ربما، لم يحدث أن عبّرت قوّى هذا العالم، في تاريخنا المعاصر، عن نفسها وعن مصالحها، بهذه الفجاجة التي يسمعها العالم اليوم على لسان رئيس الإدارة الأمريكية دونالد ترامب، وبكل تلك «الخشونة الهجومية السياسية» التي يرددها مساعدوه ومستشاروه.
اليوم يمكننا القول: إن الاستعمار لم يتوقف يوماً في التاريخ القريب، بل بقي قاسيا وبشعاً في كثير من الأحيان، فضلاً عن أنه لم يكن دوماً مجرد استغلال ناعم، أو مقنّع، فالخطاب المتفاعل يثبت استراتيجية وفلسفة» الاستعمار المباشر» بكل ما تحمله الكلمة من معنى في أحيان كثيرة، وإن تستر أحيانا بمفاهيم إنسانية لإخفاء طبيعته الحقيقية.
عمليا في مواجهة تراتبية مشهد الإبادة البشعة في قطاع غزة والضفة الغربية، التي تتواصل منذ أكثر من عام ونصف العام يمكن القول، إن الوجود العربي في كل تعبيراته القطرية والقومية، أصبح في مهب الريح، وكذلك مؤسسات العمل العربي المشترك وأنماط التجمع الإقليمي العربي، وعلى رأسها جامعة الدول العربية. حالة العجز الرسمي والشعبي، التي مورست أمام هول كارثة الإبادة المستمرة، لا تُنبئ بأي خير أو أمل في تدارك ما تبقى من مصالح العرب ووجودهم، في هذه المرحلة من السيولة الاستراتيجية، التي يمرّ بها العالم، ناهيك عن المرحلة التي ستلي انقشاع الكارثة بتوافقات دولية وإقليمية بين ما يتبقى من قوى متصارعة في عالم اللحظة الراهنة، حيث منحنيات خطرة ومزالق تاريخية في الدرب الآن تستدعي منا كل طاقة وجهد للانتباه أولا، ولمحاولة التصرف ثانيا دفاعا عن الذات والبقاء.
على مسمع ومرأى من سحق القوانين الدولية وكل أشكال علاقات السياسة الدولية وقيمها المعاصرة، وفي رصد للاصطدام المباشر بالحائط، الواضح لنا أن العالم الإسلامي لم يحقق أي درجة من التماسك أو الوحدة أو التنسيق المشترك، ما يجعله غير قادر على التأثير بشكل حقيقي على الساحة الدولية، الأمر الذي يجعل السعي الفوري ومن دون تردد للتكتل مجددا، أو تشكيل تكتلات جديدة صلبة تقاوم «موجات الاستعمار التي لم تعد مغلفة»، مهمة وطنية وقومية وإنسانية ملحة جدا، ومطلوبة فورا لأغراض «البقاء» وتجنب التلاشي.
إذا صحّ القول بأن موجة الربيع العربي، قبل نحو عقد ونصف العقد، شكلت إطارا يحاول إيقاف تكرار سياسات عقيمة في دنيا العرب، فإن من الأصح القول إن اللحظة الراهنة هي انكشاف العرب، كل العرب ومعهم بعض الدول الإسلامية، في العراء حيث تدمير غزة بالكامل، والخسائر الفادحة في صفوف قادة حزب الله، وقوته الاستراتيجية، والإطاحة بالنظام السياسي في سوريا، وانهيار الدولة فيها وحلّ الجيش، ومغادرة القوات الإيرانية ومطاردتها، بل ضربها في عقر دارها خلافا لضرب مقدرات الشعب اليمني ما أدى إلى تقويض محور المقاومة في الشرق الأوسط بشكل شبه كامل. كلّ ذلك يعني تغييرات جذرية في الإقليم، ناهيك عن ترابط هذه التغييرات، بتحولات استراتيجية أخرى في أماكن مختلفة من العالم، كأوكرانيا وأوروبا وبعض أقاليم افريقيا وغيرها. قد يكون من المفيد التذكير بالرؤية الأمريكية الاستراتيجية السابقة لهذه اللحظة، وهي رؤية عادة ما تضعها مؤسسات الدولة العميقة هناك، بصرف النظر عن الإدارة الحاكمة؛ ففي أكتوبر 2022، أعلنت الإدارة الأمريكية استراتيجية الأمن القومي الخاصة بها، التي تقع في 48 صفحة، وهي مقسّمة إلى ثلاثة محاور:
– تصوّر الإدارة الأمريكية للتحدّيات والتهديدات التي ينبغي مواجهتها، وتحديد كيفية الاستثمار في بناء عناصر القوّة الأمريكية.
– الأولويات الأمريكية حول العالم.
ـ وأخيراً رؤية الإدارة الأمريكية للعالم حسب الأقاليم/القارّات.
في تلك الاستراتيجية، تبدّت اللحظة العالمية في جملة من العناوين، أبرزها؛ «انتهاء حقبة ما بعد الحرب الباردة» و«العالم أصبح أكثر انقساماً واضطراباً وتنافساً» ويقف «عند نقطة انعطاف لناحية المواجهة مع الصين وروسيا والتحدّيات المشتركة» و«تزايد مخاطر الصراع بين القوى الكبرى» و«اشتــــداد المنافسة بيـــن النماذج الديمقراطية والاستبدادية» و«الارتفاع العالمي في معدّلات التضخّم» و»اشتداد التنافس على التكنولوجيا المتقدمة لتوظيفها أمنياً واقتصادياً». كذلك «تراجع التعاون الدولي في التحدّيات الوجودية للبشرية»، إضافة إلى التكرار المستمر في أدبيات الإدارة الأمريكية لمصطلح «العَقد الحاسم»، ما يشير إلى تصوّرها حول «حراجة الحقبة الحالية» بشكل جليّ وواضح، كما يشير إلى «الاستجابة لهذا الأمر متاحة ضمن نافذة زمنية محدودة». وهي عناوين ثبتت، خلال الأعوام الثلاثة الماضية، صحة العديد منها، خصوصا في تداعيات الصراع الروسي الغربي في أوكرانيا وما نراه اليوم من تداعياتها.
ما الذي يعنيه كل ذلك من انعكاسات على منطقتنا؟ هل طرحنا بتعقل وخبرة هذا السؤال؟
ثمة شكوك في أننا فعلنا أو نفعل على مستوى النظام الرسمي العربي على الأقل لكن بإزاحة الفجاجة، التي يعبّر فيها الرئيس ترامب عمّا يعتقد أنها مصالح الإمبراطورية الأمريكية، يمكن القول إن لحظة الرئيس ترامب هي اللحظة السياسية الحاسمة، لكل ما سبق ذكره من عناوين وتحديات استراتيجية أمريكية.
العلاقات الروسية الأمريكية تشهد انعطافا جذريا حول وقف الحرب في أوكرانيا، عبّرت عنها اجتماعات الرياض بين الطرفين؛ كما تشهد العلاقات الأمريكية الأوروبية انحلالا وتهتكا غير مسبوق، ينذر بتفكك الناتو ذاته، وتصعب رؤية وفهم ما حدث في سوريا من دون توافقات، ولو بالحدّ الأدنى، بين روسيا وأمريكا؛ بل أكثر من ذلك، فإن تصريح الرئيس الروسي بوتين حول استعداده للعب دور الوسيط بين أمريكا وإيران، يشير إلى تحولات إقليمية مقبلة كبرى، ذلك أن فك التحالف الإيراني الروسي، الذي تمّ مؤخراً، هو أحد الأهداف الاستراتيجية الأمريكية الحيوية في الإقليم.
الخلاصة، الأحداث والوقائع تزداد تعقيداً، في منطقتنا، ومعها يتواصل القتل والإبادة البشرية وتخريب العمران، وكل إمكانيات العيش البشري، في قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان وسوريا والسودان وغيرها؛ كما ترتفع وتيرة امتداد هذه الحرب الهمجية إلى مساحات أخرى من منطقتنا، ومن دون أن تكون هناك أية بارقة أمل في وقفها، أو إنهاء المقتلة المتواصلة، أو منع امتدادها منذ أكثر من عام ونصف العام. نحن في لحظة بالغة الخطورة على الإقليم كله، وأوهام النجاة القُطرية، من مفاعيل ومخاطر ما يحدث، بالصمت أو بالتسويف عن مواجهة تلك المخاطر بجدية، لن تنجي أحداً. الإقليم وصلت درجة سيولة تغيير خرائطه الاستراتيجية إلى حدودها القصوى، وهنا حصرا لا يقيم الأقوياء اعتباراً لغير مصالحهم وأطماعهم المباشرة، وهو ما نراه اليوم من حروب إبادة همجية وحشية، لم تقم اعتبارا لا لقوانين أو قيم أو معاهدات دولية أو إنسانية؛ لا تتوقف حدود تأثير هذه الحروب المدمرة عند ساحاتها الملتهبة والمشتعلة فقط، بل تمتد مفاعيلها المتوقعة إلى كل جوارها القريب والبعيد، وهو ما ينبغي أن تراه عين السياسة العربية بوضوح شديد.
أعود وأقول ما كنت أكرره دائما: لا تطمح هذه الكلمات إلى تكريس حالة إحباط موجودة، ولا إلى الانحياز إلى ما هو كارثي في عالَم العرب اليوم، سياسةً وصراعات. كما أنّ صاحبها يدرك كلّ المعوقات والصعوبات التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه. غير أنّ ضميري ووجداني يمنعانني من الصمت أمامَ ما أرى وأسمع وأحسّ، وبعد أن أصبح الصمت العربيّ، حول قضايا بقائنا ووجودنا، مدوياً في ضجيجه كالرعد، فيما البعض يراه فضيلة سياسية! التوحد مجددا على مستوى العرب لم يعد شعارا أو خيارا أو ترفا، بل «احتياج بقاء» في زمن كسرت فيه كل قواعد القانون الدولي وبدأ يتصرف على أساس «الأطماع والاستهداف الاستعماري» وعلينا أن نجيب على سؤال صغير: كيف ننجو وسنعيش في العالم الجديد؟ يا ساسةَ الأمةِ، ويا مفكّريها، ويا حكماءها، ويا كلّ مَن هو معنيّ بمصيرها، هذا نداءٌ لي ولَكم، لمحاولة وقف هذا الانهيار المريع، بجهد جماعيّ جاد.. مجرّد محاولة، كي لا يكون مصيرنا هو التلاشي، في عالم جديد لا يرى غير القوة أساساً لاستحقاق البقاء.
الّلهمّ فاشهد.
(القدس العربي)
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه غزة امريكا غزة العالم العربي مقالات مقالات مقالات سياسة اقتصاد سياسة سياسة صحافة سياسة صحافة مقالات اقتصاد سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإدارة الأمریکیة قطاع غزة
إقرأ أيضاً:
دعوات لعصيان مدني في العالم العربي لوقف الإبادة في غزة
دعا نشطاء إلى تنفيذ عصيان مدني في الدول العربية، ردا على الإبادة الجارية بحق سكان قطاع غزة، فضلا عن محاصرة السفارات الأمريكية وسفارات الاحتلال في الدول المطبعة.
وتفاعل النشطاء مع هاشتاغ "عصيان مدني حتى تتوقف الإبادة"، ونشروا مشاهد للمجازر التي تجري بحق سكان غزة، فضلا عن دعوات لأوسع تظاهرات ولإيقاف كافة النشاطات والتظاهر أمام السفارات لتشكيل أكبر ضغط دولي لوقف المجازر في القطاع.
ودعا مغردون إلى تحركات احتجاجية في مصر والأردن، كونهما الأقرب إلى فلسطين المحتلة، فيما خرجت العديد من التظاهرات في سوريا، للمطالبة بالتصدي لعدوان الاحتلال المتواصل على الأراضي السورية، فضلا عن التضامن مع قطاع غزة واستنكار المجازر التي تجري فيه.
وقال نشطاء ضمن التفاعل مع هاشتاغ العصيان المدني عبر مواقع التواصل الاجتماعي:
هذا الغضب الكامن بمنصات التواصل وآلاف التغريدات منّا جميعاً ما بتكون مجدية بدون نقلها لأرض الواقع: حصار السفارات الأمريكية والصهيونية والاعتصام بالميادين والاضراب الشامل بدءاً من اليوم، خلي الحياة تتوقف شوي وتنشل طول ما نهر الدم مش راضي يوقف!
سمعوا صوتكم لحكوماتكم وأنظمتكم ولا… pic.twitter.com/6Qqe6aM4oL — Khair Eddin Aljabri (@Khair_Aljabri) April 4, 2025
#عصيان_مدني_حتى_تتوقف_الإبادة pic.twitter.com/8fzqBhc39i — محمد سليمان (@Mohammadtajdeed) April 4, 2025
#عصيان_مدني_حتي_تتوقف_الاباده pic.twitter.com/h2BDceaMA7 — ????طارق???? (@TARIKO94238547) April 4, 2025
#عصيان_مدني_حتى_تتوقف_الإبادة #النفير_العام https://t.co/rE8DVOfTpO — Mhummos (@Mhummos1) April 4, 2025
لا تنتظر قرار دولي
لا تنتظر بيان رسمي
إبدأ العصيان... صوت الشعوب أقوى#عصيان_مدني_حتى_تتوقف_الإبادة#جيش_السابع_من_أكتوبر pic.twitter.com/ST7GiLTMqy — عاشقة للقسام (@AAlaqsy63305) April 4, 2025
العصيان المدني ليس شعاراً
بل هو فعل متصاعد وتدريجي حتى الوصول لشل مناحي الحياة للضفط على الحكومات لوقف المجزرة والكف عن الاستخفاف بإرادة الشعوب الحرة#عصيان_مدني_حتى_تتوقف_الإبادة#الإضراب_الشامل#الإضراب_الشامل_الأحد_٦_أبريل — mustafa (@gmaher01) April 4, 2025
فرصة أخيرة للشعوب لإثبات أن هذه الحكومات الذليلة لا تمثلها..#عصيان_مدني_حتى_تتوقف_الإبادة pic.twitter.com/iPEYUVdsX1 — Asma أَسْمَاء (@As_Asma00) April 4, 2025