في إحدى الجلسات التي جمعتني بأصدقاء أعتز بهم، كنا نتحدث في شتى المواضيع، إلى أن وصل بنا الحديث ـ على غير قصد ـ إلى غيرة وحسد الأصدقاء. وما إن طُرح الموضوع حتى بدا كأنه باب كان ينتظر أن يُفتح.
جلسنا نضحك بداية، كلٌّ يروي قصة طريفة مرّ بها، عن صديق أبدى غيرة غير متقنة الإخفاء، أو عبّر عن إعجاب مشوب بالمرارة.
المفاجئ ليس أن الحسد موجود بين الأصدقاء، بل أن وجوده بات مألوفاً إلى حدّ أننا لم نعد نشعر بخطورته. نراه، نبتسم له، ونسميه "طبيعي"، وكأن الغيرة غريزة لا علاج لها. نضحك منه مرة، ونتغاضى عنه مرات، ونحاول تبريره أحياناً. لكن الحقيقة أن الحاسد لا يحتاج إلى ظرف، يكفيه أن يرى غيره ناجحاً، متألقاً، سعيداً… حتى تبدأ نيران قلبه بالاشتعال، دون أن ينتبه أن الدخان وحده كفيل بخنق العلاقة.
أحد الأصدقاء تحدّث عن ترقية حصل عليها في عمله، فإذا بصديقه المقرب يعلّق بكل خفة دم: "أكيد واسطة"، قالها وضحك، وكأن الطعنة التي وجهها كانت طرفة. وآخرون ذكروا مواقف شبيهة، تهنئة باردة، نظرات مصقولة بالشك، تراجع مفاجئ في العلاقة عقب كل إنجاز، وكأن النجاح يُعدّ خيانة في عُرف بعض الناس.
المؤلم في حسد الأصدقاء ليس الغيرة ذاتها، بل السذاجة التي يُحاولون تغليفها بها. كلمات ناعمة، ملامح متماسكة، لكنك تشعر أن الروح ترتجف من الداخل، وأن القلب يقول ما لا تقوله الشفاه.
الأسوأ من الحسد ذاته، هو غياب الوعي به. أن ترى من كان أقرب الناس إليك، يتحول إلى شخص لا يعرف كيف يُسيطر على مشاعره، لا يملك أدنى فكرة عن تهذيب نفسه أو وزن كلماته. لا يستوعب أن الغيرة شعور طبيعي، لكنها تصبح سامة حين تُترك بلا رادع، وتُترجم إلى تصرفات صبيانية تُفسد علاقات ناضجة.
أليست حسرة كبرى أن يخسر إنسان صديقاً عاش معه سنوات طويلة، فقط لأنه لم يتعلم كيف يُنظّف قلبه؟
أما الإنسان الواعي، فإنه حين يشعر بشيء من الغيرة، يتوقف، يتأمل، يراجع دوافعه. يسأل نفسه: "هل أنا منزعج لأنه أخطأ، أم لأن نجاحه يُشعرني بالنقص؟" يهدّئ من غليانه، يهذب لسانه، ويحفظ على نفسه نقاء علاقته. لأن العقل يُمسك بزمام القلب، فلا يدعه يتمادى، ولا يسمح له أن يقطع روابط سنوات بلحظة انفعال.
ومن يقرأ كثيراً، ويعيش مع الأفكار، يعرف أن المقارنة قاتلة، وأن الصداقة أثمن من أن تُذبح على مذبح الغيرة. القراءة تُهذّبك، لا لأنها تملأك معلومات، بل لأنها تجعلك ترى نفسك من بعيد، وتخجل حين تجد فيك ما كنت تنتقده في غيرك.
الصداقة الحقيقية لا تُختبر في الحزن، فالجميع يتعاطف مع الباكي، لكن الفرح هو الغربال الحقيقي. كم من صديق ربّت على كتفك حين سقطت، ثم اختفى حين وقفت! لأن الفرح يفضح، ويكشف من يراك نِدّاً لا حبيباً. الصديق الحقيقي هو من يفرح لك كأنك هو، ويصفّق لك دون أن يقارن، ويحتفل بك دون أن يشعر أن إنجازك خصمٌ من رصيده.
علينا أن نراجع أنفسنا، لا لنُحصي عدد الحاسدين في محيطنا، بل لنسأل: هل نحن نغار؟ وهل نكتم غيرتنا حتى لا تجرح؟ وهل نفرح للآخرين كما نحب أن يفرحوا لنا؟ لأن القلب الضيق لا يُنقذه اتساع الابتسامة، والعين الحاسدة لا يلمع فيها نور الحب، مهما تلألأت بالادّعاء.
فما أجمل أن نكون ممن يفرحون لغيرهم، لا لأننا نملك أكثر، بل لأننا نملك قلوباً نظيفة لا تعرف السواد. وما أصفى الصداقات التي تُبنى على الفرح الصادق، لا على المقارنة الخفية، ولا على الحذر من أن يكون لصديقنا جناحٌ أطول.
كما قال ميخائيل نعيمة: «الصديق الحقيقي هو الذي تتضخّم في عينه محاسنك وتتقلّص معايبك، والذي لا يحسدك إذا كنت أغنى منه في أي ناحية من النواحي، بل يتمنى لك المزيد، ولا يكبر عليك إذا كان أغنى منك، بل يجعلك تشعر كما لو كنت أنت الغني وكان هو الفقير».
أما أولئك الذين يغارون منا في الخفاء، ويهنّئوننا بأصوات مرتجفة، ثم ينسحبون فجأة وكأنهم لم يكونوا… فنسأل الله أن يهديهم إلى نفوس أنقى، أو يهدينا إلى نسيانهم.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: حرب ترامب التجارية وقف الأب عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية مقالات
إقرأ أيضاً: