لماذا تشتري «ميتا» البقرة إذا كان الحليب مجانًا!
تاريخ النشر: 5th, April 2025 GMT
هل يمكن اعتبار كل ما نُشِرَ على الإنترنت مُتاحًا تلقائيًا للاستخدام؟ وهل من العدل أن تُستخدم مؤلفات الكُتّاب والأدباء والباحثين لتدريب أنظمة ذكاء اصطناعي سيكون شغلها الشاغل بعد ذلك إنتاج بدائل لهؤلاء؟! هذان السؤالان الجوهريان هما لُبّ الاحتجاج الذي أطلقه يوم الخميس الماضي نحو مائة مؤلف بريطاني أمام المقر الرئيسي لشركة «ميتا» في لندن، رافعين لافتات ومرددين هتافات تتهم الشركة الأم لوسائل التواصل الاجتماعي فيسبوك وأنستجرام وواتساب بسرقة كتبهم لاستخدامها في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي، في مشهد يعيد إلى الواجهة سؤالًا قديمًا بصيغة جديدة: لمن تعود المعرفة في زمن الذكاء الاصطناعي؟
ولعلّ متعطشًا لهذه المعرفة لن يتعاطف كثيرًا مع هذه الاحتجاجات، وسيرى أنها تنطوي على أنانية من هؤلاء المؤلفين، فما الضير أن تنتشر المعارف والعلوم في العالم وتكون متاحةً للفقير قبل الغنيّ؟!، خاصة إذا ما علمنا أن مكتبة «LibGen» الإلكترونية التي أطلقتها «ميتا» هي قاعدة بيانات ضخمة تتضمن أكثر من 7 ملايين كتاب ومقالة علمية، وتتيح الوصول المجاني إليها عبر الإنترنت.
هذا المعنى الذي ذكره ويست كانت قد سبقته إليه الروائية الكندية مارجريت أتوود في مقال لها نُشِرَ في مجلة «أتلانتك» في أغسطس 2023 شنّت فيه هجومًا ساخرًا على شركات الذكاء الاصطناعي التي استخدمت نسخًا مقرصنة من كتبها - وعددها 33 - لتدريب نماذج لغوية قادرة على محاكاة أسلوبها، مشبهة الأمر بالضغط على ماكينة لاستخراج آيس كريم!، ذلك أن النصّ الذي تُخرجه هذه الماكينة يظل خاليًا من الحياة، وعاجزًا عن توليد المجاز أو السخرية أو الدهشة، أي العناصر التي تُبقي الفنّ حيًّا، ومع ذلك، فإن مضيّ شركات الذكاء الاصطناعي في توليد نُسَخ من هؤلاء المؤلفين يؤدي إلى أن ينقرض المؤلف، وتقتله نسخته، ويُستغنى عنه بسهولة، فــ«لماذا تشتري البقرة إذا كان الحليب مجانًا؟».
وإذا كان المؤلفون البريطانيون قد اختاروا الاحتجاج في الشارع، فإن نظراءهم الأمريكيين فضلوا اللجوء إلى المحاكم، في معركة قانونية لا تزال في بداياتها؛ ففي يناير 2024، رفع مؤلفون دعوى قضائية جماعية ضد شركتي «مايكروسوفت» و«أوبن إيه آي»، يتهمونها فيها باستخدام أعمالهم غير الروائية في تدريب نموذج الذكاء الاصطناعي ChatGPT دون موافقة منهم. وفي الأسبوع الماضي دُمجت اثنتا عشرة دعوى قضائية تتعلق بحقوق النشر ضد الشركتين «أوبن إيه آي» و«مايكروسوفت» في المحكمة الفيدرالية للمنطقة الجنوبية في نيويورك. وهي تحركات تعكس تصاعد التوتر بين المبدعين من جهة، وشركات التكنولوجيا من جهة أخرى، فيما يتعلق باستخدام المحتوى المحمي بحقوق النشر في تدريب نماذج الذكاء الاصطناعي.
ولأن التشريعات القانونية ما زالت عاجزة عن مواكبة تطورات الذكاء الاصطناعي فكان من الطبيعي أن تردّ «ميتا» على هذه الاحتجاجات ردّ الواثق المطمئن: «نحترم حقوق الملكية الفكرية للأطراف الثلاثة، ونعتقد أن استخدامنا للمعلومات لتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي يتوافق مع القانون المعمول به». ويعرف مارك زوكربيرج؛ مالك «ميتا»، قبل غيره، أن القانون المعمول به غير كافٍ لحماية الإبداع الإنساني في ظل هذا التسارع المستمر للتطور التكنولوجي، فالقوانين الحالية، التي وُضعت لعصر الورق والطباعة، لم تعد صالحة لضبط الممارسات التقنية المتقدمة. والمؤلفون يدركون أن معركتهم ليست فقط ضد شركات التكنولوجيا، بل ضد نظام قانوني عاجز عن مواكبة الواقع الجديد. وما تَعُدُّه «ميتا» استخدامًا مشروعًا ضمن مفهوم «الاستخدام العادل» أو «Fair Use»، يعتبره المؤلفون اعتداءً مباشرًا على حقوقهم المعنوية والمادية.
اللافت أن احتجاجات الخميس الماضي تتزامن مع موجة رفض ثقافية أكبر في بريطانيا ضد سياسات تيسير استخدام المحتوى من قِبل شركات التكنولوجيا. ففي فبراير الماضي، وقّع أكثر من ألف فنان بريطاني رسالة مماثلة نددوا فيها بخطط حكومية تهدف إلى تقليل الحماية القانونية لحقوق النشر، ما يسهل على شركات الذكاء الاصطناعي استغلال الأعمال الفنية.
خلاصة القول إن العالم بأسره بحاجة إلى تصور جديد للملكية الفكرية، يأخذ بعين الاعتبار الذكاء الاصطناعي باعتباره طرفًا جديدًا في المعادلة، ويوازن بين المصلحة العامة والتعويض العادل للمبدعين. فليس من المنطقي - كما تقول الروائية البريطانية كيت موس إحدى الموقعات على رسالة الاحتجاج لـ«ميتا» - «أن نبني أدوات تعتمد على إبداع الآخرين، ثم نحرمهم من ثمارها. الذكاء الاصطناعي ليس حتمية، بل هو خيار يحتاج إلى ضوابط أخلاقية». وإذا لم تتدخل الحكومات والمؤسسات الدولية لوضع أطر واضحة، فإننا سنشهد مستقبلًا يُسلب فيه الإبداع من صانعيه، وتُمنح أرباحه لمن لم يبذلوا فيه أي جهد.
قبل نحو ألف عام، بعث الأديب والفيلسوف العربي أبو حيان التوحيدي؛ إلى أحد الأعيان الموسرين برسالة يستغيث فيها به من ضيق الحال: «أنقذني من لبس الفقر، أطلقني من قيد الضر، [..] اكفني مؤونة الغداء والعشاء. إلى متى الكُسَيرة اليابسة، والبقيلة الذاوية، والقميص المرقع. إلى متى التأدُّم بالخبز والزيتون...» إلى آخر الرسالة الشهيرة التي تكشف بؤس حالته المادية والمعنوية. ولا أظنني مغاليًا إذا قلتُ إن أدباء اليوم وفنانيه ومبدعيه ينتظرهم مصير أبي حيان نفسه، إذا ما عومِل الإبداع البشري كمواد خام بلا قيمة، مجرد وقود لآلة صماء تُنتِج نصوصًا بلا روح.
سليمان المعمري كاتب وروائي عماني
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی
إقرأ أيضاً:
يساعدك في اتخاذ القرار.. كيف يغيّر الذكاء الاصطناعي صورة الإنسان عن نفسه؟
يشهد العالم المعاصر تحوّلًا غير مسبوق في تاريخ الوجود البشري، تقوده التكنولوجيا بصفتها القوة الأكثر تأثيرًا في تشكيل ملامح الحياة الحديثة.
لم تعد التكنولوجيا مجرد أدوات أو منصات مساعدة، بل أصبحت بحد ذاتها بيئةً كلية نعيش فيها، وعاملًا حيويًا يُعيد صياغة مفاهيم الإنسان عن ذاته، وعن العالم، وعن الآخرين من حوله. وفي قلب هذا التحول تقف الأجيال الجديدة لا كمتلقٍّ سلبي، بل كنتاجٍ حيّ لهذا العصر الرقمي بكل تعقيداته وتناقضاته.
نتحدث هنا تحديدًا عن جيل Z (المولود بين 1997 و2012)، وجيل ألفا (المولود بعد 2013)، وهما جيلان نشآ في ظل تحوّل تكنولوجي عميق بدأ مع الثورة الرقمية في نهاية القرن العشرين، وتفاقم مع دخول الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز والميتافيرس والبيانات الضخمة إلى صلب الحياة اليومية.
جيل Z يمثل الجسر بين عالمين: عالم ما قبل الثورة الرقمية، وعالم أصبحت فيه الخوارزميات هي "العقل الجمعي" الجديد.
لقد عاش هذا الجيل مراحل الانتقال الكبرى: من الكتب الورقية إلى الشاشات، من الاتصالات الهاتفية إلى الرسائل الفورية، من الصفوف المدرسية إلى التعليم عن بُعد. أما جيل ألفا، فهو الجيل الذي لم يعرف سوى الرقمية منذ لحظة الميلاد، إذ تفتحت حواسه الأولى على شاشة، وتكوّنت مهاراته اللغوية من خلال مساعد صوتي، وتعلّم المفاهيم الأولى عن طريق تطبيقات ذكية وخوارزميات دقيقة تستجيب لسلوك المستخدم لحظيًا.
إعلانإننا لا نتحدث عن تغيّر في أنماط الحياة فقط، بل عن إعادة تشكيل حقيقية للذات الإنسانية. ففي السابق، كانت الهوية تُبنى عبر التفاعل مع الأسرة، والمدرسة، والثقافة المحلية، وكانت تنشأ ضمن سياق اجتماعي واضح المعالم.
أما اليوم، فالأجيال الرقمية تبني صورها الذاتية في فضاءات افتراضية عالمية، تتخطى الحواجز اللغوية والثقافية والجغرافية. إنها هوية "مُفلترة"، تُنتجها الصور والمنشورات والتفاعلات المرسومة وفق خوارزميات منصات التواصل الاجتماعي، وتُقاس بكمية "الإعجابات" والمشاهدات، لا بتجربة الذات العميقة.
هذا التحول لا يخلو من مفارقات. فعلى الرغم من الكمّ الهائل من التواصل الرقمي، تشير دراسات عديدة إلى تصاعد مشاعر الوحدة والعزلة، خصوصًا بين المراهقين والشباب.
وقد ربطت تقارير صحية بين الإفراط في استخدام التكنولوجيا وبين ارتفاع معدلات القلق، واضطرابات النوم، وضعف التركيز، وتراجع المهارات الاجتماعية.
جيل Z، برغم إتقانه المذهل للتكنولوجيا، يواجه صعوبة متزايدة في بناء علاقات واقعية مستقرة. أما جيل ألفا، فيُظهر مبكرًا قدرة رقمية خارقة، لكنها تقترن أحيانًا بضعف في التطور اللغوي والعاطفي، وكأن المهارات الإنسانية الكلاسيكية باتت تُستبدل تدريجيًا بكفاءات رقمية جديدة.
هذا لا يعني أن الأجيال الرقمية "أقل إنسانية"، بل إنها مختلفة في تركيبها المعرفي والعاطفي والاجتماعي. إنها أجيال تعيش فيما يمكن تسميته "الواقع الموسّع"، حيث تتداخل فيه الذات البيولوجية بالذات الرقمية، ويذوب فيه الخط الفاصل بين ما هو واقعي وما هو افتراضي.
وهذه الحالة تطرح سؤالًا وجوديًا جوهريًا: من أنا في عالم يُعاد فيه تشكيل الذات بواسطة أدوات لا أتحكم بها بالكامل؟ من يوجّهني فعلًا: أنا، أم البرمجية التي تختار لي ما أقرأ وأشاهد وأرغب؟
في هذا السياق، تتزايد الحاجة إلى تفكيك العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا من جديد. فنحن لم نعد فقط نستخدم التكنولوجيا، بل يُعاد تشكيلنا من خلالها، وقد أصبح الذكاء الاصطناعي شريكًا خفيًا في اتخاذ القرارات، وتوجيه السلوك، وحتى في تكوين القيم وتصورات العالم. منصات مثل تيك توك ويوتيوب وإنستغرام لم تعد وسائط ترفيهية فحسب، بل منصات لإنتاج الثقافة والهوية والسلوك الاستهلاكي.
إعلانولعل المفارقة الكبرى تكمن في أن هذه التكنولوجيا التي وُعدنا بها كوسيلة لتحرير الإنسان، باتت تخلق أشكالًا جديدة من التبعية. فمن جهة، تسهّل الحياة وتختصر الوقت، لكنها من جهة أخرى تُعيد تشكي إدراكنا بطريقة غير مرئية. إنها "القوة الناعمة" الأشد تأثيرًا في تاريخ البشرية.
في ظل هذا الواقع، لا يكفي أن نُحمّل الأفراد مسؤولية التكيف. المطلوب هو تفكير جماعي لإعادة توجيه العلاقة بين الإنسان والتكنولوجيا. المؤسسات التعليمية مطالبة بأن تراجع مناهجها، لا فقط لتُدخل التقنية، بل لتُعيد التوازن بين ما هو رقمي وما هو إنساني.
الأسرة، بدورها، لم تعد فقط مصدرًا للقيم، بل أصبحت "ساحة مقاومة" للحفاظ على الحميمية في وجه التمدد الرقمي. أما صانعو السياسات، فعليهم مسؤولية أخلاقية وتشريعية للحدّ من تغوّل التكنولوجيا في تفاصيل الحياة اليومية، ووضع ضوابط تحمي الأجيال من فقدان الجوهر الإنساني.
ينبغي ألا يكون السؤال: كيف نُقلل من استخدام التكنولوجيا؟ بل: كيف نستخدمها بطريقة تحافظ على إنسانيتنا؟ كيف نُدرّب أبناءنا على التفكير النقدي، والقدرة على التأمل، والانفتاح العاطفي، لا فقط على البرمجة والتصميم؟
نحن نعيش لحظة مفصلية، لحظة يُعاد فيها تعريف الإنسان، لا بالمعنى البيولوجي، بل بالمعنى الوجودي. وإذا لم نُحسن إدارة هذا التحوّل، فإننا قد نخسر القدرة على أن نكون ذاتًا فاعلة حرة في عالم تتزايد فيه السيطرة غير المرئية للأنظمة الذكية.
المستقبل لا تصنعه الآلات، بل الإنسان الذي يعرف كيف يتعامل معها. ولهذا، فإن المعركة الأهم ليست بين الأجيال والتكنولوجيا، بل بين الإنسان وإنسانيته.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline