هل يمكن للذكاء الاصطناعي التوليدي الذي ينتج صورا، ونصوصا، وأفلاما بكبسة زر أن يحل محل اليد البشرية التي تمضي عقودا في صقل موهبتها في ميادين الكتابة والفن؟

يزداد الجدل حول مصير الإبداع البشري، وحدود ما يمكن للآلة أن تحققه من دون المساس بجوهر الفن، والحق الفكري لصنّاعه. من طوكيو إلى لندن، تتوزع مشاهد القلق والمواجهة، بين صُنّاع الرسوم المتحركة والمؤلفين، في وجه زحف "الخوارزميات" على عوالم الجمال والكلمة.

في اليابان، حيث تشكلت أرقى أشكال الرسوم المتحركة في أستوديو غيبلي، يعبّر المخرج غورو ميازاكي (نجل رائد الأنمي هاياو ميازاكي) عن قلقه من سرعة تطور الذكاء الاصطناعي، ويقول: "لن يكون مفاجئا إذا تم إنتاج فيلم بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي خلال عامين"، لكنه يتساءل: "هل سيكون الجمهور مستعدا فعلا لمشاهدة عمل بلا روح بشرية؟".

ففي عالم اعتاد أن يستغرق إنجاز إطار واحد ساعات من العمل اليدوي المتقن، يبدو من الصعب على أبناء "الجيل زد" المتشبعين بالتقنية، أن يروا في الرسم اليدوي وسيلة ممكنة للعيش أو للتعبير. ويضيف غورو: "في عالم يستطيع الناس فيه مشاهدة أي شيء، في أي وقت، فقدَ الإبداع اليدوي قدرا من سحره وضرورته".

إعلان

لكن التحدي لا يقف عند حدود الفرشاة، بل يمتد إلى أقلام الكتّاب. ففي لندن، نظم نحو 100 مؤلف بريطاني وقفة احتجاجية أمام مقر شركة "ميتا"، متهمين الشركة بـ"سرقة" أعمالهم الأدبية لاستخدامها في تدريب نماذجها الذكية، من دون إذن أو تعويض. وهتف المحتجون: "ميتا، ميتا، سارقة الكتب!"، متهمين رئيسها مارك زوكربيرغ بـ"نهب" مكتبة "ليب جين" (LibGen) الرقمية التي تحوي ملايين الكتب والمقالات الأكاديمية. وذلك لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي الخاصة بها.

وما أثار غضب المؤلفين أكثر هو تقارير صحفية تفيد بموافقة زوكربيرغ على استخدام تلك المكتبة، رغم ما تحمله من انتهاكات محتملة لحقوق النشر. الروائي إيه جيه ويست، صاحب رواية "ذا سبيريت إنجينيير" (The Spirit Engineer)، عبّر عن شعوره بـ"الاشمئزاز" لرؤية عمله يُستخدم "لتغذية تكنولوجيا صُممت لتدميرنا"، حسب تعبيره.

قرصنة الخوارزميات

ويبدو أن سؤال "من يملك المعرفة؟" يعود بقوة في عصر الذكاء الاصطناعي. هل يمكن اعتبار تغذية النماذج الذكية بنصوص وصور من دون إذن أصحابها تطورا طبيعيا في مسار التقنية، أم أنها إعادة صياغة للقرصنة، ولكن بلغة خوارزمية؟

الأزمة تكشف عن مفارقة عميقة: فبينما تسهل التكنولوجيا توليد محتوى بصري وأدبي هائل، فإنها تُهدد أيضا بأتمتة الإبداع، وتجريد العمل الفني من بصمته الإنسانية. هاياو ميازاكي، في فيديو شهير له عام 2016، وصف تجربة للذكاء الاصطناعي في رسم مخلوق زومبي بأنها "إهانة للحياة نفسها"، مضيفا أن هذا النوع من الفن "مقزز".

وبينما لم يحصل ميازاكي حتى اليوم على خليفة يُضاهي رؤيته، يبدو أن ابنه غورو –وإن كان يدرك صعوبة معادلة الإبداع في عصر التقنية– لا يزال مؤمنا بأن "اليد التي تعرف طعم الألم والحياة، لا يمكن أن تحل محلها خوارزمية".

ولا يهدد الاجتياح المتسارع لأدوات الذكاء الاصطناعي التوليدي فقط مصدر رزق الفنانين وأصالة أعمالهم، بل يلقي بظلال من الشك على قيمة الإبداع الحقيقي في نظر الجمهور. يُخشى أن يصبح المنطق السائد هو: "لماذا ننتظر الفنان ليبدع، طالما أن الآلة تستطيع فعل ذلك بشكل أسرع وأرخص؟".

الفنان والمخرج السينيمائي الياباني "هاياو ميازاكي" (شترستوك) اجتياح الذكاء الصناعي للفن

بعد إصدار النسخة المحدثة من "شات جي بي تي" المسماة "جي بي تي 4 أو" (GPT4o)، شهدت الصفحات الإلكترونية سيلا من الصور والميمات التي أُنشئت بأسلوب أستوديو الرسوم المتحركة الشهير، المعروف بتنفيذه أفلاما شهيرة بينها "ماي نيبر توتورو" و"بوركو روسو" و"برنسس مونونوكي".

إعلان

ويبدي غورو ميازاكي اعتقاده أن الذكاء الاصطناعي قد "يحل محل" صنّاع المحتوى يوما ما، قائلا "لن يكون مفاجئا إذا تم إنتاج فيلم (رسوم متحركة) بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي خلال عامين".

كما فتحت هذه الموجة من الصور الواسعة الانتشار -التي أنشئت بواسطة البرنامج التابع لشركة "أوبن إيه آي"- نقاشا حول حدوث انتهاك محتمل لحقوق الملكية الفكرية واستخدام المحتوى لتطوير هذا البرنامج.

لكن خلال مقابلة أجريت في نهاية مارس/آذار الماضي في مقر أستوديو غيبلي في غرب طوكيو، تساءل غورو ميازاكي عما إذا كان الجمهور سيكون مستعدا لمشاهدة فيلم رسوم متحركة يتم إنشاؤه بالكامل بواسطة الذكاء الاصطناعي.

ومع ذلك، يقر المخرج -البالغ من العمر 58 عاما- بأن التقنيات الجديدة توفر "إمكانات كبيرة لظهور مواهب غير متوقعة".

الجيل الجديد

تواجه اليابان نقصا في رسامي الرسوم المتحركة المؤهلين، ويرجع ذلك جزئيا إلى أن معظمهم يعتاشون من وظائف منخفضة الأجر لسنوات قبل أن يتعلموا أساسيات المهنة.

وأسس والد غورو أستوديو غيبلي مع إيساو تاكاهاتا عام 1985، بعد عام من إخراج فيلم الرسوم المتحركة "ناوسيكا أميرة وادي الرياح" الذي تدور أحداثه ما بعد نهاية العالم.

بعد وفاة تاكاهاتا عام 2018، واصل هاياو ميازاكي (84 عاما) صناعة أفلام الرسوم المتحركة مع المنتج توشيو سوزوكي (76 عاما).

ويقول غورو ميازاكي، ردا على سؤال عن مستقبل أستوديو غيبلي "إذا لم يعد هذان الشخصان قادرين على الحركة أو التحرك، فماذا سيحدث؟"، مضيفا "ليس من الممكن استبدالهما".

وعلى الرغم من سنه، فاز هاياو ميازاكي بجائزة الأوسكار الثانية في مسيرته العام الماضي عن فيلم "ذا بوي آند ذا هيرون" (The Boy and the Heron)، الذي من المرجح أن يكون آخر أفلامه الروائية الطويلة.

عادة ما تستهدف الرسوم المتحركة الأطفال، لكنّ تاكاهاتا وهاياو -اللذين ينتميان إلى "الجيل الذي شهد الحرب"- أضافا عناصر أكثر قتامة تناسب البالغين، بحسب غورو ميازاكي.

إعلان

ويصف غورو ميازاكي "رائحة الموت" التي تعبق بها هذه الأفلام، قائلا "ليست هناك حلاوة فحسب، بل مرارة أيضا وأشياء أخرى متشابكة بشكل جميل في العمل"، و"هذا ما يعطي هذا العمل عمقه".

بالنسبة للشباب الذين نشؤوا في زمن السلم، "من المستحيل أن يخلقوا شيئا يحمل القدر نفسه من المعنى والنهج والموقف مثل جيل والدي"، كما يقول غورو ميازاكي.

مع انتشار الصور المولدة بواسطة الذكاء الاصطناعي على غرار صور أستوديو غيبلي عبر الإنترنت، ظهر مقطع فيديو يعود لعام 2016 لهاياو ميازاكي رأى فيه البعض إشارة إلى نفوره من التكنولوجيا.

وقال المؤسس المشارك لأستوديو غيبلي في فيلم وثائقي على قناة التلفزيون العامة اليابانية (إن إتش كيه): "أعتقد بصدق أن هذا الأمر يشكل إهانة للحياة نفسها".

وكان يتفاعل مع رسوم متحركة أنشئت بمساعدة الذكاء الاصطناعي لمخلوق يشبه الزومبي، وصفه بأنه "مقيت للغاية".

انضم ابن هاياو ميازاكي إلى أستوديو غيبلي عام 1998 وأخرج فيلمين للرسوم المتحركة.

كما أشرف على تطوير متحف غيبلي في منطقة كيتشيجوجي في طوكيو ومتنزه غيبلي الذي افتُتح في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 في منطقة آيتشي (وسط اليابان).

وقد أحب غورو ميازاكي الرسم منذ الطفولة. ويقول إنه تعلم كثيرا من مشاهدة أعمال والده وتاكاهاتا، على الرغم من أنه "لم يعتقد أنه يمكن أن يصبح رساما" للأعمال الكرتونية بما يضاهي موهبتهما.

ويقول المخرج إن "والدتي، التي كانت تعمل رسامة للرسوم المتحركة، حثتني أيضا على عدم متابعة هذه المهنة، لأنها صعبة وتتطلب كثيرا من الجهد"، مضيفا أن والده هاياو نادرا ما كان يوجد في المنزل.

ويضيف "لكنني كنت أرغب دائما في القيام بشيء إبداعي… وأعتقد أن كوني مخرجا يناسبني".

مظاهرة لندن

ومن اليابان إلى لندن حيث تظاهر محتجون ضد شركة "ميتا"، يبدي هؤلاء المؤلفون قلقا خاص إزاء استخدام "ميتا" المفترض للمكتبة الإلكترونية "ليب جين" (LibGen) التي تعزز الوصول المجاني والمفتوح إلى المعرفة الأكاديمية وتحتوي على أكثر من 7.5 ملايين كتاب ومقالة علمية.

إعلان

وفي دعوى قضائية رفعها عدد من المؤلفين ضد "ميتا" في الولايات المتحدة، تشير وثائق داخلية للشركة إلى أن زوكربيرغ وافق على استخدام "ليب جين"، حسب تقارير إعلامية أميركية.

نشرت مجلة "أتلانتيك" أخيرا قاعدة بيانات تحتوي على كل العناوين المتوفرة على "ليب جين".

وقال ناطق باسم "ميتا" لصحيفة غارديان البريطانية: "نحترم حقوق الملكية الفكرية للأطراف الثالثة، ونعتقد أن استخدامنا للمعلومات لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي يتوافق مع القانون المعمول به".

لكن خارج المقر الرئيسي للشركة في لندن، قال الروائي إيه جيه ويست إنه شعر "بالاستغلال والاشمئزاز" عندما اكتشف أن كتابه "ذا سبيريت إنجينيير" موجود في قاعدة البيانات.

وقال لوكالة الصحافة الفرنسية إن "رؤية أعمالي (…) تُستخدم للسماح لأصحاب المليارات في مجال التكنولوجيا بكسب مزيد من المال، من دون إذني، أمر مثير للاشمئزاز".

وأضاف "لقد أخذوا كتبي لتغذية تكنولوجيا مصممة خصيصا لتدميري".

حاول إيه جي ويست الدخول إلى مقر "ميتا" لتسليم رسالة موقعة من كثير من المؤلفين، بينهم كايت موس وريتشارد أوسمان، عند مدخل الشركة، لكن الأبواب كانت مغلقة.

وبات الروائي يدعو الحكومة إلى التدخل في مواجهة "أكبر هجوم على حقوق النشر البريطانية في التاريخ".

وأواخر فبراير/شباط الماضي، ندد أكثر من ألف فنان بريطاني، بينهم إلتون جون ودوا ليبا، بخطة لحكومة حزب العمال تهدف إلى الحد من القيود المفروضة في قانون حقوق النشر للسماح لشركات الذكاء الاصطناعي باستخدام المحتوى بسهولة أكبر.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات بواسطة الذکاء الاصطناعی الرسوم المتحرکة من دون

إقرأ أيضاً:

كتَّاب عرب: لن نترك الذكاء الاصطناعي يأخذ مكاننا!

لم يترك الذكاء الاصطناعي مجالا إلا ودخل فيه، بما فيه فنون الكتابة، وبعد أن كان الكلام عنه يتم بخجل عالميا، تصدَّر أحاديث الكتَّاب، وقد اعترف بعضهم بأنهم يستخدمونه في عملية البحث والمراجعة والتدقيق، واعترف البعض الآخر بأنه يساعدهم في عملية الكتابة ذاتها، لكن على المستوى العربي كيف ينظر كتَّابُنا إليه، وهل يخشون أن يحل بديلا لهم خلال فترة وجيزة؟! الإجابة في السطور القادمة.

في الآونة الأخيرة تابع الروائي والشاعر المصري شعبان يوسف محتوى كثير من تطبيقات الذكاء الاصطناعي، واكتشف كذبة كبيرة في فيديو مصنوع بـ«شات جي بي تي» عن فنان مصري راحل.

يقول: «سيرة ذلك الفنان تكاد تكون مجهولة، والمعلومات عنه شحيحة، ومن هنا كان خيال صانع المحتوى، أو منشئ التطبيق نشطا لدرجة الكذب والتضليل الفادح، أنا أعرف أنه لكي تصنع محتوى فأنت تُدخِل معلومات معينة، أي أنك توجِّه التطبيق، وفي حالة نقص المعلومات، أو إدخال بيانات خاطئة يخرج المنتج النهائي في أسوأ صورة. أنشأ التطبيق تاريخا آخر لذلك الفنان في كل تفاصيل حياته، وأدواره الفنية، وكذلك المستوى الفني لتلك الأدوار، وأيضا أصوله العائلية، وتنقلاته العديدة في كل مراحل حياته، ولأن الفنان كان مشتبكا مع كثير من الأحداث الفنية والسياسية والتاريخية، كما يُقال في بعض جمل الأرشيف القليلة المتناثرة، فلا بد من تزوير أحداث وتواريخ وأماكن، وخلق تاريخ مصطنع ومضلل».

شعبان يوسف يرى أن ما ينطبق على الفنانين، ينطبق على الساسة، والزعماء، والأدباء، والمفكرين، وكل مَن شغلوا الرأي العام في مراحل تاريخية مختلفة. يعلق: «لأننا في عصور أصبحت السرعة فيها سمة رئيسية، فمن الطبيعي أن يكثر الكذب والجهل، وبالتالي لا أحد يدقق ويراجع ويقارن، وهو ما سيُحدِث ارتباكاتٍ كثيرة بين متابعي كافة أشكال المحتوى، كما أن حروب المعلومات ستشتد بقوة بسبب ذلك التطبيق، لكن لا أنكر أن بعض الموضوعات تُصاغ بوعي ثاقب، وبمعلومات دقيقة».

يلفت شعبان الانتباه إلى كتَّاب وأدباء ينشئون محتوى يشمل سيرتهم الذاتية، دون أي أدلة عليها، أو وثائق، فالمتابع لن يطلب شهادة ميلاد صاحب المحتوى، ولا شهاداته العلمية، ولا أوراقا تدل على فوزه بجوائز ما، لذلك تظهر المعلومات كما يريد لها صاحبها، وذلك سيكون خطرا على أي دقة ننشدها.

أما الأدباء الذين يستخدمون تلك التطبيقات في نظم الشعر وكتابة السرد القصصي والروائي، فهم يعملون ضد روح الإبداع، ويلقون بما كان يُسمَّى «الموهبة والفطرة والسليقة والطبيعة الإنسانية الحرة» في عتمات ومجاهيل لا حصر لها، وسيعطون للآلة هيمنة لا حدود لها، وبالتالي فالذكاء الاصطناعي له أشكال من الخطورة لا تعد ولا تحصى، إلا لو تم التعامل مع تطبيقاته بنوعِ من الرقابة الصارمة والحاسمة.

أدوات الآلة

الكاتب العماني هلال البادي يؤكد أن الذكاء الاصطناعي لن يحل مكان الكتَّاب والمبدعين، إلا لو تكاسلوا وباتوا يعتمدون في تحرير أفكارهم الإبداعية على أدوات الآلة.

اليوم، بحسب هلال، يستطيع الباحث أن يستعين بالذكاء الاصطناعي في إعداد ملخصات أبحاثه، ويستعين به في صياغة المقدمات والخواتيم وحتى التسلسل المنهجي، ولكن هذا الذكاء الاصطناعي لا يمكنه أن يضع التحليلات الفكرية التي يريدها الباحث، ما لم يجد الباحث أن التحليلات تناسبه وتغنيه عناء التفكير والتنظير العميق، وفي كل الأحوال فإنَّ مجرد اتِّكاله على تلك الأدوات واعتماده التام عليها يفقده شرعية الباحث الرصين القادر على الحِجاج والنقاش الحرِّ مع مَن حوله في حال طرح الأسئلة.

هذا المستوى البحثي، كما يكمل هلال، ليس فيه قدر إبداعي يتسم بصفات التمثيل والتخليق، سواء في الكتابة أو الفنون البصرية كالرسم والتصوير وحتى الدراما منها. وهنا يمكن لأدوات الذكاء الاصطناعي المساهمة والدعم بوضع مقترحات ومخارج وأشكال وحتى مواد متحركة، إلا أنها تظل خالية من المعنى ما لم يضع المبدع فيها ما يود من روحٍ تمثله. الأهم أن الذكاء الاصطناعي لا يتوافر على تلك الشحنات من المشاعر الإنسانية التي يمتلكها المبدع، ولا يمتلك أساليبه، مهما حاول تقليدها، إذ سيظل عاجزا عن تمثلها وتمثيلها بشكل كامل. ويتساءل: «هل يمكن مثلا أن ينتج ما أنتجه ميلان كونديرا في الرواية؟ ربما يقلد مسار كونديرا لكنه لن يستطيع الوصول إلى قلب إبداعه، والأمر يقاس على محمود درويش ونزار قباني وأمل دنقل والمتنبي وغيرهم من الشعراء، مهما كان قادرا على محاكاة الأوزان الشعرية، ومهما كان قادرا على اقتفاء الأشكال والأساليب التي اتبعها أولئك الشعراء فإنه لن يصل إلى أن يكون مماثلا لهم وكفئا لإبداعهم. وأعود فأقول إن لم يكن وراء ما ينتجه من نتاج، مبدع حقيقي فإنه لن يولِّد إلا موادَّ مضحكة وهزيلة».

ويضيف: «أما التصوير الفوتوغرافي تحديدا فقد كان الفوتوشوب وأمثاله من أدوات التحرير الفني، حاضرا منذ زمن، لكن هل استطاعت تلك الأدوات أن تحل محل المصور الفوتوغرافي؟ الإجابة بالطبع لا، والأمر ذاته لدى الرسامين الذين يقول البعض إنَّ زمنهم اندثر، وهو ما لم يحدث عندما قيلت الجملة ذاتها بعد اختراع أول آلة تصوير وظهور التصوير الفوتوغرافي، بل تجاورت الفرشاة مع العدسة، وظلت اللوحات الإبداعية تتكاثر وتثري المخيلة والنقاش إلى وقتنا هذا عندما ابتدع أحدهم لوحة الموزة، وجعل العالم كله يتحدث عنها! باختصار يمكن أن نستعين بالذكاء الاصطناعي، فنعهد إليه بالاقتراح والتشذيب والإضافة، لكنه كما يقول هو ذاته عن نفسه: «ليس بديلا عن القلب والعقل البشريين». ولا غنى عن المبدع الحقيقي الذي يكتب من أعماق تجربته وأحاسيسه».

موت المؤلف

أما الروائي الكويتي طالب الرفاعي فيؤكد أنه إذا سلمنا بموت المؤلف فلن يعود للسؤال أي معنى. وبالتالي فإن النظر إلى السؤال يعني بالضرورة أن المؤلف حي، ومؤكد سيبقى كذلك. يعلق: «من خلال خبرتي في التعامل مع تطبيقات الذكاء الاصطناعي، يبقى ما تقدمه رد فعل على ما يطلبه السائل منها. بمعنى أن منْ يتعامل مع تطبيق الذكاء الاصطناعي هو من سيُحدد المطلوب من الذكاء الرد به. لذا على الإنسان/المؤلف أن يكون أكثر وعيا من تطبيق الذكاء الاصطناعي لكي يأخذ منه ردا يفوق قدرته. ما يقدمه الذكاء الاصطناعي هو مساعدة ممتازة في البحث مع المؤلف حول المادة التي يريد الكتابة عنها. وبالتالي يختصر على المؤلف جهودا كبيرة ومضنية وطويلة، وذلك عبر تقديم مادة بحثية تشكل مساعدة له فيما سيكتب. وهذا يفيد تماما إذا كان المؤلف يشتغل على بحث ما، إنما في حالة الكتابة الإبداعية، ولأي جنس من الأجناس الأدبية، فأنا أرى أن ما يميز المؤلف هو كلمته وجملته وفقرته وأسلوبه، وهذا ما يصعُب على الذكاء الاصطناعي القيام به. بمعنى أن المتأمِّل لأسلوب كاتب ما يرى أن لكل كاتب بصمة على مستوى الشكل والمضمون، وكلما كان الكاتب مبدعا متفردا، كلما اتضحت هذه البصمة أكثر ولازمته في أعماله ومقابلاته. وهذا ما لا يمكن تحققه على يد الذكاء الاصطناعي».

وينهي كلامه قائلا: «الخلاصة أن الذكاء الاصطناعي لا يمكن أن يهدد المؤلف أو يحل محله، متى كان هذا المؤلف موهوبا ومتمكنا من أدواته الفنية في الجنس الأدبي الذي يعمل عليه».

ذاكرة

وبدوره يقول الشاعر والناشر العماني ناصر البدري: «لا أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يأخذ مكان الكاتب، لكن أعتقد أنه سيخلق جيلا جديدا من الشعراء الوهميين، وكتَّاب القصة والرواية الأقل مستوى من أقرانهم، بالتالي قد نجد مثل هؤلاء يتوالدون في المستقبل القريب، إنما مع الزمن ستعيد الأشياء نفسها، وقد تكون هناك ذاكرة مخزَّنة بحيث يمكن كشف هؤلاء تماما كما يحدث مع الدراسات العلمية والأكاديمية المزورة. الإنسان سيجد وسيلة للتغلب على كل أشكال التحايل في هذا الجانب.

البدري هو ناشر ومؤخرا اتجه للاعتماد على الذكاء الاصطناعي في تصميم أغلفة دار «عرب». يقول: «أعتقد أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يكون مفيدا لأي دار نشر، ليس فقط في التصميم ولكن أيضا في الترويج، وأدواته بشكل عام لديها مستقبل كبير في تحقيق الكثير من الإفادة لأي عمل، ويمكن استغلالها بشكل إيجابي، وأيضا بشكل سلبي إذا قام المبدع بشيء منافٍ للأخلاق الذاتية أو لعموم المجتمع».

تأثير التقنية

الكاتب العراقي صفاء سالم إسكندر يتذكر هايدغر وخوفه المشروع من التقنية، في محاضرة قدمها عن هذا الموضوع. وكيف لهذه التقنية أن تؤثر سلبا على حياتنا لدرجة يمكن لها أن تتحكم بنا!

ويسأل نفسه: «هل وصلنا إلى هذا الحد؟» ويجيب: «ليس تماما، لكننا اقتربنا من ذلك». ثم يسأل مرة أخرى: «وهل يمكن لبرودة الآلة أن تضاهي دفء العاطفة الإنسانية؟»، ويقول: إن التقنية، رغم إضافاتها التي لا تُنكَر، لم تجردنا من أصالتنا بالكامل، ولكنها فرضت علينا ثمنا باهظا، إدمانا شرسا على هواتفنا، وهو شر لا مفر منه. هنا يُطرَح سؤال وجودي: إذا ما استوطن الذكاء الاصطناعي عقولنا، فهل سيحتفظ الشعر بمكانته؟ وإذا ما تضاعف عدد القراء، فهل يصبح الإبداع ضربا من المستحيل، حيث يعتمد الإنسان على معطيات الآلة، في تهجين مشين للمشاعر؟».

يتابع: «شخصيا، بت أخشى من التقنية، هذا الوجود الضروري الذي عبث بحياتنا، وأغرقنا في إسراف غير مسبوق. إننا على وشك الاستسلام لهذا الكائن الغريب، وقد بات من الصعب مواجهته. نحن نتحدث عن خسارة فادحة، وإذا ما تمكَّنت الآلة من السيطرة على قلوبنا، فسنفقد مشاعرنا الصادقة وأحاسيسنا الحقيقية، التي تغذِّي الأدب؟»

أرفف رقمية

أسأل الكاتبة الكويتية باسمة العنزي: هل تشعرين أن أدوات الذكاء الاصطناعي تهدد دورك ككاتبة؟ أم ترينها مجرد أدوات إضافية؟ فتجيب: «بالتأكيد لا! الأفكار الجيدة التي تؤسس لكتابة مختلفة لا يمكن اقتناصها من تقنيات الذكاء الاصطناعي المعلبة على أرفف رقمية. كما لا يمكن بث روح الكاتب وبصمته وثراء تجربته فيها. تخيل أن أقرأ روايتين واحدة جرى تجميع أجزائها من محركات البحث وجاءت بخليط مجهول المصادر، وأخرى لكاتب حقيقي بهُوية معروفة وخبرات حياتية متراكمة، وموهبة مدعمة بالذكاء اللغوي والمنطقي اللازمين للكتابة، بالتأكيد سيكون الفرق واضحا. الأمر أشبه بأن تغطي مساحة شاسعة بعشب صناعي وأشجار من البلاستيك وتتخيل أنها حديقة تتماهى مع الطبيعة ومواسمها، حتى الطيور لن تصدق هذه الخدعة»!

ثم تذكُر جملة من رواية ماريو بنديتي «الهدنة»: «إحدى أعظم سعادات الحياة: رؤية الشمس تتسرب من بين أوراق الشجر» وتعلق: «لا يمكن للذكاء الاصطناعي أن يأتي بمثل تلك الجملة دون أن يستنسخها من جمل كُتِبت سابقا ويقذف بها في فضاء بارد لقارئ يهمه مصدرها وفي أي نسق سردي جاءت».

تكمل: «في كل كتابة هنالك رأي يريد الكاتب إيصاله للقارئ، في الكتابات الخارجة من مصانع البحث والتجميع وهياكل إعادة التدوير ليس هناك آراء مستقلة مرتبطة بأشخاص يحملون همَّها. لذا ككاتبة في مجال الأدب تحديدا لست مهددة بالوسائل الجديدة لأن القارئ بحاجة لسماع صوت المؤلف الواقعي ومعرفة وجهة نظره وتلمس موهبته في صياغة سرده الخاص، ما أخشاه على الكتابة هو انزواؤها بعيدا عن الجموع وعدم قدرتها على التأثير على مجتمعاتنا التي تُصنَّف أنها لا تقرأ».

اللغة والآلة

الناقد المصري محمد سليم شوشة يرى أن احتلال الذكاء الاصطناعي مكانة الكتَّاب مسألة في غاية الأهمية والخطورة ويجب أن نطرحها على أنفسنا بصورة تتسم بالشمول والطابع العلمي. ويقول: «الحقيقة أنا لا أستطيع أن أفكر في الأمر بشكل فردي، أي لا أتخيل المشكلة في حدود الصراع الفردي بيني وبين الذكاء الاصطناعي، وأجدني بدلا من ذلك أتناول الأمر في إطار التصورات المستقبلية له وفي ضوء التناول العلمي، والمسارات المحتملة، أولا هناك علاقة عميقة بين الذكاء الاصطناعي واللغة، والذكاء الاصطناعي يتطوَّر في اللغة بشكل كبير يوما بعد آخر، وهذا يغيِّر أمورا كثيرة في العملية الإبداعية ويغيِّر في البنية الثقافية، حيث ستكون هناك كائنات أو كيانات أخرى غير البشر تنتج نماذجها الإبداعية، كيف ستكون هذه النماذج أو كيف ستكون صورتها من الدقة والحساسية والابتكار والتجديد وتفاعلها مع المنتج البشري العادي؟ هذه أسئلة مهمة يجب علينا أن نطرحها ونفكر فيها بقدر من القلق والانشغال الجاد».

يعتقد شوشة أن المبدعين الذين بلغوا حدودا بعيدة من الخصوصية والتفرد ولا يمكن توقع أنماطهم الإبداعية سيستمرون ولن يؤثر الذكاء الاصطناعي عليهم ولن يستولي على مهنتهم. ويقول: «بشكل شخصي قد أفكر في الذكاء الاصطناعي بوصفه تحديا عاما للثقافة العربية ولمستوى ما يُتاح فيها من التفكير النقدي والعمل الخلاق أو الذي يعجز عنه عقل الآلة، فهذا هو جوهر المنافسة بين البشر والذكاء الاصطناعي في السنوات القادمة، وحقيقة هذا الأمر بيد الأكاديميين الذين يدرِّسون اللغة العربية من علماء اللسانيات والنقاد والمفكرين، فهم يمكن أن يحددوا الاحتمالات والمخاطر والمسارات التي يمكن أن تمضي فيها الثقافة العربية مع الذكاء الاصطناعي. كما أن عليهم أن يطرحوا القضايا الجادة بعيدا عن الاستهلاك والنظر إلى المخاطر التي ينظر لها العالم كله، فالذكاء الاصطناعي ليس لعبة أو وسيلة للتسلية، لكنه مواجهة وتحدٍ مهول، والاحتمالات كثيرة، فهو يمكن أن يقود الإبداع السردي مثلا إلى مستوى من السطحية والنمطية إن لم تتوافر للذكاء الاصطناعي المعالجة العميقة للغة العربية، أو إذا غابت عن تركيبته الداخلية أنماط الابتكار في السرد العربي ولم تتم تغذيته بعناصر الخصوصية في الثقافة العربية من محددات تراثية أو محددات تخص الثقافة الشعبية أو تمثيلات لروح الثقافة العربية مثل الأمثال أو الشعر العربي وأنماط المجاز والاستعارات التي تختلف من لغة إلى أخرى».

لمسة الفن

ويبدأ الكاتب المصري محمد أبوزيد حديثه بإبداء قلقه من الذكاء الاصطناعي على أشياء كثيرة في العالم، مثل دخوله في صناعة الأسلحة، أو استخدامه في الحروب والقتل والدمار، مستدركا: «لكنني لست قلقاً منه على الإبداع إطلاقاً، المسألة بسيطة ومحسومة في رأيي: لماذا نفضل اللوحة التشكيلية المرسومة لمنظر طبيعي على صورة فوتوغرافية لنفس المشهد، لأن في الأولى فناً وفي الثانية مجرد نقل. ولهذا السبب أحببنا فان جوخ وبيكاسو ودالي وكلود مونيه وبول غوغان وما زلنا نقف مندهشين أمام لوحاتهم، لأن هذه هي لمسة الفن والإبداع والموهبة التي لن يستطيع الذكاء الاصطناعي الوصول إليها».

تطبيقات الذكاء الاصطناعي في أفضل أحوالها، بالنسبة لأبوزيد، مجرد منفذ للأوامر، مقلد للموجود، لكنها لن تبتكر إبداعاً جديداً من العدم يجعلك تقف أمامه منبهراً. ويضرب مثالاً، بظاهرة انتشرت خلال الأيام الماضية على مواقع التواصل الاجتماعي، وهي ظاهرة صنع صور كارتونية على غرار ستوديو غيبلي (ستوديو الرسوم اليابانية المتحركة الشهير). وقف الناس مبهورين أمام هذه الدقة والسرعة التي يقوم بها الذكاء الاصطناعي في صناعة الصور، وردد البعض عبارات عن نهاية الإبداع، لكن الدرس المستفاد من هذا كله، هو أن الذكاء الاصطناعي كان يقلِّد فقط ما فعله الرسامون الأصليون لستوديو غيبلي، لكنه لم يصبح غيبلي. تستطيع أن تطلب من الذكاء الاصطناعي أن يرسم لك لوحة على غرار لوحات رمبرانت، وسيصنعها بدقة وسرعة لكنه لن يصبح أبداً رمبرانت.

ويعلق: «أتذكر مقولة كنا نكررها في بداياتنا للتأكيد على أهمية الاختلاف والتميز للاستمرارية، وهي: هناك متنبي واحد، وهناك طه حسين واحد، وهناك نجيب محفوظ واحد، وهناك مئات المقلدين لم يبقَ منهم شيء ولم يتذكرهم أحد، والذكاء الاصطناعي في أفضل حالاته أحد هؤلاء المقلدين. ولعل أفضل رد فعل على استخدام الذكاء الاصطناعي في النشر، هو عدد الكتب التي رأينا أغلفتها خلال العام الماضي، وردود الفعل السيئة عليها، فهي تؤكد أن اللمسة الفنية البشرية ستبقى. في النهاية، الذكاء الاصطناعي ليس عدواً علينا أن نحاربه، بل هو أداة مهمة يمكننا استخدامها لمساعدتنا في عملنا، لجمع معلومات، أو ترتيبها، لإنهاء أمور روتينية، لكنها لن تقوم بالجانب الفني، لأن الفن هو جزء من سر وجود الإنسان على الأرض، وجزء من صيرورته واستمراريته».

يقف على الشاطئ

الشاعر السعودي عبد الوهاب أبوزيد يقول: «شخصيًّا، ما زلت غريبًا على الذكاء الاصطناعي وأدواته، أو أنها ما زالت غريبة عليَّ؛ فأنا لم أدخل هذه العوالم بعد، أو لنقل إنني ما زلت أقف على شاطئها متهيبًا دخول بحرها الذي أخشى ما ينتظرني فيه أو وراءه. ولكنني لا أحسب أنها تشكل تهديدًا من أي نوع أو درجة لي على أقل تقدير بوصفي شاعرًا، فالذكاء الاصطناعي لن يكون شاعرًا أبدًا لأنه بلا شعور أو مشاعر. ربما ينجح في النظم أو محاكاة بعض النماذج البسيطة التي قد يخدع بها غير الخبير أو المتمرس، ولكنها لن تخدع العارف بمداخل الشعر ومخارجه، أو هكذا أظن».

لم يجرب عبد الوهاب الاستعانة بالذكاء الاصطناعي في كتابة مقالة، لأن في ذلك خداعًا للذات قبل خداع القارئ. أما في الترجمة، فلا يرى بأسًا في ذلك على وجه التحديد، لأن أدوات الذكاء الاصطناعي حينها ستكون محض أداة مساعدة تخفف العبء وتختصر الوقت والجهد على المترجم، الذي يقع على عاتقه إخراج الترجمة بصورتها وشكلها النهائي بعد التحرير والمراجعة والتدقيق.

نيابة عن الكاتب!

الروائي السوري سومر شحادة ليست لديه إجابات واضحة: «لا أعرف بعد، بصراحة، لأني لم أجرب الاستعانة به. حتى ليس لديَّ تصور عن الطريقة التي أستخدم بها الذكاء الاصطناعي. أقرأ عن هذا، لكني لم أجربه. لا أرفض المبدأ. لكني ما زلت لا أعرف الآلية التي قد يتدخل بها إلى جانب الكاتب، أو نيابة عنه، هل يأخذ مكانه، أم فقط يمد له يده. لست أعرف».

يستدرك: «لكن يمكن أن أفترض جواباً من عالم الكتابة نفسه. إذ أرى الرواية بصورة خاصة بناءُ الحياة نفسها. إنها مصنوعة من مادة العيش بما فيه من عاطفة ومن اضطرام شعور ومن امتلاء بالحزن أو الفرح أو التخلي. لا أعرف إن كان للذكاء الاصطناعي أن يحاكي عالم علاقات البشر. لأنه عالم صعب، معقَّد، وينطوي دائماً على افتتان بالارتياب، وتصوير التباس ما هو قائم. يمكن أن يكون الذكاء الاصطناعي إضافة في حقول دراسة الأدب، وإلى حد، لكن في الأدب نفسه أنا أشك. لأن مادة الأدب هي الإنسان، وهي العلاقات بين الناس بالقدر نفسه. يعني لا يكفي أن تفهم إنساناً حتى تقدر على كتابته، يجب أن تفهم علاقاته، ما شكله، وما رَسَم وعيه، وما حدَّد خياراته، وكيف نشأت مخاوفه».

ويضيف: «عدا ذلك، تبقى المخيلة متقدمة على الآلة، ببساطة، لأن الذكاء الاصطناعي بدأ فكرة في المخيلة، في مخيلة العالِم. ولا أراه تهديداً، لأن مجاله مختلف، قد يستمر كإضافة، ربما، لكن لا أرى أنه قد يقتل المؤلف. في الحقيقة، ما يقتل المؤلف أشياء ثانوية ربما تدور في فضاء الذكاء الاصطناعي. ربما ما يقتل المؤلف، هو ضعف الحس، هو جفاف العيش، الافتقار إلى المخيلة، برود العلاقات. كلها أشياء أحدثها نمط العيش الراهن، وهي تفتك بالروح، وتتحول إلى أمر قد يضرب الأدب، ويجعله استهلاكياً. التغيير الذي يصيب نمط الحياة ينعكس على الأدب. لكن ليس بالضرورة أن يكون سلباً أو إيجاباً».

طقس انبعاث

الكاتب العماني أحمد بن ناصر يستهل رأيه بهذا التساؤل: كم عمر الكتابة في مقابل عمر الذكاء الاصطناعي؟ ويقول: «أزعم أن القارئ من خلال تساؤلي هذا وجد لمحة من إجابتي على سؤالك الرئيسي. وإذا كان سؤالك يخص الكاتب فإني دعوت القارئ إليه مباشرة ذلك أن جوهر الكتابة لا يتحقق إلا بوجوده. فالكاتب يكتب على أمل أن يجد قارئًا يعطي لكتابه شيئاً من الخلود بتعريف ألبرتو مانغويل عندما قال: «كل قارئ يوجد كي يضمن لكتابٍ معين قدرًا متواضعًا من الخلود، القراءة، بهذا المفهوم، هي طقس انبعاث». وبما أننا نتحدث عما هو صناعي، فدعني أعيد صياغة عبارتي السابقة، ذلك أن أقول: الكاتب «الحقيقي» يكتب على أمل أن يجد قارئًا «حقيقيًا»، وهذا هو رهاني على نفسي ككاتب وعلى القارئ».

ويضيف: «لا أُنكر أن ما يقوم به ما سُمِّي بالذكاء الاصطناعي يجعلني أحيانًا مندهشاً بشيء من الريبة، لكني دائمًا أعود وأقول إن الإنسان هو مُدبره، أي أن ذكاءه من المنبع الأصل للذكاء: الإنسان، لأن كل ما دون الإنسان لا يمتلك ذكاءً ولادًا وإنما تقوم مقامه الغريزة أو الفطرة في الكائنات الحية أو البرمجة في صدد ما نحن نناقشه. بل إني أعتقد أن مَن يقوم وراء هذا الذكاء الاصطناعي بأيديولوجياته السياسية والعسكرية وحتى الدينية لم يختاروا مفردة «الذكاء» اعتباطًا بل هي مقصودة تمامًا في مسلسل مستمر لزحزحة وتهميش الإنسان الفرد عن أدواره في هذا الكون».

أحمد بن ناصر لا يشعر أن أدوات الذكاء الاصطناعي تهدد دوره ككاتب. ذلك أن هذا الدور الذي بدأه الإنسان الأول عندما خطَّ أول خطٍّ على جدار كهفه ليخبرنا قصةً لا يزال قائمًا من خلال الكُتَّاب الحقيقيين. يعلق أخيراً: «ربما يستطيع الذكاء الاصطناعي أن يزيد من وتيرة تأليف الكتب بسهولة مجانية خالقًا مجتمعًا جديدًا من الكُتَّاب والقراء لا يمكنني أن أطلق عليه حكمًا الآن وستكشف لنا الأيام ذلك لاحقًا. لكني أتذكر أنه قبل أكثر من ربع قرن كتب الشاعر أوكتافيو باث إهداءً على أحد دواوينه «إلى الأقلية الهائلة» في إشارة إلى قلة من يقرأون الشعر. إذا نجح الذكاء الاصطناعي في مزاحمة الكاتب الحقيقي -وأشك في ذلك- فإني سأتذكر هذا الإهداء الذي سيرمز يومها إلى الكاتب الحقيقي والقارئ الحقيقي».

ثورة الآلات

الكاتبة السعودية نجوى العتيبي منذ أن قرأتْ عن تجربة الكاتبة اليابانية ري كودان في استعمال الذكاء الاصطناعي لكتابة روايتها «برج التعاطف طوكيو»؛ وقد نالت بها الجائزة الأهم في اليابان، وهي تفكر في هذا السؤال تحديداً، وعما سيفوتها لو تخلفتْ عن إتقان الكتابة من خلال الاستعانة بالذكاء الاصطناعي. وتقول: «لم تُثر اهتمامي ثورة هذا الذكاء حين أُطلِق، ولا تسابُق الكُتاب في صفوف (أول من استعمل) و(أول من كتب) عبره حين أُتيح للجميع؛ ذلك أن لغز المخيلة ما زال مجهولاً، ومُحالٌ أن تدركه الآلة إلا إذا أدركه البشر؛ الأمر الذي أثار اهتمامي أيضاً حين توقفَ استقبالُ أحد مجلات الخيال العلمي في أمريكا للنصوص، نظراً للمشاركات الهائلة التي استُعمِل فيها الذكاء الاصطناعي، مما يجعل استبدال الكاتب (الحقيقي) صعباً، وإلا لما اتضح الفرق بين المستوى العام للنصوص إلى حد حجب المشاركات. أما الأدوات فيمكن استعمالها دون تهديد لدور الكاتب، على أن جودة العمل الأدبي يكمن في عيش مراحله كاملة كالنبتة، فمحال أيضاً أن تتطابق النبتة الحية والاصطناعية!، وعليه؛ فإن الكاتب يعيش مع عمله مرحلة مرحلة حتى يصطبغ بروحه؛ الأمر الذي سيتخلل القارئ حتما ليتعرفَ على جملة كاتِبِهِ وكيف يقول وبمَ يعبر، ولا أظن الآلة قادرة على إمتاع القارئ بالبصمة الفريدة للأسلوب.

وتضيف: «ولعلي إن جربتُ الأمر فسأكتب عن الأمرين معاً؛ الاستعانة بروح الكاتبة التي تسكنني محاولة فهم ما تودهُ، وعن الاستعانة بالآلة، وما الفرق بين التجربتين، لكن الكتابة الذكية عموماً ينقصها الكثير حتى تُهدد حرفة الكتابة بالمطلق، ولا أظن بحتمية الركون إلى الآلة -كما يُشاع ونُخوَّفُ به!- في الأدب والبحث والتسويق والتصحيح والمراجعة والتدقيق والترجمة وغيرها من خصائص المهنة مهما تطورت الأدوات. لكن طرح السؤال بشكل متكرر وبإلحاح هو ما يستدعي القلق.

مواضيع معقَّدة

ويقول الشاعر العماني سامي المعمري: «بدايةً علينا أن نعلم بأنَّ الذكاء الاصطناعي يفتقر إلى الإبداع الحقيقي والتجربة الشخصية المتأصلة في عُمق الكاتب البشري، لذلك فأدوات الذكاء الاصطناعي قد ينتج عنها محتوى غير دقيق خاصة في المواضيع المُعقدة والتي تتطلب فهماً ثقافياً أو عاطفياً عميقاً».

وبرغم ذلك فإن سامي يرى أن أدوات الذكاء الاصطناعي قد تُسهم في تعزيز الكاتب لإنتاجه، بحيث تكون لديه إمكانية توليد أفكار جديدة وبناء أساليب فنية أكثر إتقاناً وتحسين النصوص، وهذه بكل تأكيد أمور يسعى لها الكاتب دائماً.

ويختم قائلاً: «خلاصة القول: أدوات الذكاء الاصطناعي لا تُشكل تهديداً مُباشراً للكاتب، إنما هي وُجدت لتعزيز إنتاجيته وتجديد أساليبهِ الفنية وتحسين نصوصهِ لتبدو للمُتلقي أكثر كفاءة عن ذي قبل».

سؤال محيِّر

الكاتب العماني خالد المعمري يسرد قصة جرت له مع الذكاء الاصطناعي. يقول: «أرسل لي أحد الأصدقاء قصيدة شعرية موزونة ومقفاة، وقال لي هذه القصيدة كُتِبت بواسطة «الشات جي بي تي» للوهلة الأولى كانت الصدمة كبيرة في اختراق عالم الأوزان والقوافي عن طريق الكتابة الإلكترونية التي قدّمت لنا نصاً شعرياً إبداعياً. بالطبع لم تكن القصيدة -في نظري- قوية في معانيها، كذلك لم تكن مترابطة في الأسلوب على الرغم من التزامها بالوزن والقافية».

قفزت الأسئلة إلى ذهن خالد: «هل سيأخذ الذكاء الاصطناعي القارئ إلى عالمه، وهل سنتخلى عن الشعراء كأسماء معروفة؟ ولمَنْ سنقيم أمسياتنا الشعرية في المستقبل؟ وبطريقة أخرى لمن ستنسب القصائد المكتوبة بواسطة هذه البرامج؟».

يعلق: «مثل هذه الأسئلة في فلسفة طرحها تجعلنا نعيد التأمل والتفكير في العوالم المتضادة، فمثلما قيل سابقاً عن زمنية الأجناس الأدبية في هذا العصر أو ما قيل عن الصراع بين الكتاب الورقي والكتاب الإلكتروني مثلاً، وما يقال حالياً عن الكتابة بهذه الكيفية يجعلنا نتأمل موضوع الكتابة الإبداعية عن طريق المشاعر والأحاسيس وهي ما يقرؤها القارئ متأملاً الدفقة الشعورية لدى الكاتب. قد يكون النص شعرياً في أساسه وهو نتاج التكنولوجيا الحديثة ولكنني أؤمن أن هذا النص مرتبط بعالم تقني لا يمكن أن يكون بذات الثورة الانفعالية للشاعر الإنسان. عن نفسي أعيش هذا الدور لحظة القراءة، وأتأمل انفعالات الكاتب في كل مفردة في النص. وأحسُّ به داخل النص. ومع كل ذلك، فالذكاء الاصطناعي يقوم بأدواره التقنية في عالم كتابي ثائر، فيمكن أن نجد نصوصاً ناتجة عنه أكثر تطوراً، لكننا لا يمكن أن نجزم أنه يمكن الاستغناء عن الكاتب في عملية الكتابة؛ إذ إن للمؤلف البشري خصوصية في التناول والتعبير لا يمكن أن نجدها عند غيره».

يؤمن خالد بالتطور الحاصل في عملية الكتابة، كما يؤمن أننا نعيش طفرة تكنولوجية في عالمنا الواسع لكنه لا يؤمن بالحس الكتابي المنفتح على هذه البرامج، ويقول: «إنها نصوص تقليدية استقاها النظام الإلكتروني من نصوص سابقة، وتلقَّى المعلومات التي يُراد الكتابة عنها فبنى نصه تركيبياً بناء على نص سابق، هذا ما أفسِّره، أما الشاعر/ الكاتب فيتطور النص لديه بالرؤية المتجددة للعالم، إنه يقود البرامج وهي تسير وراءه، ويبقى له الميدان الشعري واسعاً يسير فيه بلا شريك».

حسن عبدالموجود صحفي وقاص مصري

مقالات مشابهة

  • خبراء يحذِّرون: الذكاء الاصطناعي يجعل البشر أغبياء
  • قمة أبوظبي «الثقافية» تستكشف تأثير الذكاء الاصطناعي على الإبداع
  • رئيس الدولة يستقبل الداعمين والشركاء في مبادرة “صندوق البدايات” التي أطلقتها مؤسسة محمد بن زايد للأثر الإنساني
  • رئيس الدولة يستقبل الداعمين والشركاء في مبادرة «صندوق البدايات» التي أطلقتها مؤسسة محمد بن زايد للأثر الإنساني
  • افتتاحية - معارض الكتب.. أعراس الوعي الإنساني
  • كِتابة جِنيّ المصباح تجارب روائية ولَّدها الذكاء الاصطناعي
  • كتَّاب عرب: لن نترك الذكاء الاصطناعي يأخذ مكاننا!
  • هذه أبرز وظائف المستقبل التي تنبأ بها الذكاء الاصطناعي
  • كيف خسرت آبل عرش الذكاء الاصطناعي لصالح ميتا؟
  • عسكرة الذكاء الاصطناعي .. كيف تتحول التكنولوجيا إلى أداة قتل عمياء؟