك الفترة بالفترة الانتقالية، ومع أن كثيراً من أعضاء المؤتمر كانوا محسوبين على قوى وأحزاب سياسية، فقد غادر الغالبية منهم المؤتمر وانخرطوا في أحزابهم بعدما أصبح النشاط الحزبي مسموحاً، غير أن المؤتمر احتفظ بكتلة جماهيرية سيما من غير الحزبيين، ومن القيادات العسكرية والمدنية في المحافظات الشمالية، بالإضافة إلى أن المؤتمر نجح في احتواء عدد كبير من أبناء المحافظات الجنوبية والشرقية الذين تضرروا من نظام الحزب الحاكم في الجنوب، خاصة أبناء السلاطين والأمراء الذين انتهت سلطاتهم بعد الاستقلال عن الاستعمار البريطاني في العام 1967.

انتهت الفترة الانتقالية بإجراء الانتخابات النيابية في أبريل/نيسان 1993، وأسفر عنها فوز حزب المؤتمر بأكثر من 120 مقعداً من مقاعد البرلمان البالغ عددها 301، وحصول حزب الإصلاح على 63 مقعداً، وفي المرتبة الثالثة حل الحزب الاشتراكي بحصوله على 56 مقعداً.

دخلت الأحزاب الثلاثة في تحالف ثلاثي وتنسيق برلماني لكن التجربة لم تصمد سوى بضعة أشهر حتى بدأت الخلافات تعصف بها، سيما مع نشوب أزمة سياسية أواخر العام 1993، قادت إلى حرب بين حليفي اتفاق الوحدة، (المؤتمر والاشتراكي)، استطاع صالح وحلفاؤه حسم الحرب لصالحهم بعد نحو شهرين من نشوبها، وبعدها دخل المؤتمر وحزب الإصلاح في تحالف ثنائي، استمر قرابة 3 سنوات، وبعدها أجريت انتخابات برلمانية في أبريل 1997، نتج عنها حصول المؤتمر على غالبية المقاعد ما أدى لخروج الإصلاح من السلطة وانفراد المؤتمر في تشكيل الحكومة والسيطرة المطلقة على السلطة معتمداً على ما لديه من أغلبية مريحة في البرلمان.

كانت انتخابات العام 1997 بالنسبة للمؤتمر هي بداية الحكم منفرداً بدون حلفاء، فقد تلتها عدة جولات انتخابية واستطاع أن يحسمها لصالحه، بدءاً بالانتخابات الرئاسية الأولى في العام 1999، والانتخابات المحلية عام 2001، والنيابية عام 2003 والرئاسية الثانية في العام 2006، وهي آخر انتخابات شهدها اليمن، باستثناء الانتخابات التكميلية (النيابية) التي شملت عدداً من الدوائر الانتخابية في العام 2009 .

انفرد المؤتمر بحكم اليمن، منذ العام 1997 غير أن الإخفاق المستمر لحكوماته المتعاقبة وضعف أداء مؤسسات الدولة، مع الفشل الذريع في محاربة الفساد وتحقيق الإصلاح المالي والإداري، فضلاً عن الإخفاق في الجوانب الأمنية وفي التنمية وتوفير الخدمات، بالإضافة إلى وصول المؤتمر والقوى السياسية المعارضة التي انضوت في إطار واحد أسمته (اللقاء المشترك) إلى طريق مسدود في مختلف جولات الحوار، كل ذلك أدى لظهور عدد من الأزمات السياسية والاقتصادية جراء تنفيذ الجرعات السعرية الناجمة عن رفع الدعم عن المشتقات النفطية، ناهيك عن نشوب حروب صعدة وتصاعد الحراك الشعبي في المحافظات الجنوبية ودعواته المستمرة لانفصال جنوب اليمن.

ومع ذلك بقي المؤتمر الشعبي العام مكاناً جاذباً للراغبين في الحصول على مغانم السلطة من وظائف وامتيازات وغيرها، خاصة في ظل سيطرته المطلقة على كل مؤسسات الدولة واحتكاره الوظيفة العامة ووسائل الإعلام الرسمية، الأمر الذي جعل منه بوابة عبور في الغالب لتحقيق المكاسب الخاصة للملتحقين به، ومقابل ما يحصل عليه المنتسب للمؤتمر من منافع فإن الانتساب لا يكلفه شيئاً من حيث الالتزام الفكري والأيديولوجي، فالمؤتمر يعتمد فقط خطاباً عاماً يسهل التعاطي معه، ناهيك عن ارتباطه الوثيق بشخصية مؤسسه الرئيس صالح، الأمر الذي يلزم المنتسبين بالولاء الشخصي للرئيس أكثر من الولاء للحزب. وهو ما عبر عنه قيادي في حزب المؤتمر بالقول: “المؤتمر مرتبط بالرئيس صالح وحده، والمنتسبون للمؤتمر يبحثون عما في يد المؤتمر وجيبه” .

وبحسب عبد الملك منصور، أحد مؤسسي المؤتمر فـ”قد تحقق الكثير من أهداف المؤتمر، لكن هذا لم يستمر بسبب عوامل عدة، تظافرت لتجعل من المؤتمر مجرد منصة عامة علنية، بينما يبني كل قياداته تنظيماتهم الخاصة” .

*جزء من دراسة للباحث نشرها مركز أبعاد العام الماضي- مع حلول الذكرى الأربعين لتأسيس المؤتمر.

فؤاد مسعد24 أغسطس، 2023 شاركها فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام قوات يمنية مشتركة تسيطر على معسكر لـ"تنظيم القاعدة" جنوبي البلاد مقالات ذات صلة قوات يمنية مشتركة تسيطر على معسكر لـ”تنظيم القاعدة” جنوبي البلاد 24 أغسطس، 2023 مسلحون حوثيون يعتدون على مدير إذاعة محلية جوار منزله بصنعاء 24 أغسطس، 2023 الحكومة اليمنية تعلن بدء تحسّن خدمة التيار الكهربائي في عدن 24 أغسطس، 2023 السعودية: ننتظر تفاصيل من “بريكس” لنتخذ قرارا بشأن عضويتنا 24 أغسطس، 2023 اترك تعليقاً إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التعليق *

الاسم *

البريد الإلكتروني *

الموقع الإلكتروني

احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.

شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصة الحرب الاقتصادية على الوطن والمواطن 12 أغسطس، 2023 الأخبار الرئيسية قوات يمنية مشتركة تسيطر على معسكر لـ”تنظيم القاعدة” جنوبي البلاد 24 أغسطس، 2023 مسلحون حوثيون يعتدون على مدير إذاعة محلية جوار منزله بصنعاء 24 أغسطس، 2023 الحكومة اليمنية تعلن بدء تحسّن خدمة التيار الكهربائي في عدن 24 أغسطس، 2023 حذرت من تفشي الجراد.. “الفاو”: وفاة 45 يمنياً نتيجة البرق خلال يوليو الماضي 24 أغسطس، 2023 ملايين اليمنيين يفتقرون للمياه النقية وخدمات الصرف الصحي 24 أغسطس، 2023 الأكثر مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 اخترنا لكم الحرب الاقتصادية على الوطن والمواطن 12 أغسطس، 2023 قضية الطفلة حنين .. أمل استعادة عدن لروح القانون 29 يوليو، 2023 بين القاتل والخاذل 17 يوليو، 2023 يوم الغدير والغدر المجوسي 6 يوليو، 2023 من حق عدن أن يكون لها كيانها 5 يوليو، 2023 الطقس صنعاء غيوم متفرقة 23 ℃ 23º - 23º 32% 2.18 كيلومتر/ساعة 23℃ الخميس 29℃ الجمعة 29℃ السبت 29℃ الأحد 27℃ الأثنين تصفح إيضاً تحولات المؤتمر الشعبي العام في 40 سنة (1) 24 أغسطس، 2023 قوات يمنية مشتركة تسيطر على معسكر لـ”تنظيم القاعدة” جنوبي البلاد 24 أغسطس، 2023 الأقسام غير مصنف 24٬146 أخبار محلية 24٬143 الأخبار الرئيسية 11٬591 اخترنا لكم 6٬278 عربي ودولي 5٬473 كتابات خاصة 1٬974 رياضة 1٬958 كأس العالم 2022 71 اقتصاد 1٬892 منوعات 1٬748 مجتمع 1٬707 صحافة 1٬431 تراجم وتحليلات 1٬407 آراء ومواقف 1٬382 تقارير 1٬367 حقوق وحريات 1٬158 ميديا 1٬146 فكر وثقافة 809 تفاعل 738 فنون 442 الأرصاد 130 بورتريه 59 صورة وخبر 20 كاريكاتير 15 الرئيسية أخبار تقارير تراجم وتحليلات حقوق وحريات آراء ومواقف مجتمع صحافة كتابات خاصة وسائط من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل © حقوق النشر 2023، جميع الحقوق محفوظة   |   يمن مونيتورفيسبوكتويتريوتيوبتيلقرامملخص الموقع RSS فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق فيسبوكتويتريوتيوبتيلقرامملخص الموقع RSS البحث عن: أكثر المقالات مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 أكثر المقالات تعليقاً 4 سبتمبر، 2022 مؤسسة قطرية تطلق مشروعاً في اليمن لدعم أكثر من 41 ألف شاب وفتاه اقتصاديا 19 يوليو، 2022 تامر حسني يثير جدل المصريين وسخرية اليمنيين.. هل توجد دور سينما في اليمن! 15 ديسمبر، 2021 الأمم المتحدة: نشعر بخيبة أمل إزاء استمرا الحوثي في اعتقال اثنين من موظفينا 20 ديسمبر، 2020 الحوثيون يرفضون عرضاً لنقل “توأم سيامي” إلى خارج اليمن 30 مايو، 2023 الأرصاد اليمني يدعو المواطنين إلى عدم استخدام الأجهزة الإلكترونية أثناء العواصف الرعدية  5 يوليو، 2021  السعودية تعلق على البيان الإماراتي المندد باتفاق أوبك أخر التعليقات diva

مقال ممتاز موقع ديفا اكسبرت الطبي...

عبدالله منير التميمي

مش مقتنع بالخبر احسه دعاية على المسلمين هناك خصوصا ان الخبر...

Tarek El Noamany

تحليل رائع موقع ديفا اكسبرت الطبي...

عاصم أبو الخير

[أذلة البترول العربى] . . المملكة العربية السعودية قوة عربية...

نصر طه علي شمسان

معي محل عطور. فيـ صنعاٵ...

المصدر: يمن مونيتور

كلمات دلالية: المؤتمر الشعبی العام فی الحکومة الیمنیة القوى السیاسیة تنظیم القاعدة جنوبی البلاد أن المؤتمر فی الیمن فی العام

إقرأ أيضاً:

تحولات العلاقة بين المؤلف والنص

قبل ظهور الذكاء الاصطناعي كانت عملية تأليف النصوص تسير وفقا لقواعد راسخة منذ زمن بعيد، ترى في أن أي نص لابد أن يُنسب لمؤلفه حتى ولو كان هذا النص مقدسا، واستقرت علاقة المؤلف بالنص قائمة على حقه الكامل في ملكيته الفكرية. ولقد اتخذت النصوص أشكالا متعددة في خصائصها اللغوية والأسلوبية وبنيتها الفكرية وتنوعت مجالاتها في الصحافة والأدب والعلم والتوثيق، ومع ذلك فإن هذا التعدد والتنوع كان دليلا على أهمية البعد الإنساني الأصيل في عملية التأليف وتفرد المؤلفين البشر في إنتاجهم للنص وأحقيتهم في ملكيته الفكرية.

ومنذ أن تحولت المعرفة الشفهية إلى الكتابة النصية بدأت رحلة تاريخية طويلة من التفاعل بين الإنسان (المؤلف الذي يحتكر القدرة على التفكير) والتكنولوجيا (ممثلة في أدوات الكتابة والنسخ والمعالجة النصية)، وعلى مدى تاريخ التأليف كانت المعرفة نتاجا للخبرة الإنسانية والتفاعل والقصد الإنساني في المعرفة. وكان للتطورات التكنولوجية أيضا أثر كبير على كفاءة عملية التأليف وفاعليتها في التأثير على المجتمع. وأقصد بالتكنولوجيا، هنا المعنى الأنثروبولوجي المتمثل في تلك الأدوات التي ابتكرها الإنسان لتمكينه من السيطرة على حياته بدءا من القلم وصناعة الورق واختراع الآلة الكاتبة مرورا بالتحول الرقمي نحو ابتكار الحاسوب وبرامجه في المعالجة النصية وصولا إلى ابتكار تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطويرها لنماذج لغوية توليدية.

وبقدر ما واجه المؤلفون عبر هذه الرحلة الطويلة تحديات كبيرة، توفرت لديهم أيضا فرص مهمة أثمرت في تعزيز قدراتهم على التأليف والانتشار وتأكيد حقوقهم القانونية في ملكية النص باعتباره منتجا إنسانيا خالصا. ورغم تعقيدات وتحديات تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي مؤخراً فسوف يظل البعد الإنساني حاضرا بقوة في بناء المعرفة الآن وفي المستقبل، ويكفي القول: إن كل ما تفعله تطبيقات الذكاء الاصطناعي في تطوير نماذج لغوية بارعة في محاكاة التفكير البشري يعتمد بصفة أساسية على كفاء التطبيقات التكنولوجية الجديدة في استخدام الكم الهائل من المعارف الإنسانية التي أنتجها وشارك في تداولها البشر.

وهذا يعني أن جوهر العلاقة بين المؤلف والنص خلال عملية التأليف تقوم على بعدين أساسيين هما: الجهد الإنساني في احتكاره للتفكير والعمليات العقلية من ناحية. واستخدام التكنولوجيا الداعمة للجهد الإنساني من ناحية أخرى. وخلال المراحل السابقة على ظهور الذكاء الاصطناعي ظلت العلاقة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا قائمة على أساس الحفاظ على مناطق النفوذ لكلا الطرفين، بحيث يحتكر الإنسان الجانب المعرفي في التأليف، مقابل احتكار التكنولوجيا للأدوات المادية في تيسير العمل الإبداعي والحد من المشقة الجسدية في عملية التأليف والتمكين من الدقة والسرعة والشمول.

غير أن التطور اللافت الآن مع ظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي يكشف عن حدوث تداخل كبير وعميق بين دور الإنسان ودور التكنولوجيا، أو بالأحرى هجوم تكنولوجي كاسح على مواطن قوة الإنسان وتفرده بالعمليات العقلية، حيث بدأت هذه التطبيقات في التوغل بقوة داخل صلب عملية التأليف بمحاكاة النماذج اللغوية التوليدية للعمليات العقلية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان) وكانت دليلا دامغا على قدرته في تأليف نص دقيق ومؤشرا قويا أيضا على جدارته بحقه في الملكية الفكرية للنص. الآن بإمكان الذكاء الاصطناعي توليد نص متماسك ووثيق الصلة بالسياق ويحاكي الخصائص اللغوية والأسلوبية السائدة في مجالات الكتابة المختلفة، وتستطيع التطبيقات أيضا تأليف آلي لقصيدة واستكمال نص روائي بنفس معايير نبرة الأسلوب الأدبي، وتأليف تقرير صحفي وفقا لقواعد العمل الإعلامي الرصين، وإعداد تقرير علمي مزود بتحليلات جيدة للأدبيات تتوافق مع المعايير الأكاديمية في أسلوب الكتابة العلمية، وهذا يؤدي إلى طمس الحدود الصارمة بين البعد الإنساني والتكنولوجيا في كتابة النص، واختفاء الحدود بين النص المُنْتَج من خلال مؤلف إنسان والنص الآلي المتولد بفعل النماذج اللغوية للذكاء الاصطناعي. وهنا تثار أسئلة جوهرية حول صلب تحولات العلاقة بين المؤلف والنص من قبيل: من المؤلف في النص الآلي؟ وماذا عن حقوق الملكية الفكرية؟ وأين تكمن الأصالة في هذا النص؟ وما الذي يشكل هُويته وأصالته؟ ولكي نستطيع فهم التحولات الجديدة في العلاقة بين المؤلف والنص وتداعياتها على هُوية النص الآلي، يتعين في البداية أن نستعرض طبيعة العلاقة بين المؤلف الإنسان والنص وتطورها في مراحل ما قبل الذكاء الاصطناعي:

تطور علاقة المؤلف بالنص

في البدء كانت المعرفة، وكان السبيل إليها تفاعل البشر وتجاربهم الإنسانية في الحياة اليومية، وتداول هذه المعرفة بطريقة شفهية، وكذلك انتقالها وتعلمها عبر الأجيال بطريقة شفهية أيضا. ويمكن النظر إلى تلك المعارف المتداولة شفهيا مجازاً بأنها نصوص شفهية أيضا، وفي هذه المرحلة المبكرة من التطور البشري قبل عصر الكتابة، كانت المعرفة كامنة في الذاكرة الجمعية لدى كُل جماعة إنسانية، حيث تنشأ المعرفة وتتبدل ويعاد إنتاجها بموجب التفاعل التواصلي بين الناس وعبر الأداء اللغوي (ممثلا في الأقوال والأمثال الشفهية، وإلقاء الشعر، والغناء، والابتهال... الخ)، كما أن عمليات تأليف هذه النصوص الشفهية ظلت إنسانية بامتياز وقائمة على تفاعل حر وطوعي بين البشر في أطر جماعية محددة، غير أن تداول هذه النصوص شفهيا يجعلها متنوعة ومتغيرة من جماعة لأخرى ومن مكان لآخر ومن فترة زمنية لأخرى بموجب التفاعل الإنساني المشترك في الحذف والإضافة. ورغم أهمية دور الفرد في الإبداع، فإن عمليات التداول الشفهي تجعل تأليف النص الشفهي عملية جماعية موزعة وقاسما مشتركا بين كافة أعضاء الجماعة التي تحتفظ بالنص في ذاكرتها الجمعية.

ورغم أهمية دور الراوي أو الشاعر الشعبي الفرد في تعديل النص الشفهي وتكييفه مع الجمهور أثناء عمليات الأداء، فإن سلطة الجماعة في الثقافة الشفهية تظل مصدر اليقين النهائي في تحديد معنى النص الشفهي وملكيته وحمايته من الزوال.

ومع ظهور الكتابة بدأت أولى مراحل التفاعل المعقد بين الجهد الإنساني والأدوات التكنولوجية في إنتاج المعرفة وتداولها، واستمر هذا التفاعل على مدى تاريخ الجنس البشري حتى اليوم. كانت نقطة البداية مع ظهور الكتابة اليدوية بفعل وجود نُخبة مثقفة لديها رغبة جامحة لتداول المعرفة داخل دوائر نُخبوية محددة سواء داخل مجتمع واحد أو عبر عدة مجتمعات تجمعها قومية واحدة. وقد ساهم هذا التحول في وجود نص مدون منسوب لمؤلف محدد يكتسب مصداقيته من المكانة الرمزية لهذا المؤلف في نظر النُخبة وعامة القراء على السواء. ومن ثم أصبحت علاقة المؤلف بالنص المكتوب وثيقة وشخصية وتنطوي على حقوق واضحة في الملكية الفكرية يصعب تجاوزها.

كانت شروط الكتابة اليدوية الجيدة مرهونة بثلاثة عوامل إنسانية وتكنولوجية متداخلة وهي: كاتب لديه قدرات معرفية وقادر على التدوين بحرفية بالغة في الدقة والجهد وحسن الخط، وأدوات تكنولوجية معينة كالقلم أو الريشة المزودة بأحبار، ولوحات من النباتات أو الأخشاب أو الجلود ثم الورق. في هذه المرحلة كان المؤلف هو نفسه من يتولى الكتابة مباشرة بيده، ومن ثم كانت عملية الكتابة يتخللها تفاعل مباشر وعضوي بين التفكير الإنساني والعواطف والمشاعر من ناحية، وأدوات الكتابة ذاتها من ناحية أخرى، حيث كان المؤلف يُفكر فيما يكتب لحظة الكتابة ذاتها، وقد ظل هذا الإحساس قائما إلى وقت قريب لدى تجارب كثير من المؤلفين كبار السن الذين يقترن التفكير لديهم بمجرد الإمساك بالقلم ومحاولة التعبير عن أفكارهم على الورق، وكُلما نَجح المؤلف في كتابة نص محكم بيده يشعر براحة نفسية وسعادة غامرة كأن النص امتداد جسدي وفكري ونفسي له، وكثيرا ما تؤثر هذه العادات على التعلق بالجوانب التكنولوجية كالأقلام والأوراق باعتبارها من لوازم ومتطلبات الكتابة الحميمة والمضنية في الوقت ذاته.

ولدواعي تداول النص كان يتم اللجوء إلى أشخاص يعملون كناسخين لنصوص كُتُب قابلة للتداول، وكانت وظيفة «الناسخ» أو «الكاتب» تقتضي مؤهلات تعليم أولية وإجادة للقراءة والكتابة والخط الجيد للعمل به، وتنحصر مهمته في التدوين فقط بصورة منفصلة عن المؤلف. ورغم ما قدمته التطورات التكنولوجية من دور بارز في دعم المؤلف عبر صناعة الأقلام والأحبار والورق لتعزيز النص، فإن فعل الكتابة اليدوية الغارق في الجهد البشري كان مضنيا وصعبا ونادرا بفعل ندرة المهارات لشغل وظيفة «الكاتب»، كما أن الكتابة اليدوية كانت تستغرق وقتا أطول ويتخللها تصحيحات كثيرة تستنزف كثيرا من الجهد والوقت. ومع ذلك فإن هذا الاستغراق الإنساني في فعل الكتابة اليدوية لدى المؤلفين كان يُضفي عليها حرارة إنسانية وملامح أُسلوبية أصيلة وثيقة الصلة برؤية المؤلفين وقاموسهم اللغوي، وهذا يعزز من أصالة النص ويعطي المؤلفين الحق الكامل في ملكيته الفكرية.

وفي القرن الخامس عشر حدث تحول جديد في علاقة المؤلف بالنص بفعل اختراع المطبعة علي يد يوهان جوتنبرج Johannes Gutenberg (1398 م - 1468 م) بحيث انفصلت عملية تأليف النص عن عملية تداوله، وأصبحت مهمة المؤلف تقديم مخطوط قابل للتداول، وتتولى المطبعة مراجعته وإعداده للطباعة بنسخ كثيرة يُمكن أن تصل إلى جمهور كبير من القراء، هذا التطور التكنولوجي أحدث ثورة كبيرة في عالم النشر ومكّْن المؤلفين من اكتساب الشهرة وتداول أفكارهم على نطاق واسع في إطار صناعة منفصلة تماما عن عمليات التأليف، وساهم أيضا في تعزيز أصالة النص بمقتضى نوعين من الحقوق القانونية: حق المؤلف بموجب الملكية الفكرية للنص، والحق المادي في النشر بموجب الطباعة والتوزيع. ورغم ذلك قُوبل ظهور تكنولوجيا الطباعة في البداية بكثير من الشك والريبة خوفا على أصالة النصوص واحتمالات التلاعب بها، حدث ذلك في كثير من البلدان وحتي داخل أوروبا ذاتها وأبرز المخاوف كانت الخشية من انقراض مهن الكتبة والخطاطين وإعداد المخطوطات والخوف على زوال جماليات فن تصميم المخطوطات وتراجع فن الخط، والخوف من الطباعة لأسباب رقابية تتعلق باحتمالات استغلالها في التضليل المعلوماتي والتحريف والتلاعب بالنصوص لإثارة الفتن، ومن المثير أيضا أن رجال الدين في العالم العربي افتوا بتحريم المطبعة ليس فقط خوفا على تحريف الكتب الدينية بل أيضا بالادعاء أن الكتب المطبوعة يمكن أن تقلل من همم الطلاب وعدم حفظهم للعلم ونسيانه.

ظلت عملية كتابة النص الأصلي بيد المؤلف قائمة لأكثر من أربعة عقود في ظل الطباعة باعتبار أن النص الأصلي المكتوب يدويا يُُمثل أساس الملكية الفكرية للمؤلف. وتغير هذا الوضع مع ظهور الكتابة الآلية في أواخر القرن التاسع عشر، عندما تم اختراع الآلة الكاتبة. وبذلك أصبح هناك نوعان منفصلان من الكتابة: الأولى كتابة يدوية للنص كمسودة أولية بيد المؤلف، والثانية كتابة آلية للنص موحدة الملامح نقلا عن مخطوط المؤلف باستخدام الآلة الكاتبة، ويتم إعداد نص الآلة الكاتبة بالاستعانة بآخرين من المحترفين على استخدامها. وهذه النسخة الأخيرة يمكن دفعها للطباعة على نطاق واسع، وساعد هذا التطور التكنولوجي على سرعة الكتابة الآلية الموحدة القابلة للطباعة مع تراجع الكتابة اليدوية التي باتت تنحصر في إطار العملية الفكرية التي يقوم بها المؤلف عند القيام بإعداد النص الأصلي فقط.

مع ظهور الحواسب الآلية الشخصية وبرامج معالجة النصوص في أواخر القرن العشرين حدث تحول آخر نحو ما يسمى بالكتابة الرقمية، حيث مكن هذا التطور التكنولوجي المؤلفين من القيام بالكتابة بأنفسهم باستخدام الحواسب الآلية الشخصية وإمكانية نقل الملفات وتعديل النص بالحذف والإضافة والتنسيق بسهولة وسرعة فائقة. بالإضافة إلى إمكانية نَسخ عدة نُسخ بسهولة وسرعة كبيرة بما يتطابق تماما مع النص الأصلي. وبمرور الوقت بدأ الاعتماد المباشر على نُسخة واحدة يكتُبها المؤلف بِنفسه مُستخدما الحاسب الآلي، وبذلك تراجعت الكتابة اليدوية تماما وحلت محلها الكتابة الرقمية الموحدة باستخدام لوحة المفاتيح على الحاسبات الشخصية. لم يعد هناك نسخة أصلية ثابتة بخط يد المؤلف، بل عِدة نُسخ رقمية قابلة للتحرير والتعديل باستمرار وبسهولة من جانب المؤلف. ويمثل ذلك تطورا كبيرا في العلاقة التفاعلية بين الإنسان (المؤلف) والآلة (الحاسب الآلي) عند كتابة النص، وبقدر ما أدى ذلك إلى مزيد من سهولة تعامل المؤلف مع النص وتحكمه فيه، ساهم أيضا في تحديات تتعلق بإثبات صحة النسخة الأصلية من النص بسبب كثرة التعديلات ما قد يؤثر سلبا على أصالة النص وصعوبة إثبات حقوق الملكية الفكرية للمؤلف.

وهكذا يتضح لنا أن البعد الإنساني ظل حاضرا بقوة عبر كافة مراحل تطور عملية التأليف منذ الكتابة اليدوية مرورا بالكتابة الآلية والمطبعية ثم الكتابة الرقمية، وكانت التحولات التكنولوجية السابقة تُشكل تحديا كبيرا لاحتكار الجسد لفعل كتابة النص (باليد)، بالإضافة إلى ما وفرته من فرص لتعزيز وتدعيم عمليات التأليف في بعدها الإنساني، بحيث طُرحت بدائل جديدة لإتمام كتابة النص بمساعدة الآلة وصولا إلى التخلي عن الكتابة باليد. وقد ساعد ذلك المؤلفين على التحكم أكثر في عملية التأليف براحة ويُسر مع الحفاظ على أصالة النص وانتسابه للمؤلف بموجب حقوق واضحة في الملكية الفكرية. وبظهور تطبيقات الذكاء الاصطناعي انقلبت هذه المعادلة رأسا على عقب وتغيرت معها تماما قواعد اللعبة في العلاقة التقليدية بين المؤلف والنص.

الذكاء الاصطناعي وإعادة رسم

حدود العلاقة بين المؤلف والنص

ثمة تطورات حديثة وغير ومسبوقة في تطبيقات الذكاء الاصطناعي تهتم بتوليد النصوص من خلال ما يُعرف بالنماذج اللغوية الهائلة Large Language Models، وهي مُصممة للتدخل في مراحل عملية الكتابة عبر معالجة اللغة وصياغة المقالات المطولة في مختلف أنواع النصوص، وبذلك أتاح ظهور الذكاء الاصطناعي في مجالات الكتابة فرصاً كثيرة مهمة أمام الكٌتاب في كافة أنواع الكتابة وبصورة غير مسبوقة أهمها: الاطلاع على البيانات الضخمة والإفادة بها في إثراء الكتابة والتحقق الفوري من المعلومات بشأن الأحداث الجارية بكفاءة بما يفيد الصحفيين من الكتابة بكفاءة وسرعة فائقة. وكذلك إلهام الأدباء بموضوعات جديرة بالسرد القصصي، وإتاحة فرص تجريب أساليب جديدة في الكتابة الأدبية، والإلمام بأبعاد ومعارف دقيقة وشاملة حول الشخصيات والأحداث والأماكن الأساسية في أثناء عمليات السرد الروائي، إضافة إلى سرعة الاطلاع على الأدبيات عند الكتابة الأكاديمية وتلخيص نتائجها بسرعة ودقة فائقة، وتوسيع نطاق المصادر والمراجع اللازمة للنص الأكاديمي، وكذلك مساعدة القائمين على الكتابة التوثيقية على توظيف إمكانيات الرقمنة والفهرسة لنصوصهم بدقة، وسهولة الكشف عن المواد الأرشيفية بشكل أسرع وإمكانية الحصول على الدعم في مجال تحليل النصوص الوثائقية بصورة جيدة.

غير أن التحديات الناتجة عن استخدام النماذج اللغوية الضخمة تكمن فيما تتمتع به من خصائص معرفية جديدة، حيث ساهمت بتعزيز وتطوير الكتابة من خلال الإمداد بالمعلومات والأفكار وتحسين الصياغة والأسلوب اللغوي والقيام بعمليات تنطوي على قدرات عقلية معقدة كالتلخيص والإسهاب والتصنيف والتحليل والمقارنات، إضافة إلى إمكانيات تنظيم بنية النص وتوثيق المراجع والمصادر، والتدقيق اللغوي والنحوي والترجمة وغير ذلك من العمليات المعرفية التي كانت حكرا على المؤلف (الإنسان). وإذا كانت التحولات التكنولوجية السابقة عَزَّزِت ودعّمت الجسد الإنساني بالبراعة اليدوية في فن الخط والكفاءة الميكانيكية في الكتابة والتحرير الآلي وتقنيات الطباعة وتداول النصوص، وقدرات التحرير المرنة في معالجة النصوص عبر الحواسب الآلية الشخصية، فإن تطبيقات الذكاء الاصطناعي تقوم بعمليات معرفية تفوق ما كان يحدث من قبل بكفاءة وشمول وسرعة فائقة، وتتوغل بقوة أكبر في محاكاة التفكير الإنساني لإنتاج نصوص شبيهة بالنصوص التي يُنتجها المؤلف الإنسان. وهذا يشكل تحديا كبيرا للقدرات العقلية في آخر وأهم معاقل نفوذ الدور الإنساني في إنتاج النص.

وقد ترتب على توليد النصوص بالذكاء الاصطناعي تحولات جوهرية في عملية التأليف ذاتها بحيث انتقلت من كونها عملية فردية قائمة على قدرات ومهارات المؤلف (الإنسان) إلى كونها أصبحت عملية تشاركية بين المؤلف (الإنسان)، والتكنولوجيا الحديثة (الآلة) ممثلة في التطبيقات الخوارزمية التوليدية للنصوص. كما أنها أصبحت عملية تفاعل مُركبة مع التكنولوجيا لاستيعاب أكبر قدر ممكن من المعلومات والبيانات والأفكار تم جمعها وتحليلها وصياغتها لغويا داخل النص بشكل مُنظم وبسرعة فائقة بما يوفر على المؤلفين البشر الجهد في التفكير والعمليات المعرفية. كما تتسم عملية التأليف الجديدة باعتمادها الأساسي على التوليد الموجه من خلال مدخلات منظمة يقوم بها المؤلف (الإنسان) في توجيه وإدارة للذكاء الاصطناعي في عمليات حفز مستمرة وتفاعلية يتوقف عليها المنتج النهائي للنص.

مع الأخذ في الاعتبار أن عملية التأليف أصبحت قائمة على ما يُسمي بالتناص الرقمي (digital intertextuality) أو التناص الخوارزمي (algorithmic Intertextuality) بمعني أن النصوص المتولدة بالذكاء الاصطناعي تستمد مُقوماتها وأسلوبها وبِنيتها اللغوية من مصادر بيانات ونصوص كثيرة موجودة سابقا تم الاطلاع عليها رقميا وإدماجها في إنشاء نص جديد، سواء تم ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة. ويتسق ذلك مع وجهة النظر السائدة في الدراسات الأدبية بأن جميع اللغات حوارية بطبيعتها، أي أن كل عبارة أو نص هو استجابة لنصوص سابقة وفقا لما أطلق عليه باختين «الطبيعة الحوارية للغة» والتي تعني أن النصوص دائمًا في حوار مع بعضها البعض، وبحسب تعبير رولان بارت بأن النص نسيج من الاقتباسات المستمدة من نصوص أُخرى. غير أن الفارق بين التناص التقليدي والتناص الرقمي في التأليف يكمن في اعتماد الأول على قيام المؤلف بإبراز الفروق الواضحة بين صوته وصوت المؤلفين السابقين عليه.

وعلى ضوء ذلك لم يعُد للمؤلف (الإنسان) السلطة المطلقة على صياغة النص، ولم يعُد المُؤلف ذلك الفرد العبقري المتوج على عرش عملية بناء المعرفة داخل نصوص مؤلفه، بل أصبح شريكا في عملية تأليف متعددة الأبعاد، والمهام، والأدوار، والأطراف. وأصبح انخراط الكاتب في التكنولوجيا بعُمق شرطا مهما لانفتاح المؤلف (الإنسان) على عوالم معرفية كثيرة كانت مغلقة أمامه وعصية على بلوغها وتتطلب وقتا أطول وجهدا مضنيا لا يقوى عليه بمفرده. وأصبح المؤلف (الإنسان) شريكا في عملية آلية لتوليد النص بمقتضي توجيهاته وتلك مهارة مهمة يتعين إتقانها من جانب كل من يستخدم تطبيقات الذكاء الاصطناعي في التأليف المشترك، وبحسب مدى ودقة وكثافة التوجيهات المقدمة من المؤلف يتحدد مدى جودة النص المتولد آليا. وللمؤلف (الإنسان) كشريك في عملية التأليف مسئوليات مهمة، وأحسب أنها أيضا مهارات جديدة تحدد مصير النص المُنّتَج في أصالته وملكيته الفكرية أهمها: المراجعة اللغوية الدقيقة بحسب مدى الملائمة مع أسلوب المؤلف ونوعية الكتابة (صحفية، أدبية، علمية.. الخ)، وإدخال تعديلات بهدف الترابط في الأفكار وتسلسلها المنطقي، ومراجعة صور التحيز القائمة بالنص، ومراجعة المعلومات والمصادر والمراجع للتحقق من مصداقيتها، وتزويد النص بالاقتباسات الضرورية، وربط النص بالسياق. وبطبيعة الحال فإن اتباع هذه المسئوليات أن دور المؤلف اتسع ليتجاوز كتابة جانب من النص بحيث يشمل أدوارا أخرى تتضمن التوجيه وإدارة النص المنتج آليا وإدخال تعديلات عليه ليكتسب أصالته، وهذا يعني ادخال تعديلات بفعل إنساني قصدي على النص المتولد آليا بما يتجاوز مجرد الكتابة التقليدية، بحيث يصبح النص الناتج مزيجا من تناص رقمي وجهد بشري من جانب المؤلف (الإنسان) لا يخلو أيضا من تناص تقليدي، وعلى قدر ما يَبذُل المؤلف من جهد في هذه العملية المُشتركة تتحدد درجة أصالة النص وملكيته، و يَتحدد أيضا دور الذكاء الاصطناعي فيما إذا كان مساعدا أو شريكا في التأليف وتتحدد أيضا هوية النص.

ولقد أثارت التحولات الجديدة في توليد النص بفعل الذكاء الاصطناعي خلافات حادة داخل المؤسسات العلمية والصحفية والأدبية وكذلك المحاكم في كثير من دول العالم حول معنى مفهوم التأليف، وما إذا كان النص المتولد بالذكاء الاصطناعي مؤلَفًا؟ وإذا كان تأليفا فمن يملُك حقوق التأليف والنشر للمحتوي الذي يُنتجه الذكاء الاصطناعي؟ هل المُؤلف (الإنسان) مستخدم التطبيقات هو صاحب حق التأليف؟ أم الذين يقومون بتطوير النماذج اللغوية؟ أم أن حقوق التأليف أصبحت على المشاع بمقتضى خاصية التناص الخوارزمي؟ ومتي وكيف يكون المحتوي المتولد بفعل الذكاء الاصطناعي أصليا لضمان حماية حقوق النشر الناتج عنه؟ وهناك محاولات جادة في تصميم برامج لكشف أصالة النص والتمييز بين النص البشري والنص المتولد بالذكاء الاصطناعي، غير أن الصراع الجاري الآن بين برامج كشف الأصالة والتطور المذهل في محاكاة النص المتولد آلياً مع النص البشري يشبه ما يعرف بسباق التسلح التكنولوجي technological «arms race – حسب تعبير جون ماي John May. وغالبا ما تنظر المؤسسات العلمية ودور النشر و الدوريات العلمية والمؤسسات الصحفية والأدبية والقضائية إلى ضرورة اشتراط التأليف البشري كأساس لحماية حقوق الملكية الفكرية، مع ضرورة إثبات الجهد البشري وإفصاح المؤلف بشفافية عن الفروق بين إسهامه وإسهام الذكاء الاصطناعي في صياغة النص النهائي، باعتبار ذلك التزاما أخلاقيا لا مفر منه. وكل ذلك يعني أن هوية النص في زمن الذكاء الاصطناعي أصبحت مستقلة عن المؤلف ولأول مرة منذ عصر الكتابة اليدوية، وأن عملية إعادة صياغة علاقة المؤلف بالنص على أسس جديدة الجارية الآن، والتي لم تُحسم بعد، أصبحت ضرورة لا مفر منها.

د. سعيد المصري أستاذ علم الاجتماع بجامعة القاهرة والأمين العام السابق للمجلس الأعلى للثقافة.

مقالات مشابهة

  • «الإحصاء» تُعلن قيمة تحويلات المصريين العاملين في أستراليا بنهاية 2024
  • عاجل:- الحكومة توافق على زيادة المرتبات ومنح علاوات وحوافز جديدة اعتبارًا من يوليو 2025
  • تحولات العلاقة بين المؤلف والنص
  • «كاك بنك» يشارك في المؤتمر المصرفي العربي السنوي 2025 بالقاهرة
  • ولي عهد الكويت يستقبل أبو الغيط يؤكد: علاقات الكويت بالجامعة خاصة وتاريخية
  • الإحصاء: 1.2 مليار دولار قيمة التبادل التجاري بين مصر والسودان خلال عام 2024
  • صحيفة عبرية: واشنطن تواجه معضلة بشأن الحوثيين في اليمن.. بين التصعيد أو الانسحاب (ترجمة خاصة)
  • القومي للمسرح والموسيقى والفنون الشعبية يحتفل باليوم العالمي للرقص الشعبي
  • الإحصاء: 494 مليون دولار حجم التبادل التجاري بين مصر واستراليا خلال 2024
  • فوكس نيوز: حرب ترامب في اليمن صراع يهدد بالتحول إلى مستنقع يستنزف قدرات واشنطن العسكرية (ترجمة خاصة)