«العلاقات الدولية» مفهوم ملتبس!
تاريخ النشر: 5th, April 2025 GMT
لم يعد مفهوم العلاقات الدولية كما هو قائم في قواميس العلوم السياسية على صورته التبسيطية لمفهوم الدولة الحديثة، ففي ظل التحولات المتسارعة في عالم اليوم أصبح هذا التعريف من الماضي، كون أي مفهوم يستمد حقيقته المعرفية من كونه تعبيرا عن البيئة الثقافية التي يُسْتَخُرَج منها، وبذا فإن القول باستقرار أي مفهوم علمي يعد تزييفا لوظيفة العلم ذاته، والحقيقة أن مفهوم الدولة الحديثة ذاته ظهر في القرن الثالث عشر؛ كتعبير عن تطور أقدم في سياق الحضارة الغربية فأول من استخدم تعبير «الدولة الحديثة» هو الإيطالي ميكيافيلي (1469م - 1527م) في كتابه الأشهر «الأمير» ولعل في ذلك ما يشير إلى طبيعة المفهوم كونه يعود إلى تحولات في الظاهرة السياسية الغربية، ثم جاء بعده مُنْظِر الجمهورية الفرنسية جان بودان (1530 - 1596م) وهو ممن قد شهدوا التحولات الكبرى في الجمهورية (الحروب الدينية) وشغل منصبا هاما في الدولة «مستشار هنري الرابع»، ويتطور مفهوم الدولة الحديثة في السياق الغربي إذ انتقلت من دور الرعاية والهيمنة إلى اعتبارها كيانا وظيفيا أي أنها خاضعة وباستمرار للتحولات في البنى الرئيسية التي تعبر عنها وتنشط فيها، وتخبرنا المراجع أيضا بأن العلاقات الدولية هي مجموعة من الروابط والعلاقات والاتصالات التي تنشأ بين الدول وتقع ضمن نطاق سياستها الخارجية.
وحول مفهوم العلاقات الدولية فإنه جرت وتجري تحولات كبرى في الفضاء السياسي العالمي دفعت بإعادة النظر في مفهوم الدولة ووظائفها، ولعل أشهر منظري هذا الاتجاه هو أستاذ القانون في جامعة تولوز بفرنسا جان كلود زاركا، الذي استطاع عبر مؤلفاته القيمة أن يعيد بل لنقل أن يُغَّير من فهمنا لطبيعة «العلاقات الدولية» من كونها علاقات تنشأ في حيز النشاط الدولة ومؤسساتها إلى حيز التفاعل الاجتماعي، ولزاركا مؤلفات قيمة في هذا الجانب ونشير هنا إلى كتابه «العلاقات الدولية» بالفرنسية Relations Internationales وقد صدرت الطبعة الثامنة من كتابه في يوليو من العام 2023م عن دار Ellipses وتقع أهمية هذا الكتاب في أنه يذهب أبعد من المفهوم الكلاسيكي للدولة وعلاقاتها الخارجية ويضع يده على التحولات في المفاهيم السياسية الحديثة، ويجيب عن جملة أسئلة منها: ما المفاهيم الرئيسية للعلاقات الدولية؟ - ما هي خصائص عالم ما بعد الحرب الباردة؟ وقد درس زاركا وبشغف كبير أربع فترات اعتبرها مفصلية في تحول مفهوم الدول ووظائفها داخليا وخارجيا وهي: «الحرب الباردة (1947-1962)، وما يسميه الانفراج (1962-1979)، ثم الحرب الباردة (1979-1985)، بالإضافة إلى عصر جورباتشوف ونهاية العالم ثنائي القطب (1985م) لينتهي بتقديم تعريف جديد لهذا المفهوم وعنده فإن العلاقات الدولية هي: «مجموعة العلاقات والاتصالات التي يمكن إقامتها بين المجموعات الاجتماعية والتي تتجاوز الحدود». ويهتدي في عمله المهم هذا بتتبع تحليلي دقيق لتطور العلاقات الدولية منذ العام 1945م، وكيفية تعانق المبادئ السياسية والقانونية التي تحكم العلاقات الدولية، كما يفسر طبيعة الجهات الفاعلة في العلاقات الدولية ومنجزاتها في القضايا الدولية الرئيسية. وفي هذا الكتاب يناقش بصورة أكثر توسعا تاريخ المبادئ السياسية والقانونية لمفهوم العلاقات الدولية ثم ينعطف إلى نشأتها داخل ميثاق الأمم المتحدة، ويشير في هذا الصدد إلى ضرورة التمييز بين المبادئ السياسية والقانونية قبل وبعد العام 1945م، ومن الخلاصات تمييزه للقوى العالمية الفاعلة وهي «الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين واليابان» كأربعة أقطاب رئيسية، وكيف أن العالم بات متعدد الأقطاب وليس كما يشاع بأننا نعيش عصر القطبية الواحدة، ويستشهد زاركا بمقولة هنري كيسنجر بأنه «لا توجد دولة، لا الصين ولا الولايات المتحدة، في وضع يسمح لها بتولي دور القيادة العالمية بمفردها مثل الدور الذي لعبته الولايات المتحدة في فترة ما بعد_ الحرب الباردة مباشرة، عندما كانت متفوقة ماديا ونفسيا». ويعضد نبوءة كيسنجر والتي أودعها كتابه «النظام العالمي»، بأن واشنطن وبكين سوف تكونان «ركيزتين أساسيتين للنظام العالمي الجديد».
إن النظر في مثل كتاب أو دليل زاركا مهم وضروري لكل الفاعلين السياسيين، وبالأخص في العالم العربي، فلا زال العقل السياسي العربي يعيش حالات متأخرة من الوعي، وهذا بائنٌ جدا فيما نراه من استسلام مفرط لمفاهيم سياسية باتت فاقدة للأهلية، ولعل مفهوم العلاقات الدولية هو إحدى المسائل التي لا زالت تُركب صراعات بين دولنا العربية والعالم والسبب لا يعود فقط إلى اختلاف وجهات النظر لدى السُّلَط الحاكمة بقدر ما هو تعبير عن غياب المعرفي فينا، فإننا لا نستهلك فقط المنتجات الغذائية الغربية بل كذلك المفاهيم ولكنه استهلاك غير إيجابي فالذي نملك يتغذى وبصورة مستمرة على مفاهيم لا تاريخية، والحقيقة أنه وفي عالم اليوم لا يمكن ممارسة السياسة بغير ترسانة معرفية تستند في الأساس على الوعي الاجتماعي كمحرك للفاعلية السياسية، ولذا نقول إننا في العالم العربي لا زلنا مستهلكين لمفاهيم تعج بها الصحف والتقارير الإخبارية ودساتير الدول دون أن نلقي نظرة على السياق الذي تعيش فيه هذه المفاهيم، ومنها المفهوم الأم «الدولة» وهذه واحدة من المتاعب الكبرى للعقل العربي.
غسان علي عثمان كاتب سوداني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الدولة الحدیثة الحرب الباردة مفهوم الدولة مفهوم الدول
إقرأ أيضاً:
القومي لحقوق الإنسان: العفو الرئاسي يتسق مع فلسفة العقاب الحديثة
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
أعربت السفيرة مشيرة خطاب، رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان، عن ترحيب المجلس وتقديره العميق للقرار الجمهوري الصادر عن الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالعفو عن باقي مدة العقوبة لـ "746" من المحكوم عليهم الذين استوفوا شروط العفو، وذلك بمناسبة الاحتفال بالذكرى المجيدة لعيد تحرير سيناء لعام 2025.
وأكدت السفيرة خطاب أن هذه الخطوة الإيجابية تأتي في توقيت يحمل دلالات وطنية عميقة، لترسخ قيم التسامح والرحمة وتمنح فرصة جديدة للمفرج عنهم للعودة إلى حياتهم الطبيعية وأسرهم.
قرارات العفو الرئاسي
وأشادت رئيسة المجلس القومي لحقوق الإنسان باللفتة الإنسانية للرئيس، معتبرةً أن قرارات العفو الرئاسي المتتالية في المناسبات الوطنية والدينية تمثل ركيزة أساسية في منظومة حقوق الإنسان التي تسعى مصر لتعزيزها.
وأضافت أن هذه القرارات لا تقتصر أهميتها على المفرج عنهم وذويهم ولم شمل الأسر، بل تمتد لتعكس تطبيقاً عملياً لفلسفة السياسة العقابية الحديثة التي ترتكز على الإصلاح والتأهيل وإعادة الإدماج في المجتمع، وهو ما يتماشى مع المعايير الدولية لحقوق الإنسان.
السفيرة مشيرة خطاب
وأكدت السفيرة خطاب أن المجلس القومي لحقوق الإنسان يثمن الجهود التي تبذلها الدولة، ممثلة في وزارة الداخلية وقطاع الحماية المجتمعية، في فحص ملفات النزلاء بدقة لضمان تطبيق معايير العفو على المستحقين، وتنفيذ الدور التنفيذي لأساليب الإفراج عن المحكوم عليهم الذين أثبتوا حسن السير والسلوك وتم تأهيلهم للانخراط مجدداً في المجتمع كأفراد صالحين ومنتجين، مما يساهم في تحقيق الأمن المجتمعي بمعناه الشامل.
تعزيز ملف حقوق الإنسان في مصر
وفي هذا السياق، أشادت السفيرة خطاب بالدور المحوري الذي يلعبه الرئيس عبد الفتاح السيسي في دعم وتعزيز ملف حقوق الإنسان في مصر، وحرصه المستمر على اتخاذ خطوات جادة تترجم هذا الاهتمام إلى واقع ملموس.
إطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان
وأضافت أن قرارات العفو، إلى جانب المبادرات الأخرى كإطلاق الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان والحوار الوطني، تعد شواهد قوية على الإرادة السياسية للمضي قدماً في مسار ترسيخ الحقوق والحريات الأساسية لجميع المواطنين.
العفو الرئاسي
وجدد المجلس القومي لحقوق الإنسان، على لسان رئيسته، مطالبته ودعوته إلى استمرار هذا النهج الإيجابي، والتوسع في إصدار قرارات العفو الرئاسي لتشمل أعداداً أكبر من النزلاء الذين تنطبق عليهم الشروط، والنظر في حالات المحكوم عليهم في قضايا الرأي والتعبير، والحالات الإنسانية، وكبار السن والمرضى، بما يتسق مع الدستور والقانون والمواثيق الدولية، ويعزز الثقة في مسار الإصلاح والتنمية الذي تنتهجه الدولة.
المجلس القومي لحقوق الإنسان سيواصل دوره في متابعة أوضاع حقوق الإنسان
واختتمت السفيرة مشيرة خطاب تصريحها بالتأكيد على أن المجلس القومي لحقوق الإنسان سيواصل دوره في متابعة أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وتقديم الدعم والمشورة اللازمين لتعزيز كافة الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، معربة عن أملها في أن تكون هذه المناسبة الوطنية فرصة لمزيد من التقدم في هذا المجال الهام، وأن ينعم جميع المفرج عنهم بحياة كريمة ومستقرة بين أهلهم وذويهم.