هذا عنوان لمقال قديم كتبته في زمن الرئيس مبارك، ذات اعتداء على غزة، عندما وجد النظام نفسه مطالبا بموقف، وهو أعجز من أن يقوم به، فاحتمى باتفاقية كامب ديفيد، وهي التي لم "يحتمِ" بها من وقّعها، ففعل أضعف الإيمان، واستدعى السفير الإسرائيلي وطلب منه أن يبلغ بيجين احتجاجه الشديد!
وفي كل مرة كان نظام مبارك يعجز فيها عن الفعل، كانت "البطانة الإعلامية" تتحرك في عزف جماعي، هو "مصر أولا"، فليس مطلوبا أن يزج بالجيش المصري في معارك تخص أصحابها، وأن مصر دفعت الكثير من أجل القضية، بجانب تنويعات العزف، مثل أن الفلسطينيين باعوا أرضهم، فماذا تفعل لهم مصر التي ينبغي أن تكون الشغل الشاغل للمصريين الآن، فهي أولا، فكتبتُ مقالي "لتكن مصر أولا وأخيرا"!
وفي هذه الآونة عاد العزف من جديد، وليست هي المرة الأولى منذ طوفان الأقصى، لكن هذه المرة يتميز العزف بهذا الاحتشاد الكبير، من إعلاميين هم أبواق السلطة، وفي وسائل اعلام هي مملوكة لها!
فمصر لن تحاسب على المشاريب، والجيش المصري لن يحارب معارك الغير، فمصر أولا.
الأزمة في أن الثقافة العسكرية الحديثة وإن كانت تصور أن بلدا بحجم مصر مجرد ثكنة عسكرية في حجم المعسكر مساحة وسكانا، فإن "البطانة الإعلامية" تتعامل على أن مصر هي الأستوديو الذي يبث منه البرنامج، ومع جودة البطانة، أو عازل الصوت، فلا شأن لمن فيه بمن خارجه، ولن يصل كلام من في الجوار إلى داخله، ليكون من في الداخل معزولا تماما عن من في الخارج!
"البطانة الإعلامية":
لا أشتق مصطلح "البطانة الإعلامية" من بطانة الحاكم، أي حاشيته ومستشاريه الذين يعملون في بلاطه، ولهذا كان الدعاء للحاكم أن يرزقه الله "البطانة الصالحة" التي تأمره وتنهاه، وتنصحه وتصدق له النصح، ففي الحقيقة أن من تتشكل منهم "البطانة الإعلامية" هم أهون من ذلك مكانة وأقل نفرا، فالبطانة في الموالد هي الفرقة التي تقف خلف المنشد، وفي عالم الأزياء هي قطعة قماش بداخل السترة أو البنطال، وهذا هو الأوقع في مصطلح "البطانة الإعلامية"، فهم مجرد مرددين في حالة المولد، وهم مجرد قماش عازل في عالم الأزياء، ودورهم هو الإنابة عن الحاكم الذي لا يتعامل مع شعبه مباشرة، عندما لا يمكنه أن يردد كلاما سوقيا مثل أن مصر لن تحاسب على المشاريب، عندما تُختزل البلاد لتصبح في حجم مقهى شعبي!
الحديث عن الزج بمصر في الحرب لم يعد قاصرا على القضية الفلسطينية، ولكن صار يتردد في ميادين أخرى، مرتبطة بالأمن القومي المصري بشكل مباشر، مثل إقدام إثيوبيا على بناء سد النهضة مع تغييب مصر، ودون ضمان لحصتها، ودون حضورها في عملية البناء لاستيفاء الشروط التي لا تجعله عرضة للانهيار مستقبلا وإغراق السودان وأجزاء من مصر!
كان اتجاه السلطة هو الدفع باللجان الإلكترونية للهجوم على من يريدون الزج بمصر في الحرب، وسؤالهم الذي كان يُسكت المعارضين: هل تريدون من الجيش أن يحارب؟ وكان مذهلا أن ألحظ تلعثما من كثيرين فاجأهم السؤال الاستنكاري، فيبادرون للقول إن الحرب ليست ما يدعون إليه!
ومع عملية الإخراس هذه وجدتني مدفوعا بسؤال السائلين: وماذا في الحرب؟ إنها ليست عملا محرما ولا تندرج تحت قائمة العيب، ولماذا وُجدت الجيوش؟ للحرب عندما لا يكون هناك مندوحة منها، أم للحكم؟ وما هي الشرعية التي تستند عليها الجيوش في أحقيتها بالحكم إلا إذا كانت القدرة على حماية البلاد من الأخطار الخارجية؟ ولماذا تتحمل ميزانية دولة فقيرة تسليح الجيش بنفس راضية إلا إذا كان للردع ابتداء؟ فإذا لم ينجح ذلك في عدم الإقدام على العدوان، كانت الحرب هي الخيار الاستراتيجي الوحيد!
وأحسب أنني نجحت في وقف هذا العزف، فلم يعد أحد الآن يتحدث عن الحرب باعتبارها أمرا نُكرا فيما يختص بالأمن القومي المصري بشكله المباشر، والمعنى أنني نزعت منهم هذا السلاح، الذي يتمثل في الابتزاز بسؤال: هل تريدون من الجيش المصري أن يحارب؟ ليسرع الآخرون بسيف الابتزاز إلى إعلان أنهم لا يقصدون ذلك؟.. ولماذا لا تقصدون ذلك؟!
الدعوة المتخيلة:
بيد أن نغمة الحرب عادت هذه المرحلة بكثافة فيما يخص طلبا متخيلا من أشخاص لا نراهم للجيش للمشاركة بالحرب في غزة، ومن ثم كان الإعلان عن أن مصر لا تحاسب على المشاريب، وأن حربها لن تكن إلا دفاعا عن الأمن القومي المصري فقط!
الأزمة في أن الثقافة العسكرية الحديثة وإن كانت تصور أن بلدا بحجم مصر مجرد ثكنة عسكرية في حجم المعسكر مساحة وسكانا، فإن "البطانة الإعلامية" تتعامل على أن مصر هي الأستوديو الذي يبث منه البرنامج، ومع جودة البطانة، أو عازل الصوت، فلا شأن لمن فيه بمن خارجه، ولن يصل كلام من في الجوار إلى داخله، ليكون من في الداخل معزولا تماما عن من في الخارج!
لم يطلب أحد من الجيش المصري أن يحارب في غزة، لا اليوم ولا أمس، والحاصل أن القوم يغنون ويردون على أنفسهم، فهم هنا يقومون بدون "المنشد" و"البطانة" معا، ولم يذكر أحد منهم اسما واحدا لمن طالبوا بالحرب، ليندفعوا في "نفس واحد" يرددون: مصر أولا، وأن مصر لن تحارب إلا دفاعا عن أمنها القومي!
ومهما يكن فإن من البلادة عدم تصور أن أمن مصر القومي يتجاوز حدودها، وأن الأضرار التي تقع في محيطها تضر بمصالحها العليا، سواء في غزة، أو في السودان، أو في ليبيا. ولم يكن مبارك ثوريا عندما ترك الأنفاق بين سيناء والقطاع، وغض الطرف عنها، ورد على الجانب الإسرائيلي باستهانة في هذا الأمر!
"خالتي وخالتك وتفرقت الخالات":
ولا أعرف كيف يجري الحديث عن الأمن القومي المصري في سياق كهذا، لينحدر لمستوى اعتماد سياسة "ست جيرانها" في إدارة علاقاتها بجوارها، حيث "خالتي وخالتك وتفرقت الخالات"، فقد سعت السلطة الحالية إلى إخراج مصر من المعادلة لتكسب ود إسرائيل وعربون محبة، من أجل مصالحها، ففرطت في تيران وصنافير، وتنازلت طواعية عن حصة مصر في مياه النيل، وهدمت الأنفاق، وأزالت المباني القريبة من الحدود مع قطاع غزة، واعتبرت أن قرار فتح المعبر وإغلاقه شأن إسرائيلي، بما ينتفص من سيادة مصر عليه، وتجاهلت انتهاك إسرائيل لاتفاقية السلام (كامب ديفيد) أكثر من مرة على النحو الذي اعترف به اللواء سمير فرج، المقرب من عبد الفتاح السيسي وقائده العسكري!
ولم يشفع لمصر الآن كل هذا التفريط، وبدأ نتنياهو يتحدث عن ضرورة تفكيك بنية الجيش المصري في سيناء، حيث يرى أن مصر خالفت اتفاقية كامب ديفيد الخاصة بحدود القوة وعدد الأفراد في المناطق المختلفة في شبه جزيرة سيناء.
إذا استمرت الحرب على غزة، فالأمن القومي المصري لن يكون بخير، وهذه فرصة نتنياهو للتقدم للأمام من أجل مشروع إسرائيل الكبرى، وتبدو الفرصة سانحة بعد إطلاق يده في غزة، وبعد انتهاء الخطر الذي يمثله الجنوب اللبناني، وكذلك بعد الاستهداف الأمريكي للحوثيين واعتبارهم المعركة الشخصية للعاهل الأمريكي، الذي يهدد بالحرب على إيران، ومن هنا تمطع نتنياهو وقال بعمله على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط
ومن الواضح أنه في بداية شهر العسل، بعد الانقلاب العسكري، سمحت إسرائيل بمخالفة بنود الاتفاقية والقيام بعمليات مشتركة لمواجهة الإرهاب في سيناء، وفي معرض الفخر الوطني، فإن عبد الحليم قنديل ثمّن في برنامج تلفزيوني هذا الإنجاز المحسوب على المرحلة باختراق اتفاقية كامب ديفيد لأول مرة، حيث زيادة عدد الجنود المنصوص على وجودهم في بعض المناطق! وهو فخر ليس في محله، لأن الأصل أن تقييد العدد هو لخدمة الأمن الإسرائيلي، فإذا حدثت الزيادة لأهداف أخرى غير حماية حدود الوطن في مواجهة عدوه الاستراتيجي، فلا معنى لذلك!
ويبدو أن شهر العسل لم يستمر طويلا لأن الأهداف اختلفت، فمع حرب الإبادة التي يمارسها نتنياهو والقصف للخيام والأطفال والنساء في كل مكان، يعمل على فرض التهجير بالقوة الجبرية، والذي قد يمثل عقبة في طريقه أن يتواجد الجيش المصري بهذه الأعداد في سيناء!
ولولا دوافع الأمن القومي المصري، لاعتمدت السلطة المصرية المثل الذي ينصح بغلق الباب الذي يأتي منه الريح، والالتزام ببنود اتفاقية كامب ديفيد من حيث أعداد أفراد الجيش في المناطق المختلفة، غير أن التهجير فرضا أو طوعا هو خطر على شخص الحاكم، بجانب كونه خطرا على مصر.
هذا فضلا عن أنه إذا استمرت الحرب على غزة، فالأمن القومي المصري لن يكون بخير، وهذه فرصة نتنياهو للتقدم للأمام من أجل مشروع إسرائيل الكبرى، وتبدو الفرصة سانحة بعد إطلاق يده في غزة، وبعد انتهاء الخطر الذي يمثله الجنوب اللبناني، وكذلك بعد الاستهداف الأمريكي للحوثيين واعتبارهم المعركة الشخصية للعاهل الأمريكي، الذي يهدد بالحرب على إيران، ومن هنا تمطع نتنياهو وقال بعمله على إعادة تشكيل منطقة الشرق الأوسط.
وإعادة التشكيل هذه بما يخدم مصالح دولته بطبيعة الحال وهذه المصالح هي ضد مصر، ليست فقط في أهدافها المثالية وأمنها القومي، لكنها أيضا لا تخدم المصالح الضيقة للحاكم، والتي تتمثل في خلق البيئة التي تجعله يستمر في الحكم مدى الحياة.
وأحمق من يظن أن التدمير الذي جرى للقوة في المنطقة، ومن العراق إلى لبنان، يمكن معه تصور ألا تُقلق قوة الجيش المصري المشروع الإسرائيلي، حتى وإن كانت قوة ليست عدوانية، ولا تبدأ بعدوان، ولا تحمي مشروعا خارج حدود القطر المصري، كما كان الحال في العهد الناصري!
فمصر أولا.. ومصر ثانيا.. ومصر أخيرا.. لكن مصر ليست معسكرا وليست أستوديو معزول الصوت!
x.com/selimazouz1
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة الإسرائيلي مصر الأمن القومي مصر إسرائيل غزة الأمن القومي مقالات مقالات مقالات اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة صحافة مقالات اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الأمن القومی المصری الجیش المصری کامب دیفید الحرب على مصر أولا فی غزة أن مصر من أجل
إقرأ أيضاً:
مصر أولاً
بالواقعية أكتُب: لا صوت يعلو فوق صوت مصر، فلنتوقف الأن عن طرح هذا السؤال المتكرر الذى بات ساذجًا (أين أنتم ياعرب؟) فيبدو أننا اليوم مصريين فقط، ولنستبدله بسؤال أهم (هل أنتم جاهزون يا أبناء مصر؟)
نحن وحدنا من سنواجه مصيرنا وتحت أي ظروف ومسمي، فلتكن مصلحتنا هي الأهم، فربما هي لحظة من لحظات إختبار معدن هذا الشعب وقوة مؤسساته والتحقق من مدى وجود جينات الأجداد في أصلاب الأحفاد وما أكثر تلك اللحظات في تاريخنا الطويل الممتد، وما أعظم ردودنا السابقة علي هذه التساؤلات في كل الأزمان.
توترات شديدة في منطقتنا الملتهبة وتداعيات غير مسبوقة كل لحظة ولكن في النهاية تقف مصر شامخة لا تهاب، قيادة وشعب، لا نعرف التنازل عن المبادىء والثوابت الراسخة، قضيتنا هى الكرامة وإستقلالية القرار وصون الأرض التي روتها الدماء الذكية عبر التاريخ، قضيتنا هى مساندة ودعم الأشقاء ليحصلوا علي حقوقهم الكاملة دون تفريط، لن يهز هذا الشعب تصريحات جوفاء أو تهديدات فارغة من أي منطق، نحن المنطق ونحن القرار، نحن التاريخ والمستقبل.
تركيز وإصطفاف من الجميع فلن يساعدنا إلا سواعدنا، ونحن لها بأي شكل إن شاء الله، شعب وقيادة وجيش ومؤسسات، الكل معًا بلا تحزب أو شِقاق أو إنتظار مغنَم أو لقطة، الكل في واحد والواحد في الكل، فقط مصر وأمنها وإستقرار حدودها وإستقلالية قرارها، فقط مصر التي جاءت ثم جاء التاريخ. حفظ الله بلادنا من مكر الماكرين و كيد الكائدين. حفظ الله الوطن الأبي الغالي.