مع كل نشرة أخبار — أصبحت مقاومة الحرب تبدأ بزرّ “كتم الصوت”. لم نعد بحاجة إلى جيوشٍ ولا خنادق، فالمعارك الآن تُخاض على الريموت كنترول، والهزيمة تُقاس بعدد مرات المشاهدة.
نحن جيلٌ يتصفّح الجحيم بين الإعلانات، ويستلهم ضميره من فواصل درامية مدفوعة.

لم نعد بحاجة إلى السلاح أو الجنود لنخوض الحروب، بل أصبحت المعركة تُخاض اليوم عبر شاشات التلفزيون، حيث تَتَحَكَّم التقارير الإخبارية في مصائرنا أكثر من أي معركة حقيقية.

أصبحنا نعيش في عصرٍ يتخلله مشهد العنف والتدمير الذي يُعرض بين فواصل الإعلانات، في وقتٍ أصبح فيه الموت مجرد حدث يومي تُبث تفاصيله دون توقّف، وكأنما نحن جزء من مسرحيةٍ درامية لا تنتهي.

في هذا العصر، ماذا يعني أن تقاطع نشرة الأخبار؟ ببساطة، يعني أنك ترفض الانغماس في الحقيقة التي تُصاغ وفقًا لاحتياجات السلطة، وتصر على عدم أن تكون جزءًا من السرديات التي تُستخدم لإعادة تشكيل الواقع وفقًا لمصالح القوى المسيطرة.

إن مقاطعة الأخبار التي تُروّج لحكايات الصراع لا تعني إنكار الواقع، بل هي محاولة واعية لتحرير الوعي من عبودية الدعاية التي تُخفي وراءها مآسي الإنسان وتُهمّش معاناته. هذا الفعل لا يُعدّ هروبًا من الواقع، بل هو نوع من العصيان المدني الهادئ، الذي يهدف إلى كسر دائرة الرأي العام المُستعبَدة بتكرار صور العنف والدمار. غير أن هذا التأمّل لا يأتي من فراغ، بل ينبثق من وعيٍ جمعيّ تحاول المؤسسات الإعلامية الموجّهة أن تُجهضه يوميًا.

الإعلام هنا لم يعد ناقلًا للواقع، بل مُهندسًا له، خادمًا مطيعًا في بلاط السلطات العسكرية والمليشياوية، لا ينقل الأخبار بقدر ما يُعيد تشكيل الإدراك العام، وفق خطة متقنة لغسيل الدماغ الجمعي. وكأنّ من يدير هذه الماكينة الإعلامية قد قرأ بتمعّن أطروحة نعوم تشومسكي عن “تصنيع القبول”، ثم أساء استخدامها على نحو تراجيدي.

أما أولئك “الخبراء الاستراتيجيون” الذين يُستدعون كل مساء لتحليل “الموقف الميداني”، فهم في الحقيقة تجسيدٌ حيٌّ لعبثية نخبةٍ شاخت دون أن تعي، وتكلّست دون أن تتقاعد.

خبراء بلا حس، لا يُحسّون بكهولتهم، لكنهم مصرّون على أداء دور الرُسل الزائفين الذين يحملون رسائل الخراب، وكأنهم يسعون إلى تحويل معاناة الناس إلى لوغاريتمات عسكرية. أولئك الذين يمتلكون القدرة على التفسير، لا على الفعل، يُكرّسون خطابًا يُحيل المعاناة اليومية إلى مجرد معادلات انتصار أو خسارة، كأنّ حياة البشر أصبحت نردًا مسعورًا في يد نخبة مستبدّة.

وهم لا يطلبون منّا شيئًا أقلّ من المشاركة في هذه الحرب الرمزية. بل يطلبون منّا أن نكون جنودًا في جيش التأويل، حتى لو كنّا على بُعد آلاف الأميال. يُطالبوننا بأن نحمل بنادق وهمية من وراء الشاشات، ونقف صفًّا في معركة لا تُشبهنا، ضد عدوٍّ لم نُحدّده نحن، ولصالح سلطةٍ لم نخترها.

إنهم لا يطلبون تأييدًا، بل ولاءً أعمى، يجعل من صمتنا جريمة، ومن أسئلتنا خيانة، ومن تعاطفنا مع الضحية دليلًا على الانحياز غير المقبول.
ولأجل ذلك، تُستخدم أدوات السادية الإعلامية دون وجل: مقاطع الفيديو التي تُوثّق الذبح، والتنكيل، وحرق الناس و هم احياء، لا تُعرَض من أجل إيقاظ الضمير، بل من أجل تخديره. لا لشيء إلا للتطبيع مع الموت، والتعوّد على القبح، وفقدان القدرة الأخلاقية على الارتجاف من الألم الإنساني.

إنها أدوات غسيل دماغ ممنهج، تُراد لنا بها أن نُطبّع مع الرعب، أن نصبح شهودًا متواطئين في مسرحية دموية لا تنتهي. وكما يقول هربرت ماركوز: “الحرية التي تُمارَس في ظل هيمنة الصور الموجّهة ليست حرية، بل امتداد لنظام القمع في شكل جديد”. بل إنهم يُحفّزوننا — بإلحاح عاطفي ولغة مشحونة — أن نكون جزءًا من المعركة، حتى لو على البعد.

إنهم لا يريدون فقط أن نتابع أخبارهم، بل أن نتبنّى رؤيتهم للعالم، أن نحمل أعلامهم، ونغنّي أهازيجهم، ونلعن من يرفض هذا الانتماء القسري. إنهم، ببساطة، لا يطلبون وعينا، بل استلابه.

وعلى صعيد آخر، فإنّ هذه المقاطعة تُعيد إلى الجمهور السيطرة على المعلومات التي يتلقّاها، فتفتح المجال للتفكير النقدي وإعادة قراءة الأحداث من منظورٍ مختلف، بعيدًا عن التأطير الرسمي الذي يخدم مصالح الأطراف المتصارعة. إنها دعوة لإعادة صياغة رواية الحرب بحيث لا تبقى مجرد أرقام وإحصاءات تُبثّها محطات الأخبار، بل تتحوّل إلى قصة إنسانية تُبرز آلام الضحايا وتدعو إلى السلام والحوار.

إنّ في وجه هذا القمع الإعلامي والجماهيري، قد يكون صمت الفرد المقاوم، وامتناعه عن الاشتراك في ولائم الصور، أقرب إلى فعلٍ ثوريّ من ألف هتاف. كما قال محجوب شريف: “أخوي في الركن ساكت، ساكت… لكن الكلام فوقو بليغ”، فحتى السكوت يمكن أن يحمل صرخة كاملة حين يُصبح الوعي متيقظًا.

وفي ظل هذا الجنون الجماعي، تبدو كلمات الخاتم عدلان عن “الاستقلال الثاني للوعي” مُلحّة أكثر من أي وقت مضى. فمقاطعة الأخبار هنا ليست انسحابًا سلبيًا، بل بداية لانعتاق داخلي من منظومة إعلامية تُحوّل الإنسان إلى خلية ضمن معادلة ربح وخسارة. هو مقاومة ضد عقلية الحرب، وضد نظام يُعيد إنتاج الدمار باسم الواقعية السياسية.

في النهاية، تُعدّ مقاطعة أخبار الحرب في السودان فعل مقاومة، ليس فقط ضد محتوى الإعلام القمعي، بل ضد النظام الذي يُفضي إلى تكرار مآسي الماضي. هو تحدٍّ يُعبّر عن إرادة الشعوب في تحرير نفسها من دوّامة الدمار والإعلام المستعبِد، ورغبة في بناء مستقبل يُستمدّ من قيم الإنسانية والتضامن، بعيدًا عن أي محاولة لتزييف الحقيقة أو استغلال الألم لتحقيق مكاسب سياسية.

بهذا الصمت الثوري، يمكن أن يُكتب فصلٌ جديد في تاريخ المقاومة، فصلٌ تُعيد فيه الشعوب تعريف مصيرها بيدها، دون أن تُسكنها شاشات الحرب التي لا تُظهر سوى عَدائِها المستمر لكل مظاهر الحياة.

zoolsaay@yahoo.com

   

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: الذی ی التی ت

إقرأ أيضاً:

"الأونكتاد": استخدام التعريفات الجمركية كأداة للضغط السياسي ستكون له عواقب وخيمة

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

قالت  لوز ماريا دي لا مورا، مديرة قسم التجارة الدولية في وكالة الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "الأونكتاد"، إن التعريفات الجمركية ليست بالضرورة مشكلة في حد ذاتها، ولكن المشكلة تكمن في عدم اليقين الذي تخلقه عندما يتم استخدامها بشكل غير متسق مع قواعد التجارة الدولية.

وأشارت إلى أن التعريفات الجمركية يمكن أن تكون أداة مفيدة لحماية الصناعات المحلية في الدول النامية، ولكن يجب استخدامها بحذر لتجنب الإضرار بالمستهلكين والاقتصاد ككل. وأضافت أن الدول النامية هي الأكثر عرضة للتضرر من تباطؤ التجارة العالمية، حيث تعتمد 95 دولة نامية على صادراتها.

وأوضحت دي لا مورا أن التعريفات الجمركية، التي تعرفها الأمم المتحدة بأنها "رسوم جمركية على واردات البضائع، تُفرض إما كنسبة مئوية من القيمة أو على أساس محدد"، يمكن استخدامها لتحقيق أهداف مختلفة، مثل حماية الصناعات المحلية وزيادة الإيرادات الحكومية.

البلدان المتقدمة غالبا ما تستخدم التعريفات الجمركية كجزء من سياسات اقتصادية أوسع تهدف إلى حماية صناعات معينة أو الاستجابة لديناميات التجارة الدولية.

في المقابل، قد تستخدم البلدان النامية التعريفات الجمركية على نطاق أوسع لحماية الصناعات الناشئة ودعم التنمية الاقتصادية. وعن ذلك تقول  دي لا مورا: "تميل البلدان النامية عادة إلى وجود مستويات حماية أعلى، وهناك عدة أسباب. أحدها هو أنك قد ترغب في تطوير صناعة معينة في قطاع السيارات أو الكيماويات. إحدى طرق مساعدة الصناعة على التطور والنمو هي حمايتها، من خلال التعريفات الجمركية، من المنافسة الأجنبية. الجانب السلبي هو أن إنتاج تلك السلع للسوق المحلية أكثر تكلفة، وقد تثبط المنافسة أيضا".

واستشهدت دي لا مورا باتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) - بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك - كمثال على التأثير المختلط للتعريفات الجمركية. 

وقالت إن نافتا، التي كانت أول اتفاقية تجارة حرة بين البلدان النامية والمتقدمة، أدت إلى إلغاء جميع التعريفات الجمركية تقريبا بين الدول الثلاث، مما ساهم في تحول الاقتصاد المكسيكي وخلق فرص عمل جديدة.

وتتابع دي لا مورا قائلة: "في المكسيك، على سبيل المثال، كان هناك الكثير من برامج الدعم في القطاع الزراعي، لمساعدة المنتجين على مواجهة المنافسة من الولايات المتحدة ومن كندا. كما بدأوا في إنتاج المزيد في قطاع الفاكهة والخضروات، الذي لم يكن موجودا بشكل أساسي في المكسيك من قبل، واليوم أصبحت البلاد المصدر الأول للطماطم والأفوكادو والتوت وبعض المنتجات الطازجة الأخرى إلى الولايات المتحدة. وقد ساعد ذلك المستهلك الأمريكي على اتباع نظام غذائي أكثر توازنا وصحة. وفي المقابل، تستفيد المكسيك من سهولة الوصول إلى الحبوب والقمح والذرة والذرة الرفيعة وأيضا بعض أنواع لحوم البقر والخنزير والدواجن".

ومع ذلك، أشارت دي لا مورا إلى أن نافتا أدت أيضا إلى خسارة بعض الوظائف في قطاعات معينة، وأكدت على أهمية وجود سياسات تجارية تسير جنبا إلى جنب مع سياسات تضمن تدريب العمال الذين يخسرون وظائفهم.

ودعت دي لا مورا الدول إلى الالتزام بقواعد التجارة الدولية، والتعاون من خلال منظمة التجارة العالمية لحل النزاعات التجارية. وحذرت من أن استمرار استخدام التعريفات الجمركية كأداة للضغط السياسي ستكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد العالمي.

وأكدت على أهمية التعددية في النظام التجاري الدولي، وقالت إن الدول النامية تحتاج إلى نظام تجاري دولي فعال، يوفر اليقين، ذي لوائح واضحة وحيث لا يتم تغيير القواعد دون إشعار، دون مفاوضات، دون أي تحذير مسبق لما هو قادم.

التعريفات الجمركية باختصار:

تعرف الأمم المتحدة التعريفات الجمركية بأنها "رسوم جمركية على واردات البضائع، تُفرض إما كنسبة مئوية من القيمة أو على أساس محدد (مثل 7 دولارات لكل 100 كيلوجرام)".

يمكن استخدام التعريفات الجمركية لخلق ميزة سعرية للسلع المماثلة المنتجة محليا ولزيادة الإيرادات الحكومية.

مقالات مشابهة

  • "الأونكتاد": استخدام التعريفات الجمركية كأداة للضغط السياسي ستكون له عواقب وخيمة
  • الذهب والفضة ينخفضان مع تصاعد الحرب التجارية التي أعلنها ترامب
  • مديرية الإعلام في حلب لـ سانا: معظم ما يصدر من إشاعات على هذا الاتفاق، مصدره قوى وجهات تريد تعكير الأجواء السياسية، وهي متضررة من حالة الاستقرار التي يهدف إلى تحقيقها هذا الاتفاق
  • مديرية الإعلام في حلب لـ سانا: لا صحة للأنباء التي تتحدث عن توقف عملية تبادل الموقوفين بين مديرية الأمن بحلب وقوات سوريا الديمقراطية.
  • التحالف المدني الديمقراطي لـقوى الثورة – صمود ينفي اتفاقه مع الإدارة الامريكية على خطط لتوطين الفلسطينين فى السودان
  • مديرية الإعلام في حلب تبحث سبل تذليل الصعوبات والتحديات التي تواجه الإعلاميين
  • الكشف عن الدولة العربية التي قدمت دعما لحملة القصف على اليمن
  • مسؤولون أمريكيون: العملية العسكرية ضد الحوثيين تستمر 6 أشهر وتكلفة الضربات تجاوزت المليار دولار
  • الحرب العالمية التجارية التي أعلنها ترمب لا تخصنا في الوقت الراهن