موقع النيلين:
2025-04-07@14:03:27 GMT

الساعات الثماني الأخيرة من حياة الترابي

تاريخ النشر: 7th, April 2025 GMT

“ذكرونا بمجاهداته، وتلاوته، ثبتونا في مصابنا ومصابكم، لا تبكوا عليه” إنه صوت عصام، الابن الأوسط يشق الصفوف في باحة مستشفى رويال كير، ينطلق الأذان من مكان ليس بعيداً، في شارع يسمى شارع “كوريا”، الأرض الخضراء المنبسطة كلها مسجد وطهورا، كانت الساعة تقترب من السابعة إلا عشر دقائق، قبيل ذلك تضاربت الأنباء عن وفاته، وامتلأ الأفق المنظور بالاستفهامات، وامتلأ المكان بالناس وكاميرات التلفزة، وجوه باكية، ووجوه مسفرة، عليها غبرة، بعض الملامح كساها الأسى، “يمة وصال البركة فينا” أظنه صوت أُمامة إبنة الشيخ وقرة عينه، كيفما علمها الثبات، أو إحدى بنات الأنصار، ووصال لا تبكي مثل ما تفعل الأرامل، ولكنها تطلق صوتها بالدعاء “البركة في أمة محمد، مات الشيخ، مات العالم المجدد، مات الرجل الأمة”.

. شيئاً فشيئاً تخفي غابات الأسمنت في أنحاء بري آخر ومضة للشمس.

إنه الخامس من مارس، تطلق المآذن أصوات الفجر والنباه، يصحو الشيخ من نومه المتقطع بعد أن أكمل ثمانية عقود وأربعة أعوام، وهو لا يزال يمضي في عباب بريقه الإنساني، يتناول المصحف كعادته ويتلو القرآن، لقد أكمل أغلب التفسير التوحيدي، وانسل من خواتيم مجاهداته يتوق للخلاص، يغمس يده في إناء من الماء لفريضة الوضوء بعد أن قام بفريضة التفكير، ينتعل حذاءه، ويصوب خطاه نحو المسجد القريب، المسجد الذي طالما مرغ فيه وجهه للحي الذي لا يموت .

يا سبحان الله، صوت شيخ الزين في “السيدة سنهوري” ينتزع الدموع ويبلل اللحى، الساعة تقترب من التاسعة والنصف صباحاً، وهو الوقت الذي سيطل فيه المهندس تاج الدين بانقا مدير مكتب الشيخ ليرتب خارطة برنامج اليوم، سيكون من بينها عزاء وعقد قران، وقبل ذلك يطلب الترابي الذهاب إلى مكتبه في شارع أوماك، أقل من عشر دقائق تفصل سيارة اللاندكروزر عن هنالك، يتجمع أمناء الحزب، بعضهم يشتكي من اتساع الفتوق في لجنة الحريات، وخلافات صغيرة في لجنة الحكم، يجلس الشيخ في مقعده ذي اللون الأخضر، ويبذل ما يسعه لتقريب الشقة، سيما وأنه وهب ما تبقى من عمره للحوار الوطني والمنظومة الخالفة، في الأيام الأخيرة لم يكن يفرق بين طلاب الوطني والشعبي، كان يعاملهم كخيوط أمل لمشروع طالما حلم به، وعمل له منذ ستينيات القرن المنصرم، ولذلك لم ترصد الصحف له موقفاً معادياً لإخوانه في السلطة منذ خطاب الوثبة، بل منذ وفاة يس عمر الإمام ساعة أن وسدوه الثرى وغمرتهم الذكريات.

الساعة تقترب من العاشرة صباحاً، أبواق السيارات تسب بعضها في الزحام المتعجل، الخرطوم كدأبها في الأشهر الأخيرة تهب كل حركتها للحظات الذروة، المقال الأشهر هذا الصباح لصديق محمد عثمان، وهو يكتب حديث السيرة والسريرة “فتى أخلاقه مثل”.. تلك القصيدة المادحة في حق شيخ حسن، والصحف أيضاً كانت تحتفي بحديث الرئيس البشير عن أحلام الشعب السوداني والإعلام المغضوب عليه، يقلبها الترابي بقلق بائن، يبتسم قليلاً، بندول الساعة يتأرجح، العاشرة والنصف إلا خمس دقائق موعد موتة الترابي الأولى، حالة من الصمت تخيم على المكان، يحاول الشيخ الثمانيني أن ينهض فلا يقوى على النهوض، يسقط على المقعد، كان الطبيب قريباً، وكان القلب قد توقف، تماماً، من يطمئن اللجان في قاعة الصداقة؟ ومتى القلب في الخفقان اطمأن؟ تخف به سيارات الإسعاف المسرعة إلى رويال كير، ويعم الخبر كل مكان، الترابي يتعرض لنوبة هبوط حاد وينقل إلى المستشفى المجاور، بل هي ذبحة قلبية، كثيراً ما كان قلبه يتألم، ولكنه لم يكن مضخة صدئة، وعندما تم اعتقاله وترحيله إلى بورتسودان قبل سنوات قليلة، كان ندى الجدران الباردة قد غمره، وأصيب برطوبة في القلب، مما اضطر أسرته أن تطلب له الأطباء، ويذهب قبيل أسابيع إلى قطر للقيام بفحوصات كاملة في مدينة حمد الطبية، ويعود ليكمل مهتمه الحوارية، يمتلئ المكان بالمشيعين .

ينطلق أذان الظهر، يؤم السنوسي المصلين، ويطلب الدعاء للشيخ، ويلح في الدعاء، ويذكر الناس بيوم الجمعة الذي سبق هذه الفجيعة، الشيخ كأنه يودع إخوانه يحرص على صلاة الجمعة بمسجد القوات المسلحة، ويخطب في حضرة البشير مذكراً الناس بالوفاء بالعقود، ومحذراً من عدم الالتزام بمخرجات الحوار الوطني، كأنه يبذل وصيته الأخيرة.
في الساعة الخامسة مساءً عصام لا يكلم الناس، وصديق الابن الأكبر يتنحى جانباً، وينتحب في وقار، ثمة تزاحم في مداخل المستشفى، يتناقص في الطابق الأعلى، حيث أنه لا يسمح بالمرور إلا لبعض الشخصيات المقربة، وتنتهي حركتها بعيدا عن غرفة العناية المكثفة، ما رشح عن الطائرة التي ستقله إلى ألمانيا كان محاولة لصرف الأنظار المشدودة نحو رويال كير، وتلافي أيما سيناريوهات قادمة، والأطباء أيضاً لا يكلمون الناس، فقط عميد الأسرة الدكتور دفع الله الترابي يحيط بحقيقة ما يجري، مرة أخرى يتوقف قلب الترابي، وهي الموتة الثانية، تتضارب المعلومات، ولا يُسمح حتى لوزير الصحة الولائي الدكتور مامون حميدة بالدخول، فقط يتوغل قليلاً ويقلب نظره في سقف المشفى الأزرق الذي تضيئه بعض الثريات، ها أنذا أبصر شيوخ الحركة الإسلاميين يتوافدون، وتطلق السارينة صافرتها، يدخل الرئيس البشير من باب خلفي، ويدخل البقية من أبواب متفرقة، وتسري شائعة بأن الترابي في حالة مستقرة بعد نقله من العناية إلى غرفة بالجناح الخاص، تسع عددا أكبر من المرافقين، الأطباء يقولون إن القلب يعود للعمل والدورة الدموية تنتظم، والمريض تحت الملاحظة الطبية لمدة 24 ساعة، لكنها في الحقيقة هي اللحظة التي يبذل فيها الأطباء جهودا جبارة لإنقاذ حياة الشيخ، وينتهي الحال بفريق طبي يقرر ما يمكن فعله، قسطرة للقلب أم قسطرة علاجية؟ عضلات القلب تضعف وتتضرر ثلاث شرائين، نلمح دبلوماسيين أجانب، من ضمنهم السفير الفرنسي برونو أوبير، نلمح دكتور السيسي والطيب مصطفى وحسن عثمان رزق والسموأل خلف الله، نلمح رفق الأحراش في الجنوب، الحزب ينتبه لحالة القلق والشائعات، فيصدر بياناً يوضح فيه ملابسات الوعكة التي ألمت بالأمين العام، ويطلب له الدعاء.

تدنو الساعة من السادسة مساءً، مصدر طبي يردد في صوت خافت أن الترابي يعاني من نزيف في المخ وحالته حرجة جدا، حتى أنه لم يستجب للعلاج، ينسب ذلك الحديث تقريبا للدكتور الفاتح الملك استشاري المخ والأعصاب، فيشير حسب التشخيص إلى حدوث نزيف دماغي تسبب في دخول الترابي في غيبوبه كاملة، “يا إلهى” تسمعها تدب تحت الشفاه.
كان ذلك في تمام الرابعة والنصف عصراً، كان عصراً حزيناً، ولكنهم لا يعلنون عنها إلا في السادسة، في تمام السادسة والنصف يموت الترابي موتته الأخيرة، ويخرج صديق دامع العينين، ويعلن خبر الوفاة، يضج مستشفى رويال كير، وتسمع الدعوات تتعالى ممزوجة بتكبير ولوعة، ينفتح الأسانسير ويخرج منه الشيخ السنوسي، وتاج الدين وكمال عمر، وبشير آدم رحمة، ويهبط الأستاذ حسين خوجلي من سيارته السوداء، بينما يطلب عصام في ثبات من الحضور الذهاب إلى المنزل، لكنهم يصرون على أداء صلاة المغرب في باحة المستشفى، عل مقربة من بخار الروح الصاعدة، تنطلق صافرة الإسعاف وعليها الجثمان، تنطلق تنهيدة من أعماق أبو ملاذ، ويمر أمام عينيه شريط من الذكريات، يبكي ويقول لقد تيتمنا، ويحكي أيام المفاصلة ورأب الصدع، قال حسين إن زعيم الجماعة الإسلامية في باكستان قال لهم: “لماذا تختلفون حول الشيخ وقد عرفنا السودان به؟” صحيفة أجنبية تصفه بالرجل الذي جاء بـ(بن لادن) للخرطوم، بينما تصفه (الديلي ميل) بالزعيم المعارض والأكثر شراسة في انتقاد حكومة البشير، تتوغل عربة الإسعاف إلى داخل المنزل بالمنشية وسط نوبات من البكاء وحالات تشنج، أحدهم يصيح: “رحل أمل الأمة”، يحاول عبد الرحمن الصادق أن يشق طريقه وسط الجموع ليعزي عمته المكلومة، تزحف سيارة الرئيس البشير وتقطع المسافة من آخر شارع الأسفلت إلى الداخل في ثلاث دقائق، قبالة مدخل المنزل يهبط الرئيس وهو حزين ومنكسر، لكنه كان يتأهب لزيارة الامارات وفي الغالب لن يلحق بالتشيع ما يفضي لإضمامة من الأسئلة.
تتعالى الهتافات: “شيخ حسن شهيد فداء التوحيد، عضو على وصاياه”، يتوغل الرئيس بصعوبة بعد صناعة سياج أمني حوله يجنبه الزحام، يذهب إلى الصالون مباشرة، غازي يحاول الدخول بجسده النحيل وعقله المتقد، وقد بدا حزيناً أيضاً، منصور خالد يمضي للأمام وهو يتوكى على عصاه، ويهش بها عل الذكريات.. صديق يخطب في الجموع ويعلن تعميد الدكتور دفع الله كبيرا للأسرة، ومقرراً بشأنها، ويقول إن الشيخ أوصى بأن يدفن حيث عاش، وإنه مات في العمل، ثلاث موتات، وإنه كان ينادي بالحوار والوحدة، ويختم: “موعدنا غداً في مقابر بري اللاماب”.. لكن الوفود تتقاطر، ويشتد الزحام.

القنوات السودانية توقف بثها بعد صلاة المغرب، وتبدأ في تلاوة القرآن ووضع صورة للشيخ الترابي، الدكتور القرضاوي ينعاه للأمة الإسلامية، وكذلك حركة حماس، وتوكل كرمان، وجميع قادة العمل الإسلامي، الدكتور أمين حسن عمر يبكي في قناة النيل الأزرق، راشد الغنوشي ينعي للأمة الإسلامية الفقيد الترابي في تلفزيون السودان، أم درمان تضع صورة كبيرة للترابي وخلفية سوداء تعبيرا عن الحداد، الدكتور علي الحاج يدخل جوازه الالماني للسفارة، ويتأهب للوصول للخرطوم يوم غد الاثنين، الإمام الصادق المهدي ينعيه بعاطفة رقيقة، ويستدعى ذكرياته معه منذ أوكسفورد، ويشهد له بالعلم والتدبر وقوة الإرادة، شورى الوطني يوقف فعاليته، ويعود لهم إبراهيم محمود في مركز الشهيد الزبير بالخبر الأكيد، وينفض الجمع، وينعيه أيضاً الإعلامي فوزي البشرى بوصفه “لم ير بأسا من عراك الدين أو قل التدين بالحياة ولم يتهيب كثير الأذى أو قليله، وإنما كان وظل بابا في السياسة جديرا بالبحث والتأمل” وما لم يقله فوزي أو صوب نحوه العنان، آية في كتاب الله كان يتمثلها الترابي حتى آخر لحظاته، وهو يجمع الدين بالسياسة والحياة، “قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للّه رب العالمين”.

م عثمان حسن خليفة.

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

إقرأ أيضاً:

محافظ سوهاج يكرم 11 مواطنًا من أهالي الشيخ حمد لإنقاذهم حياة مواطن عالق بالجبل الغربي

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في لفتة إنسانية تعكس التقدير للمواقف البطولية، كرم اللواء دكتور عبدالفتاح سراج، محافظ سوهاج، اليوم، 11 مواطنًا من أهالي قرية "الشيخ حمد" التابعة لمركز سوهاج، بديوان عام المحافظة، تقديرًا لشجاعتهم في إنقاذ أحد المواطنين العالق على ارتفاع 500 متر بالجبل الغربي بالقرية.

 

جاء ذلك بحضور اللواء علاء عبدالجابر، سكرتير عام المحافظة، واللواء أ.ح أحمد السايس السكرتير العام المساعد، والنائب أحمد عواجة عضو مجلس النواب.

 

وأشاد المحافظ بالدور البطولي الذي قام به أهالي القرية، مؤكدًا أن ما قاموا به يُعد مثالًا يُحتذى به في الشجاعة والإقدام، ويعكس القيم الأصيلة لأبناء سوهاج في الوقوف بجانب بعضهم البعض في أوقات الشدة، مؤكدا أن المحافظة لا تتوانى عن تكريم النماذج المشرفة من أبنائها الذين يُجسدون أروع صور التضحية والإنسانية، مشيرًا إلى أهمية تعزيز روح التعاون والمبادرة في خدمة المجتمع.

 

وأضاف المحافظ أن هذا الواجب الذي قام به أبناء سوهاج هي رسالة لجميع المواطنين بأن يكونوا إيجابيين في مثل هذه المواقف، وألا يجعلوا من هذه الوقائع فرصًا انتهازية للتصوير والنشر دون اتخاذ أي موقف لإنقاذ المواطنين والوقوف بجانبهم .

1000072689 1000072679 1000072688 1000072676 1000072677 1000072696 1000072680 1000072678 1000072691 1000072681 1000072698 1000072700 1000072702 1000072690

مقالات مشابهة

  • الكشف عن أكثر ساعة يد تعقيدا في العالم.. استغرقت 8 سنوات من العمل
  • أخبار التوك شو.. إيقاف تشغيل الهواتف المهربة غير المسددة للرسوم الجمركية بداية من الغد.. وكواليس الساعات الأخيرة بخصوص صفقة انتقال زيزو إلى الأهلي
  • بسعر لم يسبق له مثيل.. ساعة ذكية جديدة من كاسيو تغزو الأسواق
  • الشيخ الهجري: هناك أهمية للدور الرقابي الذي يقوم به المجتمع إلى جانب المؤسسات، في سبيل بناء وطن قوي ومتوازن
  • الرئيس الروحي لطائفة المسلمين الموحدين سماحة الشيخ حكمت الهجري خلال استقباله محافظ السويداء الدكتور مصطفى البكور: نحن لدينا ثقة بالمحافظ الدكتور مصطفى البكور وهو صلة الوصل بيننا وبين الحكومة في دمشق
  • الحبس 3 سنوات لعامل بشرم الشيخ للشروع في إنهاء حياة أحد السائحين
  • كواليس الساعات الأخيرة بخصوص صفقة انتقال زيزو إلى الأهلي
  • محافظ سوهاج يكرم 11 مواطنًا من أهالي الشيخ حمد لإنقاذهم حياة مواطن عالق بالجبل الغربي
  • تفاصيل الساعات الأخيرة بمعسكر سيدات الطائرة بالأهلي قبل مواجهة لالوا الكونغولي