Estimated reading time: 28 minute(s)

كتب للأحساء اليوم : محمد السويعي

التحول الرقمي أصبح محطة أساسية في مسار النمو للعديد من المؤسسات الحكومية والشركات التجارية. يُعتبر هذا التحول ثورة تقنية تغيرت بها طرق العمل والتواصل والتعليم وحتى الترفيه. ومع كل هذه المزايا التي يقدمها التحول الرقمي، هناك أيضًا تهديدات قد تظهر وتتسبب في مشكلات خطيرة إذا لم يتم التعامل معها بالشكل الصحيح.

ونحن نعيش اليوم في عصر تقني، حيث تميزت المملكة العربية السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي بتقدمهم في رقمنة المعاملات الحكومية والتجارية لتسهيل الأعمال اليومية للمواطنين والمقيمين دون الحاجة لزيارة المكاتب الفعلية للخدمات. وأصبح التحول الرقمي جزءًا أساسيًا حيث أتاح إتمام المعاملات على مدار الساعة وخلال العطل الرسمية دون توقف، وذلك بفضل ما تملكه هذه الدول من بنية تحتية تقنية متقدمة. 

وكذلك عززت توفر خدمة الإنترنت ومنصات التواصل الاجتماعي التواصل البناء مع المؤسسات الحكومية والشركات التجارية بكل يسر وسهوله، ولكن مع هذا التحول الرقمي، أصبحت التهديدات الأمنية الرقمية حاضرة، وبين هذه التهديدات، تأتي هجمات الهندسة الاجتماعية في مقدمة الأدوات التي يستخدمها القراصنة الرقميون (الهاكرز) لاستهداف الأفراد والمؤسسات، مستفيدين من الضعف التوعوي لدى العنصر البشري الذي يمثل أضعف حلقة في الأمان الرقمي. 

في هذا المقال، وكجزء من التوعية بالسلامة الرقمية، سأتناول تهديدات هجمات الهندسة الاجتماعية في عصر الرقمنة، وأنواعها واستراتيجيات القراصنة الرقميين في تنفيذها، ومراحلها، وتأثيراتها، وكيفية الحماية منها، مع تقديم نظرة موجزة عن الهندسة الاجتماعية.

الهندسة الاجتماعية:

الهندسة الاجتماعية في مجال الأمن السيبراني تشير إلى استخدام أساليب نفسية واجتماعية للتأثير على سلوك الأفراد وإقناعهم بالكشف عن معلومات شخصية حساسة أو تنفيذ إجراءات ضارة ضدهم أو ضد المؤسسات التي يعملون بها. كما أن الهندسة الاجتماعية تستخدم في مجالات إيجابية متنوعة: ففي مجال التسويق تُستخدم لمعرفة وفهم احتياجات وتوقعات العملاء، وفي مجال الرعاية الصحية تُستغل لتشجيع المرضى على اتخاذ قرارات صحية لصالحهم. وفي المجال السياسي، قد تُستخدم للتأثير على الرأي العام. أما في المجال الاستخباراتي العسكري، فقد تُستخدم لجمع معلومات عسكرية عن العدو للدفاع عن النفس. وحتى الأمهات قد تستخدم الهندسة الاجتماعية لحث الأطفال على الدراسة أو تناول الوجبات اليومية.

ومن الجدير بالذكر أن القراصنة الرقميين (الهاكرز) يلجؤون إلى الهندسة الاجتماعية بشكل كبير في تنفيذ الهجمات الإلكترونية. فبدلاً من مهاجمة أنظمة التقنية مباشرة، يستهدفون العنصر البشري بهدف الحصول على معلومات وبيانات حساسة من الأفراد؛ مما يؤدي إلى أختراق الأنظمة التقنية للمؤسسات. وقد يكون الهدف من هذه الهجمات الحصول على فدية مالية، أو الابتزاز الشخصي، أو التأثير السياسي، أو التلاعب بالاقتصاد، أو تعطيل البنية التحتية للخدمات.

أنواع هجمات الهندسة الاجتماعية واستراتيجيات القراصنة الرقميين (الهاكرز):

هجمات الهندسة الاجتماعية في مجال الأمن السيبراني تُعد من أبرز التهديدات التي تواجه الأفراد والمؤسسات الحكومية والتجارية على حد سواء. يعتمد القراصنة الرقميون (الهاكرز) على استغلال الثقة وضعف العنصر البشري للوصول إلى المعلومات والبيانات الحساسة من خلال استراتيجيات مختلفة ومتعددة، ويسعون إلى تحقيق أهدافهم بطرق غير تقليدية، ليس فقط من خلال الثغرات الأمنية في الأنظمة التقنية، بل من خلال العنصر البشري. ومن أبرز الأنواع المستخدمة في هجمات الهندسة الاجتماعية هي:

الهندسة الاجتماعية عبر الهاتف: يستخدم المهاجم هذا النوع من الهندسة الاجتماعية للاتصال بالضحية وتقديم نفسه على أنه شخص موثوق به أو يمثل جهة رسمية، مثل ممثل خدمة عملاء في شركة تجارية كبرى أو موظف في إحدى المؤسسات الحكومية أو مسؤول في مؤسسة مالية. والهدف الرئيسي من هذا الاتصال هو زرع الثقة لدى الضحية، مما يجعله أكثر استعدادًا لمشاركة المعلومات والبيانات الحساسة. ومن الممكن أن تكون المعلومات التي يحصل عليها المهاجم، هي كلمات المرور وتفاصيل البطاقات المصرفية لتستخدم في تنفيذ أعمال احتيالية أو هجمات قرصنة أخرى تستهدف أنظمة المؤسسة التي يعمل بها الضحية؛ لذلك، من المهم دائمًا التحقق من هوية المتصل قبل مشاركة أي معلومات وبيانات حساسة.

الهندسة الاجتماعية عبر البريد الإلكتروني: وتعتبر من أبرز الأنواع شيوعًا التي يعتمدها القراصنة الرقميون (الهاكرز) لاستهداف ضحاياهم. هنا يقوم المهاجم بإرسال رسالة بريد إلكتروني تظهر وكأنها تأتي من مصدر ذي ثقة، مثل مؤسسة مالية أو شركة تجارية كبرى أو جهة حكومية رسمية. وتتضمن هذه الرسالة مثلاً الحث على القيام بتحديث المعلومات الشخصية أو بالقيام بدفع رسوم لخدمةً ما، مثل ما يحدث مع شركات نقل الطرود والشحن. وغالبًا تحتوي هذه الرسالة على رابط يؤدي إلى موقع وهمي يشبه الموقع الحقيقي، أو تحتوي على ملف مرفق يحمل برنامجًا ضارًا، وعندما يقوم الضحية بفتح الرابط أو تنزيل الملف المرفق، يصبح جهازه معرضًا للخطر، حيث يمكن للمهاجم الحصول على المعلومات الشخصية أو السيطرة على الجهاز الإلكتروني؛ لذا، يجب دائمًا التعامل بحذر مع رسائل البريد الإلكتروني التي تحتوي على طلبات لمشاركة المعلومات الشخصية أو التي تأتي من مصادر غير موثوقة ومعروفة.

الهندسة الاجتماعية عبر الرسائل النصية: وهي تشابه طريقة الهندسة الاجتماعية عبر البريد الإلكتروني، ولكن هنا يستخدم المهاجم خدمة الرسائل النصية التي ترسل إلى الهواتف الذكية لاِستهداف الضحية. هنا يقوم المهاجم بإرسال رسالة نصية تظهر للضحية وكأنها تأتي من جهة معروفة وثقة، مثل المؤسسات المالية (البنوك) أو المؤسسات الحكومية أو الشركات التجارية الكبرى. تحث هذه الرسالة النصية الضحية على التجاوب عبر الضغط على رابط معين أو تحميل ملف، وقد يأخذه الرابط إلى موقع وهمي مصمم خصيصًا للحصول على معلومات حساسة، أو قد يحتوي الرابط على تنزيل ملف برنامج ضار تتيح للمهاجم الوصول إلى جهاز الضحية والتحكم به وسرقة المعلومات المخزنة بالجهاز. من المهم دائمًا الحذر والتحقق من صحة مصدر الرسالة النصية قبل التجاوب مع هذه الرسائل النصية الاحتيالية.

الهندسة الاجتماعية عبر منصات التواصل الاجتماعي: تعتبر واحدة من الأنواع الدارجة التي يستخدمها القراصنة الرقميون (الهاكرز) لاِستغلال ضعف الوعي الرقمي لدى الضحايا. في هذه الطريقة، يستهدف المهاجم الضحية عبر منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك، أو إكس (تويتر سابقًا)، أو إنستغرام، أو واتساب، أو سناب شات، أو تيك توك، وغيرها. يبدأ المهاجم عادةً بإرسال طلب استفسار معين أو متابعة على حسب توجهات الضحية، ثم يقوم بتطوير علاقته مع الضحية عن طريق المحادثات أو الرسائل الخاصة لمشاركة المعلومات. من خلال هذا التفاعل، يحاول المهاجم جعل الضحية يشعر بالأمان والثقة. وبمجرد تأسيس هذه الثقة، يقوم المهاجم بتقديم طلبات تبدو عادية في البداية، مثل الحصول على مساعدة في تسجيل الدخول إلى حساب، أو الانضمام إلى مجموعات، ولكن في نهاية المطاف تكون هذه الطلبات تهدف إلى الحصول على معلومات وبيانات حساسة؛ لذا، يجب على الأفراد دائمًا التحقق من هوية الأشخاص الذين يتواصلون معهم عبر الإنترنت أو منصات التواصل الاجتماعي وعدم مشاركة المعلومات الشخصية أو المالية مع أي شخص، حتى لو بدوا ثقة.

مراحل هجمات الهندسة الاجتماعية:

الشكل التالي يوضح المراحل التي يتبعها القراصنة الرقميون (الهاكرز) لتنفيذ هجمات الهندسة الاجتماعية:

تأثيرات هجمات الهندسة الاجتماعية:

تعتبر هجمات الهندسة الاجتماعية من أكثر الأساليب فتكًا وخطورة في مجال الأمن السيبراني، حيث تستهدف العنصر البشري كأضعف حلقة في نظام الأمان الرقمي. وبالرغم من التقدم التقني الهائل، إلا أن العنصر البشري لا يزال هو الهدف الرئيسي لمثل هذه الهجمات، وخصوصًا في ظل قوة حماية الأنظمة لدى المؤسسات الحكومية والشركات الكبرى والتي قد يصعب الوصول إليها مباشرة. وهنا سأستعرض أبرز العواقب التي قد تنجم عن هجمات الهندسة الاجتماعية وتأثيرها على الأفراد والمؤسسات على حد سواء:

عند فقدان المعلومات الشخصية أو المؤسساتية واستغلالها بشكل غير قانوني قد تتأثر سمعة الأفراد أو المؤسسات بسبب ذلك.  عند تعرض المؤسسات لهجمات الهندسة الاجتماعية قد تهتز ثقة العملاء في صلابة ومتانة المؤسسة وخاصةً المؤسسات المالية.  عند تعرض المؤسسات لهجمات الهندسة الاجتماعية تكون عرضه للمساءلة إذا لم يتم حماية بيانات العملاء بشكل صحيح. عند تعرض المؤسسات لهجمات الهندسة الاجتماعية قد تضطر المؤسسات إلى إنفاق أموال طائلة لاستعادة عمليات التشغيل للوضع الطبيعي. عند تعرض الأفراد لهجمات الهندسة الاجتماعية قد يشعر الأفراد بالقلق أو الخوف، خصوصًا إذا تم استهدافهم بشكل شخصي. قد تؤدي هجمات الهندسة الاجتماعية إلى نشر معلومات مضللة لتفكيك اللحمة الوطنية والاستقرار الاجتماعي.  قد تؤدي هجمات الهندسة الاجتماعية إلى الابتزاز والتهديد الشخصي والسياسي. قد تؤدي هجمات الهندسة الاجتماعية إلى سرقة المعلومات الشخصية، مثل اسم المستخدم والكلمات السرية للأجهزة الإلكترونية. قد تؤدي هجمات الهندسة الاجتماعية إلى سرقة المعلومات الخاصة بالبطاقات المصرفية والائتمانية والحسابات البنكية. قد تؤدي هجمات الهندسة الاجتماعية إلى إصابة الأجهزة الحاسوبية والأنظمة والشبكات ببرامج ضارة.

كيف نحمي أنفسنا من تهديدات هجمات الهندسة الاجتماعية:

هذه بعض النصائح التي يجب اتباعها لنتجنب الوقوع في فخ هجمات الهندسة الاجتماعية:

الاهتمام بالتوعية والتدريب حول الأمان الرقمي. التحقق من هوية الشخص الذي يطلب معلومات منا، سواء كان ذلك عبر الهاتف أو البريد الإلكتروني. عدم مشاركة المعلومات الشخصية أو البنكية مع الغير، حتى وإن كانوا أشخاصًا محل ثقة. تفعيل ميزة مصادقة المعيار الثنائي كطبقة إضافية من الحماية لتعزيز التحقق. تجنب الضغط على أي رابط يصل من أي شخص، حتى وإن كان صديق مقرب ربما يكون حسابه اخترق بالفعل، ونحن الضحية القادمة. عدم التفاعل مع الملفات المرفقة التي تصل عبر البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية حتى نتأكد من موثوقيتها. فالملفات المرفقة تعتبر أشهر السبل المستخدمة لنشر البرامج الضارة. استخدام تقنيات ترشيح الرسائل الواردة لتصفية الرسائل المشكوك فيها، حيث تؤدي تلك التقنيات وظيفة الحارس الشخصي، وأي رسالة مرسلة من جهة مجهولة الهوية نرسلها إلى ملف الرسائل الاحتيالية في البريد الإلكتروني. تثبيت برامج مكافحة الفيروسات الفعالة وذات سمعة طيبة ومدفوعة الثمن، ودائماَ يجب أن نستعين ببرامج أحد الشركات المتخصصة في الأمن السيبراني للمساعدة على تلك المهمة. الاهتمام بالتحديثات الدورية لبرنامج التشغيل والتطبيقات والبرامج الأخرى بانتظام للوقاية من الثغرات الأمنية. عدم الكشف عن الموقع الجغرافي للآخرين والتأكد من إيقاف تشغيل خدمة تحديد المواقع على منصات التواصل الاجتماعي. علينا الاختيار بعناية المعلومات التي نشاركها على الملف الشخصي العام ونحدد البيانات الشخصية التي نجعلها مرئية للجميع من خلال مراجعة وتحرير البيانات الحساسة. نكن حذرين من العروض الوهمية المغرية التي تصل عبر البريد الإلكتروني أو الرسائل النصية. نكن حذرين من الدخول على أي خدمة تابعة لأي مؤسسة حكومية أو تجارية أو بنكية من متصفح أو تطبيق غير متصفح أو تطبيق المؤسسة نفسها. القيام بإجراء نسخ احتياطية دورية للملفات المهمة ونظام التشغيل لنتمكن من استعادة الملفات المهمة والأنظمة عند فقدانها وتقليل تأثير الهجوم. إذا تعرضنا لهجوم، علينا القيام بعزل الأجهزة المتأثرة عن الشبكة لمنع المهاجم من نشر الهجوم بكامل الشبكة. في حالة الاشتباه بوقوع احتيال، علينا القيام بإبلاغ السلطات الأمنية المختصة فوراً لتجنب المسائلة القانونية.

في الختام، يجب أن ندرك أن هجمات الهندسة الاجتماعية تمثل تهديدًا متزايدًا في عصر الرقمنة الذي نحن فيه، وتعتبر هجمات الهندسة الاجتماعية وسيلة فعالة وشائعة بين القراصنة الرقميين (الهاكرز) لاستهداف الأفراد والمؤسسات في ظل التحول الرقمي الذي تشهده دول مجلس التعاون الخليجي. ورغم من التطور الهائل في البنية التحتية والخدمات الرقمية، فإن العنصر البشري يظل الأضعف أمام هذه الهجمات؛ لذلك، يجب على الأفراد والمؤسسات التسلح بالمعرفة وتعزيز الوعي والتدريب حول خطر هجمات الهندسة الاجتماعية وكيفية الوقاية منها. إن الاستثمار في التوعية الرقمية وتقديم التدريب الملائم للأفراد سيكون له دور حاسم في الحد من هذه الهجمات وتعزيز الأمان الرقمي. نأمل أن يسهم هذا المقال في زيادة التوعية بالمخاطر المرتبطة بهجمات الهندسة الاجتماعية وتقديم الإرشادات اللازمة للحماية منها. 

“السلامة الرقمية مسؤولية جماعية تبدأ بالفرد وتمتد لتشمل المجتمع”

بقلم: محمد السويعي

مختص في إدارة تقنية المعلومات والأمن السيبراني ومهتم في أبحاث أنظمة الذكاء الاصطناعي

المصدر: الأحساء اليوم

كلمات دلالية: التحول الرقمي منصات التواصل الاجتماعی عبر البرید الإلکترونی المؤسسات الحکومیة الأمن السیبرانی الرسائل النصیة التحول الرقمی العنصر البشری هذه الهجمات الحصول على التحقق من فی مجال من خلال دائم ا فی عصر

إقرأ أيضاً:

الضحية الصامتة: المخاطر البيئية لحرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران

 

تتشابك المخاطر الجيوسياسية مع البيئية بشكل متزايد وأكثر تعقيداً، فالصراع على الموارد الطبيعية بات يشكل دافعاً قوياً لزيادة المخاطر والتهديدات الجيوسياسية، وفي نفس الوقت تزيد الحروب والنزاعات المسلحة من حدة المخاطر البيئية بشكل لافت، فآثار الحروب لا تقتصر على المشهد السياسي وحده، بل تمتد لتُدمِّر النظم البيئية، في ظل تلوث الهواء والمياه، والانبعاثات الكربونية الكبيرة، وتهجير المجتمعات، وتعطيل التقدم البيئي العالمي لعقود. وفي وقت يقترب فيه العالم بشكل خطر من نقطة اللاعودة في أزمة المناخ، تُصبح التكلفة البيئية للصراعات المسلحة عبئاً لا يمكن للبشرية تحمّله، فما من حرب تُخاض إلا وتُخلِّف وراءها دماراً للطبيعة.

وقد شهدت منطقة الشرق الأوسط حرباً بين إسرائيل وإيران استمرت لمدة 12 يوماً في شهر يونيو 2025، وانضمّت الولايات المتحدة عسكرياً إلى هذه المواجهة. وبينما سلطت وسائل الإعلام الضوء على التداعيات الجيوسياسية للحرب واستراتيجياتها العسكرية والمخاوف النووية، كانت وما زالت البيئة هي “الضحية الصامتة” التي تدفع ثمناً باهظاً لمثل هذه الحروب.

ويسعى هذا التحليل إلى تسليط الضوء على المخاطر والأضرار البيئية للحرب الإسرائيلية الإيرانية، وكيف يمكن لمواجهة عسكرية واحدة أو حتى أيام قليلة من الغارات الجوية المكثفة أن تُخلِّف أضراراً بيئية تستمر آثارها لسنوات، مع التأكيد أن هناك حاجة مُلِحّة إلى تجنُّب الحروب بأي ثمن، ليس فقط من أجل السلام البشري، بل من أجل إنقاذ الكوكب نفسه من مصير كارثي.

اتساع المخاطر:

بدأت الحرب بين إسرائيل وإيران في 13 يونيو الماضي بعد أن هاجمت إسرائيل عشرات الأهداف في إيران بهدف معلن وهو تدمير البرنامج النووي الإيراني، ثم توالت الضربات العسكرية المتبادلة بين الطرفين، مع استهداف عدد كبير ومتنوع من المنشآت والأهداف العسكرية وغير العسكرية في البلدين. وقد تركزت المخاوف البيئية، في البداية، على تداعيات الضربات العسكرية ضد المنشآت النووية؛ مما دفع الوكالة الدولية للطاقة الذرية إلى التحذير بشأن ضرورة عدم مهاجمة المنشآت النووية لأن ذلك سيُلحِق أضراراً جسيمة بالناس والبيئة، إلا أنه بتوسيع نطاق الأهداف المتبادلة بين الطرفين اتسع أيضاً نطاق المخاطر البيئية المُحتملة.

وفيما يتعلق بالمخاطر النووية للحرب من خلال استهداف المنشآت النووية الإيرانية، فإن هناك حالة من عدم الوضوح بشأن التداعيات المترتبة في هذا الشأن؛ فقد أفاد المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية، رافائيل غروسي، في 29 يونيو الماضي، بأن الضربات الأمريكية على إيران لم تكن كافية لإحداث ضرر كامل لبرنامجها النووي، وأن طهران قد تستأنف تخصيب اليورانيوم “في غضون أشهر”؛ وهو ما يتناقض مع تأكيدات الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، بأن الولايات المتحدة أعادت طموحات إيران عقوداً إلى الوراء.

وقد يكون من غير المعروف على وجه الدقة عدد الصواريخ والقنابل التي أُطلقت على المنشآت النووية والعسكرية الإيرانية خلال الحرب الأخيرة، إلا أنه في 22 يونيو الماضي هاجمت الولايات المتحدة مواقع فوردو وأصفهان ونطنز النووية بـ14 قنبلة خارقة للتحصينات من طراز “جي بي يو-57″، تزن كل منها 30 ألف رطل (13600 كيلوغرام)، إلى جانب 30 صاروخ “توماهوك”، لكن المدى الفعلي للأضرار لا يزال غير واضح، حيث لم تتمكن الوكالة الدولية للطاقة الذرية من التحقق بشكل كامل من آثار تلك الهجمات الأمريكية، وخاصةً على محطة التخصيب تحت الأرض في فوردو.

وعلى الرغم من أنه لم يتم قياس مستويات متزايدة من الإشعاع خارج المحطات النووية الإيرانية؛ فإن أي تسرب مُحتمل لهذه المواد قد يُشكل مخاطر صحية وبيئية كبيرة، فهناك تأثيرات كيميائية لا تقتصر على التداعيات الانفجارية فقط، فمواقع تخصيب اليورانيوم لا تُسبب ارتفاعات إشعاعية تقليدية عند قصفها؛ لكنها تُخزن وتُعالج سادس فلوريد اليورانيوم، حيث يتحول إلى مُركبات أخرى مُسببة للتآكل وخطرة للغاية على الإنسان والبيئة، ويُمكن أن يُؤدي استنشاقه إلى تلف تنفسي حاد. كما أن إطلاقه في التربة أو الهواء يُمكن أن يُسمم طبقات المياه الجوفية والمحاصيل والنظم البيئية لعقود.

كما أدت الضربات الجوية لإسرائيل وإيران إلى التأثير في الخرسانة والصخور والمعادن؛ مما أدى إلى خلق سحب من الغُبار المختلط بالمعادن الثقيلة، وبقايا مُشعة مُحتملة، وجزيئات حمضية سامة، وعندما يستقر هذا الخليط فإن خصوبة التربة تتدهور بشكل كبير، كما تصبح المياه الجوفية غير صالحة للاستهلاك، ويمكن أن يمتد التأثير إلى تهديد التنوع البيولوجي. بالإضافة إلى ذلك، فإن تلك الهجمات ألحقت أيضاً أضراراً بأنظمة معالجة النفايات، ووحدات التهوية والترشيح في محطات التخصيب، وشبكات الكهرباء القريبة، وقد تتطلب مناطق بأكملها كانت صالحة للزراعة أو السكن سنوات من المعالجة البيئية؛ وهو ما دعا وزارتي الطاقة والبيئة في إيران إلى تشكيل لجان فنية لتوثيق الأضرار البيئية، وإدارة النفايات الخطرة، واختبار التربة في المناطق المتضررة.

وتختلف العواقب البيئية الناجمة عن الهجمات على المواقع العسكرية من موقع لآخر، وتعتمد على المواد والأنشطة الموجودة في كل موقع. ومع حدوث انفجارات وحرائق في تلك المواقع، فإن ثمة مخاوف من تأثير الملوثات المتنوعة الناجمة عن الوقود والزيوت ومواد التشحيم والمعادن الثقيلة والمواد النشطة، والتي يمكن أن تؤثر في المناطق الحضرية القريبة؛ مما يزيد من المخاطر على البشر إذا تم نقل الملوثات خارج المواقع العسكرية. ومن بين المخاوف البارزة في سياق الحرب الأخيرة، مخاطر التلوث المرتبطة بالمرافق الصاروخية المتضررة؛ حيث تمتلك إيران مجموعة متنوعة من الصواريخ البالستية التي تعمل بالوقود الصلب والسائل، وتُعتبر العديد من أنواع الوقود الصاروخي السائل سامة للغاية، وتُمثل مشكلة كبيرة عند إدارتها والتخلص منها. إضافة إلى المخاطر الناجمة عن استهداف بعض المطارات، والتي تحتوي على مخازن وقود معرضة لخطر الحرائق، واستهداف مواقع تخزين وإنتاج الأسلحة.

الانبعاثات الكربونية:

تُعد إيران من كبار منتجي النفط والغاز، ولديها احتياطيات كبيرة تقع بشكل رئيسي في جنوب غرب البلاد، كما أنها تمتلك بنية تحتية للوقود الأحفوري بما في ذلك مصافي النفط ومصانع التخزين ومصانع معالجة الغاز وشبكة واسعة من خطوط أنابيب النفط والغاز. وقد تسببت الهجمات الإسرائيلية على بعض تلك المنشآت، مثل مصفاة طهران للنفط ومستودع شهران للوقود والغاز، في تولد حرائق النفط، والتي تنتج العديد من الملوثات التي تؤثر في جودة الهواء، ويمكن أن تؤدي أعمدة الدخان المتصاعدة في اتجاه الريح إلى تلويث التربة والمياه، وتُلحق أضراراً بالبنية التحتية وتوليد كميات كبيرة من الانبعاثات من الغازات المُسببة للاحتباس الحراري. وتُعد مصفاة طهران واحدة من أقدم مصافي التكرير في إيران، وتبلغ طاقتها التكريرية 225 ألف برميل يومياً، كما يُعد مستودع شهران أحد أكبر مراكز تخزين وتوزيع الوقود والغاز في طهران بسعة 260 مليون لتر عبر 11 خزان تخزين.

وفي المقابل، تداولت المواقع الإخبارية ما يفيد بأن الصواريخ الإيرانية قد أصابت العديد من المناطق في إسرائيل، ومنها مواقع نفطية مثل مجمع مصفاة بازان للنفط بالقرب من حيفا؛ مما أدى إلى اندلاع حرائق وأضرار في خط الأنابيب، ومحطة توليد الكهرباء في حيفا، كما أغلقت إسرائيل اثنين من حقول الغاز البحرية الثلاثة لديها؛ مما أدى إلى تقليص الإمدادات المحلية.

ويشير أحد التقديرات الصادرة عن جامعة ماري كوين في لندن إلى أنه خلال الأيام الخمسة الأولى من حرب إسرائيل وإيران، تسبب إطلاق وقود الطائرات والصواريخ، بما في ذلك الصواريخ البالستية، في انبعاثات تُقدر بأكثر من 35 ألف طن من ثاني أكسيد الكربون، وهذا الرقم يعادل ما تنتجه قيادة 8300 سيارة لمدة عام أو حرق 20 ألف طن من الفحم.

كذلك فإن قاذفة “بي 2” (B-2) وحدها تستهلك نحو 25 ألف لتر من الوقود في كل مهمة، بالإضافة إلى العشرات من طائرات التزود بالوقود، ونحو 125 طائرة دعم في مهام القاذفات الأمريكية السبع؛ وهو ما يعني أن انبعاثات الكربون الناجمة عن إطلاقها لمدة ثلاثة أيام فقط تنافس الانبعاثات السنوية للدول الجُزرية الصغيرة؛ مما يعرض التقدم نحو تحقيق أهداف المناخ العالمية للخطر، فالحرب لا تهدد حياة البشر فحسب، بل تؤدي كذلك إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب.

السلام والمناخ:

يؤدي تغير المناخ بالفعل إلى زعزعة استقرار المجتمعات، وتؤدي الحروب إلى تسريع وزيادة معدلات انبعاثات الكربون وفقدان التنوع البيولوجي وانهيار النظام البيئي، فالضرر البيئي قد لا يمكن إصلاحه، والتعافي قد يستغرق عقوداً من الزمن، وتتحول مناطق الحروب إلى مناطق تضحية بيئية، حيث يتم القضاء على التقدم نحو تحقيق أهداف التنمية المستدامة في غضون ساعات. وفي حين تظل الصراعات والانبعاثات الناجمة عن العمليات العسكرية خارج جدول الأعمال الرسمي لمؤتمر الأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ “كوب” (COP)، فإن الحركة المناخية تربط بشكل متزايد بين السلام والأمن وأزمة المناخ. ومن المُقرر أن تنطلق أعمال “كوب30” المرتقبة في البرازيل في نوفمبر 2025، وسط أجواء عالمية تزداد تعقيداً وأزمات عاصفة تطغى على المشهد العالمي وحالة من الانقسام تُلقي بظلالها على النتائج المرتقبة للعمل المناخي.

وفي هذا الإطار، يُسلط تقرير المخاطر العالمية لعام 2025 الضوء على الطبيعة المترابطة للتحديات المعاصرة، فمن التدهور البيئي إلى عدم الاستقرار الجيوسياسي والتشرذم المجتمعي؛ تتطلب المخاطر التي يواجهها العالم استجابات منسقة ومتعددة الأطراف. ولا يُمكن تجاوز تقلبات عصرنا المعقدة والعمل نحو مستقبل أكثر مرونة إلا من خلال التعاون العالمي.

ختاماً، يمكن القول إن تقييم المخاطر والتداعيات البيئية للحروب لا يقل أهمية عن تقييم الأضرار والخسائر الأخرى، فقياس خسائر الحروب لا يعتمد فقط على إحصاء عدد القتلى والجرحى بين العسكريين والمدنيين وبما تم تدميره من مدن وسُبل الحياة، إنما لا بد أن يتخطى ذلك إلى تقييم الأضرار والخسائر البيئية، ففي كثير من الأحيان تبقى البيئة ضحية غير مُعلنة للحرب. ويبدو المشهد السياسي في منطقة الشرق الأوسط أكثر تعقيداً ويُنذر باستمرار تأجج الحروب والنزاعات المسلحة في الكثير من بؤر الصراع التي عانت ولا تزال تعاني من نتائج كارثية على المستويات والقطاعات كافة. ولا تزال المخاوف من تجدد الحرب الإسرائيلية الإيرانية قائمة، بل وتزداد المخاوف إلى تطور هذه الحرب إلى ما هو أبعد من الضربات الجوية المتبادلة؛ ومن ثم تزداد معها المخاوف من الـتأثيرات البيئية الأكثر حدة.

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


مقالات مشابهة

  • التحول الرقمي ضرورة للقطاع المصرفي السوري لينسجم مع المعايير العالمية
  • والي غرب كردفان يبحث مع جهاز تنظيم الاتصالات والبريد دعم عملية التحول الرقمي في الولاية
  • عاجل ـ مدبولي يبحث مع رئيس الرقابة المالية التحول الرقمي وتشريعات التمويل غير المصرفي واستعدادات ملتقى التكنولوجيا المالية يوليو 2025
  • صيف التحول الرقمي يعزز الوعي التقني بالبريمي
  • مدبولي يفتتح مقر مكتب خدمات الأجانب بالعاصمة الإدارية: نقلة حضارية في خدمات "الزواج والتملك" تدعم التحول الرقمي ورؤية مصر 2030
  • «اتحادية الموارد».. «بطل» القمة العالمية لمجتمع المعلومات 2025
  • بحضور وزير النقل الدكتور يعرب بدر… ورشة عمل تخصصية حول الاستفادة من تطبيقات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي في رقمنة الشحن الطرقي
  • الضحية الصامتة: المخاطر البيئية لحرب الـ12 يوماً بين إسرائيل وإيران
  • رئيس مجلس الدولة يستقبل وفدًا قضائيًّا عُمانيًا للاطلاع على جهود التحول الرقمي
  • “زين تك” تحصد شهادات دولية في الامتثال الرقمي