قد يرى البعض بأن العنوان غريب بعض الشيء، ولكن كما يقال قديما «إذا عرف السبب بطل العجب»، ومفاد ذلك أن بعض المتقاعدين ما زال الواحد منهم يحاول أن يثبت وجوده في بيئة العمل التي خرج منها وذلك من خلال تتبع أخبار زملائه في العمل، ويهتم بكل صغيرة وكبيرة تدور في المحيط الذي انسلخ منه منذ فترة زمنية، ويحرص كل الحرص على معرفة الحوارات التي تدور في أروقة مكانٍ كان ذات يوم يسرح ويمرح فيه.
يغلب عليه جنون الحضور في المكان الذي انقطع عنه بعد أن سلم كل متعلقاته أو همزات الوصل التي تربطه كموظف في المكان الذي قضى فيه سنوات طويله من حياته، الآن أصبح غائبا عن أجواء العمل لكنه مع كل هذه الحقائق لا يتنازل أبدا عن مناقشة من يلقاه في طريقه من زملاء الماضي، يفتح سجلات المعاملات يتذكر إنجازاته ويناقش كل شاردة وواردة، يبهرك أنه ما زال متابعًا لحركة الموظفين خاصة عندما يخبرك بأن فلانا أخذ إجازته السنوية، وآخر غاضب من مديره، وأن موظفا ثالثا لا يقوم بواجبه المعهود، والكثير من القصص والحكايات التي لا جدوى من متابعتها أو إشغال الذات بها في وقت كان يجب عليه أن يوجه أنظاره إلى حياته الخاصة وأن يستريح ذهنيا وعاطفيا بحيث لا يربط نفسه بأمور قد مضت وانتهت من حياته.
العجيب في الأمر، أن البعض يتجاوز فضوله حدودا متقدمة، فيتنقل البعض من اتصال إلى آخر مع زملائه السابقين لدرجة أن بعضهم أصبح يتعمد عدم الرد على اتصالاته التي ليس هدفها إلقاء التحية أو الاطمئنان على أصدقائه بقدر ما يتمنى أن يعرف ما الذي يحدث في المكان الذي خرجه منه سواء برغبته أو بحسب قانون التقاعد المرتبط بالوظيفة.
وبعض المتقاعدين يصاب بحالة من التذمر والسخط على عدم حرص البعض عن تناول الجانب الوظيفي في حواراتهم الجانبية، فبعض الناس يتهرب من الإجابة عن بعض الأسئلة التي تخص العمل، والبعض يتعمد تقليل مدة المحادثة الهاتفية أو اللقاءات الجانبية حتى لا ينقل للآخرين أسرار عمله التي يبحث عنها البعض، بعض الذين خرجوا من العمل يتصل بزملائه السابقين من أجل أن يسألهم عن خطط العمل ومدى تأثره بخروجه، ويناقشهم ويقترح عليهم أجندة قديمة لأنه يعتنق مبدأ «الناصح الأمين في نظره للآخرين»، ويخبرهم بماذا يجب عليهم فعله أو أن يكون الحال هكذا أو لا يكون، والبعض للأسف الشديد - لا يتردد أن يحرض بعض الموظفين على بعضهم البعض، وكأنه يحاول أن ينتقم منهم بهذا الأسلوب.
إذا كان التقاعد هو مرحلة أخرى يذهب إليها الموظف سواء ممن وصل إلى سن التقاعد المرتبط بالعمر وهو «ستون عاما»، أو الذي خرج بسبب ظروف المرض أو المدة المحددة في مجال العمل وغيرها من أحكام التقاعد، فمن الواجب على هذا المتقاعد أن يترك «الخلق للخالق»، وأن يهتم بنفسه أولا، وبحياته الجديدة وأن ينظم أموره لاستكمال دورة الحياة في مرحلة ما بعد التقاعد من العمل.
وعليه ألا يحاول أن يلملم الأخبار من هنا وهناك ليشبع رغبة الفضول التي تمتلكه وتدفعه إلى مراقبة الآخرين والاهتمام بشؤونهم والسعي إلى ربط نفسه مرة أخرى بحبال العمل في وقت أصبح هو خارج نطاقها.
حتى هذه اللحظة لا يزال أمامنا طابور طويل من بعض المتقاعدين يجلسون على «المقاهي» جل حديثهم ينصب حول بيئة العمل التي خرجوا منها، ينتقدون أداء عمل هذا، ويثنون على آخر، ويتذمرون من سلوك بقية الزملاء، وبعضهم يشتكون من القطيعة في التواصل ما بينهم وبين زملائهم رغم أنهم يدركون بأن الحياة مليئة بالمشاغل، وأن العلاقات تضعف عندما يخرج الإنسان من نطاق عمله ويتجه إلى حياة أخرى.
ما الذي يدفع البعض لاستحضار تجربة ماضية بواقع جديد ؟
نعلم أن بعض الموظفين يشكل العمل جزءا كبيرا من اهتماماته خاصة إذا أمضى سنوات طويلة بالروتين اليومي نفسه، والبعض يصبح لديه إدمان مبالغ فيه للأماكن التي مكث فيها طويلا، فلا يتخيل أن يعيش بدون أن يصحو صباحا ويذهب إلى عمله وأن يلتقي بزملائه !
هذا الارتباط ربما هو أمر نفسي، ولكن من الواجب على الإنسان أن يعي بأنه يمر بمراحل في حياته، قد لا يألفها في أول الأمر ولكن عليه أن يصنع لنفسه عالما مختلفا عما سبق.
عندما يصل الإنسان إلى مرحلة ما بعد الستين عاما، يجب أن يغير الكثير من اهتماماته وأن يعي المرحلة التي يدخل فيها والأمور التي يجب عليه أن يسير عليها، فكل مرحلة عمرية لها ما يميزها عن غيرها، فالله سبحانه وتعالى يقسم الأرزاق بين البشر، وطالما خرجت من العمل معافى من الأمراض والشرور عليك أن تستريح من تلك المرحلة لتبدأ مرحلة أخرى تشعر فيها بالراحة والسكينة وتقبل الواقع الذي تعيش فيه دون أن تؤذي نفسك بمشكلات الآخرين أو أن تبحث عن مشكلات جديدة تشغل بها نفسك وتعكر بها مزاجك كل يوم.
وتفكر قليلا لماذا وجد التقاعد ؟ هل من أجل شقاء الموظف أم ليستريح من أعباء ربما كانت تشكل حملا ثقيلا عليه؟
وطالما نحن مقتنعون بأن التقاعد مرحلة أخرى في الحياة، على المتقاعد أن يُسعد نفسه وأن تكون اهتماماته مختلفة عن مراقبة الآخرين والانغماس مرة أخرى في مشكلات العمل والموظفين.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
سيكولوجيا الإنكار.. لماذا يخاف البعض رؤية ما يحدث في غزة؟
لا تكمن مأساة الشعب الفلسطيني بقطاع غزة في بشاعة الإبادة التي يتعرضون لها فقط، ولكن في إنكارها، وفي إرادة بعض القوى السياسية بالعالم ألا تُرى المأساة، وفي مصادرة حق الضحايا في أن يراهم العالم بوصفهم ضحايا لا أعراضا جانبية أو مجرد أرقام لا دلالة لها، وفي انتزاع حق من يعترفون بالمأساة في تسميتها باسمها الحقيقي: مأساة إنسانية مرعبة تهز الضمير الإنساني بأسره، وليس الضمير العربي فقط. لذلك تبدو الإبادة في غزة مزدوجة: قتل للجسد، وقتل للذكرى ومحو لها.
وهذا الصمت التاريخي الفظيع أمام ما يحدث لا يمكن أن يكون مجرد أثر جانبي، إنه الامتداد الأكثر إيلاما لفعل الإبادة ذاته.
منذ أن بدأ تدوين التاريخ السياسي الحديث، أصبح للضحية، في الغالب، وجه محدد وألم معترف به، فيما ظلت آلام الشعوب المستعمرة والفئات المهمشة تذوي في صمت ثقيل، كأنها أصداء بعيدة لا تليق بالسرد الرسمي. في حالة غزة، يتكرر هذا الأمر بشكل مخيف: القتل يحدث على مرأى من العالم موثقا بالصوت والصورة وبنقل مباشر في بعض الحالات، ومع ذلك، يُفرض حوله نوع من «الصمت والتجاهل»، صمت لا يبدو أنه نابع من الجهل، ولكن من رغبة واعية في الإنكار.
في الكثير من الأنظمة السياسية الحديثة، لا يكفي أن تسحق عدوك عسكريا؛ يجب أن تنزع عنه صفة الضحية، وأن تفرغه من رمزيته الإنسانية. يصبح القتل عندئذ مجرد حدث هامشي في سردية أكبر تتحدث عن الأمن، أو عن «مكافحة الإرهاب»، أو عن «حق الدفاع المشروع». وهكذا تتحول الضحية إلى متهم، ويصبح موته مجرد سياق لغوي يضاف هامشيا في نهاية تقرير إخباري لا يكاد يتوقف عنده أحد خاصة وأنه يغلف بسياق لغوي يجعل القارئ يمعن في الشك ويبتعد كثيرا عن اليقين.
والإنكار هنا ممارسة ثقافية ومؤسسية مدروسة وليس حدثا عابرا أو هامشيا يُجردُ عبرها الخطابُ الإعلامي الفلسطينيين من ألمهم الخاص، ومن إنسانيتهم المشتركة مع بقية البشر. ويتحدث علماء الاجتماع عن هذه الظاهرة التي يسمونها «التجريد من الإنسانية» باعتبارها أسلوبا لصناعة الحرب والترويج الاجتماعي لها، حيث يمكن أن ترى القتل باعتباره إجراء قانونيا وضرورة لا مفر منها وليس بوصفه فعلا مأساويا وجريمة إنسانية عظيمة.
وفي سياق رسم المشهد واكتمال هذه البنية السردية لا بد من التشكيك في عدد الضحايا أنفسهم، كأن كثرة العدد تهديد للرواية لا دليل على المأساة، ونتذكر هنا حين أعرب الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن عن «عدم ثقته» بالأرقام التي تنشرها وزارة الصحة في غزة عن أعداد القتلى، رغم اعتماد هذه الأرقام لعقود من قبل الأمم المتحدة ومنظمات الإغاثة الدولية. أما مجلس النواب الأمريكي فذهب أبعد من ذلك، حين صوت في يونيو 2024 لصالح تعديل يحظر على وزارة الخارجية الأمريكية الاستناد إلى هذه الأرقام. ووصفت النائبة في الحزب الديمقراطي رشيدة طليب ذلك التصويت حينها بأنه «محاولة منهجية لإنكار الإبادة الجماعية»، ورفعت خلال خطاب نتنياهو في الكونجرس لافتة باللونين الأبيض والأسود مكتوب على أحد جانبيها: «مجرم حرب»، والجانب الآخر: «مذنب بارتكاب جرائم إبادة جماعية» وفق ما نقل موقع «بي بي سي عربي».
ونجد خطاب «التجريد من الإنسانية» بشكل أكثر فظاعة في تصريحات النائب الجمهوري ماكس ميلر عندما قال إن «فلسطين على وشك أن تتحول إلى موقف سيارات»، داعيا إلى خوض الحرب «دون قواعد اشتباك»، ومشككا في كون الضحايا مدنيين أصلا. أما النائبة ميشيل سالزمان فقد عبرت صراحة عن أمنيتها حين قالت ردا على دعوة لوقف إطلاق النار: «جميعهم»، في إشارة إلى أن جميع الفلسطينيين يجب أن يُقتلوا، بلا استثناء!
لا يمكن النظر إلى هذه التصريحات باعتبارها زلات لسان أو تطرفا هامشيا. إنها، في عمقها، التعبير العلني عن منظومة أيديولوجية ترى في الفلسطينيين عبئا تاريخيا يجب التخلص منه لا مأساة يجب التوقف عندها.
بهذا المعنى، يتجاوز الإنكار كونه نفيا للحدث؛ إنه إعادة تفسير للعالم بحيث يبدو العنف عدالة، والمذبحة دفاعا عن النفس، والضحايا مجرد «أضرار جانبية». ويحضر هنا طرح المفكر إدوارد سعيد حول «الاستشراق الجديد»، حيث لا يُنظر إلى الآخر العربي والفلسطيني بوصفه ذاتا لها حقوقها، بل بوصفه تهديدا أو عبئا حضاريا، يجب تحييده أو محوه حتى يُحفظ النظام الأخلاقي المصمم غربيًا.
وإذا كان هذا الإنكار يمارس مهمته في الخطاب الرسمي، فإن هناك لحظات ينفجر فيها إلى غضب فج عند المواجهة المباشرة، والمثير، حقا، أن يصل الأمر ببعض الساسة والمسؤولين إلى الثورة والشعور العميق بالاستفزاز الذي لا يمكن كتمه أو إخفاؤه حين يواجهون بحجم المأساة الإنسانية في قطاع غزة وتذكر الحقائق وعدد الضحايا الأبرياء. وقد حضرت شخصيا بعضا من هذه الثورات سواء أمام شاشات التلفزيون أو في جلسات نقاشية مغلقة. لا يبدو الغضب الذي يبديه هؤلاء مجرد دفاع سياسي عادي، إنه يكشف عن جرح أخلاقي غائر تعجز الكلمات عن ترميمه. وحين تتم مواجهتهم بحقائق المذابح والانتهاكات، يشعرون أن هذه الحقائق تفضح الهوة بين ما يدّعون تمثيله كقيم عالمية وبين انحيازاتهم الفعلية. وفي مثل هذه اللحظات، تتحول الحقائق إلى تهديد للهُوية الأخلاقية نفسها، لا مجرد معطيات يمكن نقاشها أو تفنيدها. ولهذا يظهر الاستفزاز الشديد والرغبة في الإنكار، ومحاولة مصادرة حتى الحق في الحديث عن الضحايا، وكأنّ ذكرهم يعيد فتح جرح أخلاقي لم يعد من السهل تغطيته بالشعارات المعتادة عن «الدفاع عن النفس» أو «مكافحة الإرهاب». إنها لحظة مواجهة يصعب فيها على المنظومة المسيطرة أن تتحمل أن تُرى على حقيقتها بعيدا عن أقنعتها الخطابية.
هنا تكمن مأساة غزة الحقيقية، في هذا الانهيار الجماعي للحس الأخلاقي، حينما تصبح رؤية الضحية نفسها فعلا مستفزا، ويصبح الجدل حول من يسمح له أن يكون إنسانا كاملا، ومن يحذف من سجل الإنسانية دون أن يكون له حتى مجرد الحق في تسجيل اعتراض أو ذكر سرديته.
لذلك، لا يبدو المطلوب الآن مجرد وقف إطلاق النار، أو إدخال المساعدات الإنسانية، رغم أهمية ذلك وضرورته القصوى، بل أن يُكسر هذا الجدار السميك من الإنكار، وأن تُعاد للضحية مكانتها الإنسانية البديهية، بعيدا عن الحسابات السياسية وألاعيب الخطاب الإعلامية.. وأن يُقال، ببساطة لا تحتمل المساومة، إن الموت، حيثما وقع، يظل الشاهد الأخير على فشل العالم في حماية إنسانيته المشتركة، سواء كان عدد الضحايا 50 ألفا أو 10 آلاف.
عاصم الشيديرئيس تحرير جريدة «عمان»