رغم مرور أكثر من ثمانية عقود على وفاته، وأكثر من قرن على اكتشافه الأثري الذي هزّ العالم، لا يزال الغموض يحيط بشخصية هوارد كارتر، المستكشف البريطاني الشهير الذي فتح أبواب التاريخ، حين عثر على مقبرة الفرعون الذهبي توت عنخ آمون في وادي الملوك عام 1922.

ولد كارتر عام 1874، وتوفي عام 1939، لكنه لا يزال موضع جدل واسع بين علماء الآثار والمصريات في مصر والعالم، ليس فقط بسبب الاكتشاف الذي غيّر نظرتنا إلى الحضارة المصرية القديمة، بل بسبب أسرار كثيرة ارتبطت بشخصيته ومسيرته المهنية، وظل بعضها طي الكتمان حتى اليوم.

ويقول المؤرخ والباحث المصري فرنسيس أمين، الذي يحتفظ بأرشيف مصوّر نادر لكارتر ومجموعة من المؤلفات عنه، إن كارتر اختار لنفسه حياة يلفها الغموض، وكان يستمتع بذلك، مضيفًا أن الرجل بدا كما لو أنه يعيش داخل "كتاب للمفاجآت"، يروي ما يشاء ويُخفي ما يشاء.

يشير أمين إلى أن كارتر لم يكتفِ بالشهرة التي نالها بفضل اكتشافه مقبرة توت عنخ آمون في الرابع من نوفمبر/تشرين الثاني 1922، بل نسج حول نفسه حكايات وأساطير، جعلت اسمه حاضرًا في الأذهان حتى بعد وفاته. وعلى مدار 44 عامًا قضاها في مصر، تنقل كارتر بين أدوار مختلفة: رسام، ثم مترجم، فمستكشف، ما جعله حاضرًا في صلب الحركة الأثرية التي شهدتها البلاد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين.

إعلان

ويكشف فرنسيس أمين في حديثه لوكالة الأنباء الألمانية (د ب أ)، أن كارتر كان يزعم معرفته موقع قبر الإسكندر الأكبر، لكنه أعلن أنه سيحتفظ بسر الموقع حتى يُدفن، ما يعكس ولعه بالرمزية والأساطير الغامضة.

صور مربكة

كما أن ظهور كارتر للكاميرات، كان لا يخلو من تمثيل مدروس، حيث كان يتعمد الوقوف أو السير في كبرياء، وهو ما يظهر جليًا في صوره المحفوظة، التي تصور شخصية متعالية، أقرب إلى النبلاء منها إلى علماء الآثار التقليديين.

وتجسّد هذه الصورة التاريخية لهوارد كارتر، متفقدا تابوت توت عنخ آمون، بينما يجلس مصري في الظل قربه، وتعود إلى مطلع القرن العشرين، 200 عام من علم المصريات: من ناحية العالِم الغربي الذي يكتشف كنوز مصر، ومن ناحية أخرى أيادٍ مصرية تجاهلها تاريخ الكشوفات الفرعونية.

ويؤكد رئيس بعثة التنقيب المصرية في القرنة (جنوب البلاد) عبد الحميد درملي أن المصريين "تحمّلوا عبء الشغل كلّه، لم يكن هناك أجنبي يعمل بيده". ويتابع "بدوننا (المصريين)، لم تكن لتحصل أي اكتشافات. العامل المصري الذي نقّب له اسم، كان ينبغي كتابته، ولكنه نُسي فورا".

في الاتجاه نفسه، تقول الباحثة المتخصصة في التراث المصري، هبة عبد الجواد "كأن أحدا لم يحاول فهم مصر القديمة" قبل شامبوليون عام 1822. وتعود ريغز فتوضح، أن المصري الجالس في الظل إلى جوار كارتر في الصورة الشهيرة قد يكون "حسين أبو عوض أو حسين أحمد سعيد" اللذين كانا لعقود من أعمدة فريق كارتر إلى جانب آخرين مثل أحمد جريجر وجاد حسن.

غربة وحب

وتتحدث روايات تاريخية، بحسب أمين، عن قصة حب محتملة ربطت كارتر بابنة اللورد كارنارفون، الممول الرئيسي لحفرياته في وادي الملوك. لكن هذه العلاقة الغامضة ظلت دون تأكيد، مثلها مثل الخلاف الكبير الذي نشب بين كارتر واللورد كارنارفون قبيل وفاة الأخير، ولم تُعرف أسبابه الحقيقية.

ويضيف أمين، أن كارتر ربما كان يعاني من شعور بالدونية تجاه بعض زملائه من المستكشفين الأصغر سنًا والأكثر علمًا، مثل تيودور ديفيز، الذين تمتعوا بتكوين أكاديمي متين في علوم المصريات، بينما لم يكن كارتر قد تلقى تعليمًا كافيًا، بل كان يخطئ في كتابة أسماء معاونيه أحيانًا.

إعلان

ويتابع: "كثير من أعمال النشر العلمي التي ارتبطت باسم كارتر لم تكن من إنجازه الفردي، بل بمساعدة آخرين، ظلوا في الظل دون أن تُنسب إليهم المساهمات التي قاموا بها".

ويُرجّح أن يكون هذا التناقض في شخصيته، هو ما دفعه إلى عدم الإفصاح عن اكتشافاته في الصحراء الشرقية، والتي نُسبت لاحقًا إلى مستكشفين آخرين، رغم أن الأدلة تشير إلى أنه كان أول من عثر عليها.

اكتشافات مثيرة.. وغموض لا ينتهي

لم يكن هوارد كارتر مجرد مستكشف عادي، بل كان شخصية مثيرة للجدل، أحاطت بها الأسرار من كل جانب، حتى في ما يخص اكتشافاته الأثرية. ومن أكثر الوقائع غموضًا التي حيّرت الأثريين، تلك المتعلقة بتمثال ذهبي نادر للإله آمون، عثر عليه كارتر دون أن يفصح عن مكان العثور عليه. وبعد فترة من الترقب، أعلن أنه وجده في محيط أسوار معبد الكرنك، لكن هذا التفسير لم يبدُ مقنعًا للخبراء، ليظل التمثال أحد الألغاز التي لم تُحل في مسيرة هذا المستكشف البريطاني.

ورغم أن كارتر، هو صاحب أعظم اكتشاف أثري في القرن العشرين، وربما في تاريخ علم الآثار، فإن حياته لم تُكلل بأي وسام رسمي أو تكريم من الحكومة البريطانية أو المصرية، وهو أمر يثير التساؤلات حتى اليوم، ويُضاف إلى هالة الغموض التي لم تفارقه.

وتجمع شهادات متعددة على أن كارتر، كان المسؤول الأول عن نقل كنوز توت عنخ آمون إلى المتحف المصري بالقاهرة في حالة ممتازة من الحفظ، مما يُحسب له رغم الجدل الذي رافق طريقة تعامله مع بعض المكتشفات.

وكان كارتر قد حقق اكتشافات أخرى مهمة إلى جانب مقبرة الفرعون الذهبي، أبرزها مقبرة "حدوة الحصان" قرب الدير البحري غرب الأقصر، والخاصة بـ"منتو حتب منحبت"، والتي عثر فيها على تمثال شهير يُعرض حاليًا ضمن مقتنيات المتحف المصري.

ورغم أنه لم يكن عالم آثار بالمفهوم الأكاديمي، ولم يدرس المصريات دراسة نظامية، فإن كارتر بدأ رحلته في الميدان الأثري منذ سن العشرين، حين عمل رسامًا في مقابر بني حسن بالمنيا، ثم في الدير البحري بالأقصر، واشتُهر برسمه الدقيق للنقوش والرسوم الهيروغليفية والطبيعية التي تزين جدران المقابر.

إعلان

ويُعد كارتر من أكثر المستكشفين تنوعًا في المهارات؛ فقد كان نجارًا، صنع أبوابًا خشبية لمقابر ملكية عدة، كما عمل حدادًا وكهربائيًا، وشارك في تركيب خطوط كهربائية لا تزال آثارها قائمة في مقابر وادي الملوك حتى اليوم، وذلك لمّا تولى منصب كبير مفتشي الآثار في مدينة الأقصر.

وعندما غادر العمل الرسمي في الآثار، تحوّل إلى دليل سياحي ومترجم، واستثمر علاقاته مع عائلات مصرية نافذة، مثل عائلات لطف الله، ومكرم عبيد، وبطرس غالي، لحل بعض الخلافات التي نشبت بينه وبين السلطات المصرية.

لكن الغموض لم يفارقه حتى في هذه المرحلة، فقد اتُّهم مع رفيقه اللورد كارنارفون ببيع كنوز ذهبية عُثر عليها في مقبرة الأميرات بمنطقة جبل القرنة لمتحف المتروبوليتان الأميركي، كما وُجّهت إليه اتهامات منفردة ببيع تمثال الإله آمون، الذي قال إنه عثر عليه قرب أسوان، وهو ادعاء لم يلق قبولًا واسعًا.

هكذا عاش كارتر في قلب العاصفة، ووسط اتهامات وشبهات وسرديات متباينة، ولم يتوقف الجدل حوله حتى بعد وفاته في عام 1939. بقي في ذاكرة التاريخ شخصية مركبة، صنعت مجدًا أثريًا لا يُضاهى، لكنها أيضًا تركت وراءها صفحات كثيرة لم تُكتب بعد.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات رمضان توت عنخ آمون أن کارتر لم یکن

إقرأ أيضاً:

أين اختفى نجوم الجيل الذهبي؟



 

في زمنٍ كانت فيه الشاشة تتلألأ بأسماء لامعة من نجوم الجيل الذهبي، أصبح الغياب هو العنوان الأبرز اليوم. ففنانون كانوا جزءًا لا يتجزأ من وجدان المشاهد العربي، اختفوا فجأة بلا مقدمات، تاركين وراءهم علامات استفهام كثيرة.

هل هو تغيّر ذوق الجمهور؟ أم أن المنتجين باتوا يلهثون فقط وراء الوجوه الشابة و"الترندات"؟ أم أن المرض وتقدّم العمر أجبر البعض على التواري خلف الكواليس بصمت؟

أسماء مثل حسين فهمي، صفية العمري، نبيلة عبيد، محمود قابيل، ليلى طاهر، وفاء سالم، حسن عثمان، جمال عبد الناصر، لبنى عبد العزيز، حسان العرابي، وآخرين، كانوا أيقونات للشاشة الصغيرة والكبيرة. واليوم، لا نراهم إلا في مناسبات تكريم، أو في منشورات قديمة يتداولها الجمهور على مواقع التواصل من باب الحنين.

بعض هؤلاء الفنانين صرّحوا في لقاءات نادرة بأنهم يشعرون بالتجاهل، وأن "صنّاع الدراما لم يعودوا يهتمون بالتاريخ والخبرة، بل بالأرقام وعدد المتابعين". آخرون فضلوا الابتعاد بهدوء، إما لأسباب صحية أو شخصية، دون أن يشرحوا أسباب انسحابهم.

بينما يرى البعض أن الجمهور نفسه بات شريكًا في هذا التغييب، حيث انجرف وراء موجة الأعمال الخفيفة ونجوم السوشيال ميديا، متناسيًا من صنعوا له أجمل الذكريات.

الغياب لا يعني النسيان، لكن في زمن السرعة والاستهلاك، يبدو أن الذاكرة الفنية أصبحت قصيرة جدًا. فهل آن الأوان لإعادة النظر في الطريقة التي نتعامل بها مع رموزنا الفنية؟ أم أن قطار الزمن لا ينتظر أحدًا؟

ربما لا نملك إجابة واحدة، لكن المؤكد أن هذا الغياب يترك فراغًا لا يملؤه أحد.
 

مقالات مشابهة

  • خالد أبو بكر: الإعلام ليس مجرد وظيفة بل شغف لا ينتهي
  • اشتباك مسلح أمام مطار تورنتو ينتهي بمقتل رجل
  • جهود أمنية مكثفة لكشف غموض العثور على جثة صاحب مكتب عقارات مقتولًا داخل مكتبة بالدقهلية
  • عودة أكثر غموضًا.. "Wednesday" يكشف عن أول صور للموسم الثاني قبل عرضه في أغسطس
  • أين اختفى نجوم الجيل الذهبي؟
  • حزنت جدا للمصيبة التي حلت بمتحف السودان القومي بسبب النهب الذي تعرض له بواسطة عصابات الدعم السريع
  • العالم المصري الذي ساهم في جعل المدفوعات عبر الإنترنت آمنة.. من هو؟
  • حزب مصر القومي: الجيش المصري السند الذي لا يتخلى عن وطنه
  • معرض لوسائل تعليمية وقصص أنتجها أطفال بالسويداء
  • متى ينتهي نشاط المنخفضات الخماسينية و هل هناك حالات خماسينية على المدى القريب ؟