غزة في لحظة فارقة.. هل تتحرك روسيا والصين؟
تاريخ النشر: 3rd, April 2025 GMT
إلى ما قبل طوفان الأقصى (7 أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، استقر في وعي صُناع السياسات في الإدارات المتعاقبة على البيت الأبيض، وبالتحديد منذ أوباما واللاحقين عليه، أن الصّراعَ الإسرائيلي- الفلسطيني، لم يعد بحاجةٍ إلى الاستثمار السياسي في منطقة الشرق الأوسط.
يستند ذلك إلى أن المساحات العربية الصلبة قد باتت رخوةً إلى حدٍّ بعيدٍ أمام سيناريوهات التطبيع الكبرى والأكثر جُرأةً، وهي المناطقُ التي انتقلت إليها مراكزُ التأثير السياسي والحضاري، وصاحبة "الكلمة المسموعة"، والهيبة الإقليمية التي لا يمكن تجاهلُها حال نضجَ توافقٌ دوليٌّ وإقليميٌّ على صورةٍ مقبولةٍ لمستقبل المنطقة.
وذلك بالتزامن مع قناعات الإدارة الأميركية بأن المقاومة ـ قبل (7 أكتوبر/ تشرين الأول) ـ أضعفُ من أن تثير الفوضى، ويمكن السيطرة على "العنف المُحتمل" والمتوقع بطبيعة الحال، بالطرق والخبرات المتوارثة.
انطلاقًا من هذه المُقاربة، أعادت الولاياتُ المتحدة ترتيبَ أجندة أولوياتها، وأدرجت "المحور الآسيوي" على رأسها، مع خفض الاستثمار السياسي والعسكري الأميركي في الشرق الأوسط، حتى تتمكنَ من التركيز بشكلٍ أكبر على التحديات المتزايدة للبيئة الأمنية في منطقة المحيطَين: الهندي والهادئ، وخاصة الصعود الصيني، الذي ما انفك الخطابُ السياسي الرسمي الأميركي يصفُهُ بـ"العدواني".
إعلانبيدَ أن حرب غزة قلبت هذه الإستراتيجية رأسًا على عقب، وأجبرت الولايات المتحدة على الانخراط بشكلٍ أكبر في مشاكل المنطقة، أكثر من أي وقت مضى.
لم تنخرط واشنطن فقط في "حل" الأزمة، كما دأبت على تقديم صورتها إلى العالم، وإنما أصبحت شريكًا رئيسيًّا في حرب الإبادة. لم توفر الغطاءَ السياسي والدبلوماسي للتوحّش الإسرائيلي وحمايته من الملاحقات القانونية فحسب، بل وفرت الدعمَ اللوجيستي والاستخباراتي وملأت مخازن السلاح الإسرائيلية بما لم تستخدمه الإدارة الأميركية ذاتُها في أيٍّ من الحروب التي خاضتها خارج حدودها، فضلًا عن استخدام حق النقض (الفيتو) ضد قرارات مجلس الأمن، في مواجهة تزايد الخسائر البشرية والأدلة على اللامبالاة الإسرائيلية الصادمة تجاه الضحايا الفلسطينيين.
أضاف ذلك الدور المزيدَ من الأضرار الجسيمة بالمكانة الأميركية في المنطقة، والتي لم تكن أصلًا عاليةً على الإطلاق، ترتب عليها فراغٌ كان من المتوقع بالتبعية أن تتمددَ فيه القوتان العالميتان الصاعدتان: روسيا والصين، ولو من قبيل امتلاك أوراق "المشاغبة بالمثل"؛ لتخفيف الضغط الأميركي عليهما في أوكرانيا وتايوان على الترتيب.
الثابت تاريخيًا أن الصين، مُنذ ماو تسي تونغ (1893 ـ 1976)، وهي تدعمُ القضيةَ الفلسطينية، من مُنطلق أن كل ما تؤيده الولايات المتحدة، يتعين على الصين أن تقفَ ضده، بوصفها داعمًا رئيسيًا للجنوب العالمي، والذي يشملُ معظم الدول العربية التي تحتفظ ـ في ذات الوقت ـ بعلاقات ودية مع الصين، والتي توفر معظم احتياجات الأخيرة من النّفط، فضلًا عن تعويض القلق في العالمين: الإسلامي والعربي بشأن معاملة بكين للمسلمين الإيغور في منطقة شينجيانغ شمال غرب الصين، فيما تحتلُّ المركزَ من مبادرة "الحزام والطريق" (Belt and Road Initiative)، وهو مشروعُ البنية الأساسية الطموح الذي أطلقه الرئيس شي جين بينغ؛ بهدف ربط الأسواق في جميع أنحاء العالم، وبالتالي توسيع نفوذ بكين.
إعلانبالتوازي، فإن القضية الفلسطينية لم تتغير منزلتُها في سياسات "الاتحاد السوفياتي" سابقًا طوال الحرب الباردة، ثم روسيا لاحقًا من بعده: فالنّضال الفلسطيني من أجل الاستقلال، وجدَ في الفكر السياسي الروسي ـ الذي ارتبطَ بالحركات المناهضة للاستعمار ـ حاضنةً لشرعيةٍ لم تسلم من الانقسام الدولي بشأنها، والملاحقات الأمنية والتصفية الجسدية والاغتيالات.
ظل هذا الإرث حاضرًا ـ وإن بدرجةٍ أقل ـ في خزانة أدوات موسكو ما بعد الحرب الباردة، وذلك لخصم ما يسعها خصمه من الحضور الغربي، وعلى رأسه الأميركي، في المنطقة العربية، فاحتفظت في العقود الأربعة الأخيرة بعلاقاتٍ متوازيةٍ مع مخرجات التحولات العنيفة في منطقةٍ شديدة الهشاشة، وتتوالدُ فيها التنظيماتُ المقاتلة بشكلٍ يُغري أيةَ قوى إقليمية أو عالميةٍ على أن تُضيفَها إلى حُزمة أوراق اللعب والحضور والتأثير في أوعية وقنوات تمرير القرارات الدولية الكبرى. فاحتفظت موسكو بعلاقاتٍ موازية ـ ولكن لا تسلم منَ الاختلالات ـ مع القوى المتناقضة: إسرائيل، والفلسطينيين، وجماعاتٍ مثل حماس، وحزب الله، ومع إيران، والقوى العربية الكبرى.
بيدَ أنها ظلت علاقاتٍ "على حَرف" أو "على الحافة"، يعوزُها العمق والثقةُ والاعتماد على روسيا كسندٍ دوليٍّ موثوقٍ به.
في بداية حريق غزةَ، بذلت موسكو وبكين جهودًا جادةً لتعزيز مصداقيتهما الدبلوماسية، وإظهار قدرتهما على القيادة، وقد فعلَ كلٌّ منهما ذلك بطرقٍ مختلفة بشكلٍ لافتٍ للنظر.
فبعدَ وقتٍ قصيرٍ من بدء العدوان الإسرائيلي الانتقامي والهمجي على القطاع في أواخر (أكتوبر/ تشرين الأول 2023)، أعلن وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف أن الهجومَ الإسرائيلي ينتهكُ القانونَ الدولي؛ وقارنَ الرئيسُ بوتين حصارَ إسرائيل لغزةَ، بحصار ألمانيا النازية للينينغراد.
إعلانوقد رددَ العديدُ من الشخصيات السياسية والمُشرعين الروس هذا الخط الرسمي، ولم يصدر منهم ـ في الوقت ذاته ـ أيةُ إدانة لهجوم حماس كما فعلت العواصمُ التي تَتبع إثرَ واشنطن شبرًا بشبرٍ وذراعًا بذراع، وذلك قبل خلافاتها العميقة الحالية مع ترامب بعد توليه السلطة، وسلسلة قراراته بالتخلي الناعم عن الناتو (NATO)، وبيع أوكرانيا لبوتين.
وبعدَ ثلاثة أسابيعَ فقط من ضربة حماس في جنوب إسرائيل، استضافت موسكو وفدًا رفيعَ المستوى من الحركة، برئاسة أحد أعضائها المُؤسسين، موسى أبو مرزوق، وعلى الرغم من أن روسيا استقبلت وفودًا من حماس مرتين في وقتٍ سابق من عام 2023، فإن توقيتَ هذه الزيارة اعتُبرَ تحديًا لافتًا لحالة الهياج الغربي، وانفلاته، وانحيازه الفجّ والمُتبجّح لتل أبيب.
بررت الحيثياتُ الروسية الرسميةُ هذا المنحى الجريء ـ أمام الانتقادات الدولية ـ بأنه منَ الضروري، مدُّ جسور التواصل مع كلّ الأطراف، من أجل التوصل لصيغةٍ ترضيها لوقف ما وصفته بـ"العنف" في الأراضي المحتلة.
صحيح أن المفاوضات أسفرت عن إطلاق رهائنَ يحملون الجنسيةَ الروسية، إلا أنها وُصفت حينها بـ"النتائج الهزيلة"، وأنها لم تُسفر عن تأمين دور دبلوماسي لروسيا في حلحلة الأزمة، وندرة أي أفكارٍ روسيةٍ دبلوماسيةٍ بناءة.
وفي حين سجّلت روسيا مانشيتًا بالفونت الأحمر الواضح، عن علاقتها بـ"حماس" بكلّ حمولته ورمزيته وثقله السياسي، جاء الموقفُ الصينيُّ فضفاضًا ولا يمكنُ البناءُ عليه من جهة، كما لا يعكسُ أي طموحٍ صينيٍّ كبديلٍ مُحتمل للحضور الأميركي الذي اتسعت مساحةُ الكراهية له في العالم العربي، فقد اتبعت بكين دبلوماسيةَ "لا مع ولا ضد"، والتي تشبه ـ إلى حدٍّ بعيد ـ الماكينات الثقيلة صينية الصنع!
وبصرف النظر عن جهودهما المُعلنة على نطاقٍ واسع لاستمالة الحكومات العربية والرأي العام، وتعزيز صورتهما الدولية على حساب واشنطن، لم تثبت موسكو أو بكين قدرتَهما على لعب الدُّور الدبلوماسي الذي قد يساعدُ في تهيئة المسرح لأفقٍ سياسي قد يؤدي إلى تسويةٍ نهائية للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.
إعلانكان الرئيس الأميركي السابق جو بايدن، ووزير خارجيته أنتوني بلينكن ـ ومن بعدهما ترامب وفريقه ـ هما الأكثر انخراطًا مع الحكومات الإقليمية، وليس بوتين أو الزعيم الصيني شي جين بينغ، أو وزراء خارجيتهما.
وكانت واشنطن – وليس موسكو أو بكين- هي القادرةَ على العمل بشكلٍ وثيقٍ مع الدوحة، والقاهرة، وتل أبيب، لهندسة سلسلةٍ من فترات التوقف الإنسانية في القتال، وتحقيق تبادل إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى حماس وإسرائيل.
ولا تزال الأطرافُ الإقليميةُ ترى واشنطن وحدها- على مضضٍ في كثيرٍ من الأحيان- قادرةً على القيام بالعمل الشاق المطلوب لإحداث عملية سلامٍ قابلة للتطبيق، إذا اختارت القيام بذلك.
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية
يأخذك الحديث وأنت تتأمل فيلم غيوم لمُزنة المسافر إلى التطور الفني والموضوعي في تجربتها، موضوعا التعددية الثقافية والعرقية في المجتمع العماني كمصدر ثراء غني، تتجه إليه مزنة في استقصائها الطويل، مزيلة وهم ما يفصل بيننا، عبر البحث عن ما يجمع بيننا ويأتلف في نسيج اجتماعي واحد. عبر هذا الثراء العرقي واللغوي نخلق تجانسنا الحقيقي، التجانس المميز لمجتمعنا منذ جذوره التاريخية البعيدة. فنيا يشكل فيلم غيوم تحولا نوعيا تخرج به مزنة عن الطرح الأفقي للتجربة، عن أحكام البداية فتتسلسل الأحداث وصولا إلى نهايتها. فيلم غيوم يخرج عن القوالب التقليدية في السينما منحازا إلى شاعريتها، الغائب والماضي والمفقود هم من يشكل وهج الأحداث، ويدفع بشخوصه إلى المحبة والأسى والفراق والندم، محكومة بالماضي الذي تسدل ظلال أحداثه على الحاضر والمستقبل معا. فنيا ينحاز السيناريو إلى الصورة السينمائية عنه إلى الحوار، الصورة خاصة في تجسيدها المباشر لملامح شخوص الفيلم، قادرة حقا على نقل عواطفهم واختلاجات قلوبهم، سينمائيا تضفي هذه اللغة الجمال السينمائي، الذي تريد مزنة إيصاله إلينا، ما لا يستطيع الحوار نقله عبر السينما.
اختيار مُزنة لطرح تجربتها جبال ظفار، عائدة بنا إلى عام ١٩٧٨م، أي بعد ثلاثة أعوام من نهاية حرب الجبل بعد حرب طويلة استمرّت عشرة أعوام. هذه الحرب هي الماضي الذي يثقل أرواح رعاة الجبل، الماضي الذي يسدل على الحياة مشاعر الفقدان والخوف من عودة الحرب ثانية. الحرب التي تركت في كل منزل قتيلًا، أو قريبًا لقتيل، أحرقت المراعي وفتكت بالإبل مصدر حياة سكانه، والأثقل أنها تركت روح الفرقة بين أبناء الجبل، نظرا لتغير مواقفهم من موقع إلى آخر، ذلك ما نقرأ ثقله في حياة بطل الفيلم دبلان الذي يتحول بعد الحرب إلى رجل منطو على نفسه، يرفض مشاركة الناس أفراحهم وأحزانهم ويقضي معظم وقته في العناية ببندقيته، وملئها بالرصاص حتى تكون جاهزة للقضاء على النمر في أي وقت تتكرر عودة الحرب ثانية إلى جبال ظفار.
مزنة في هذا الفيلم العميق والشاعري في آن تبتعد عن تقديم الرصاص والقصف والقتلى، كما أن المرأة القتيلة لم تظهر في الفيلم أبدا، رغم ظهور ذكراها المتواصل، كهاجس يومي يلازم حياة الأب وابنه عمر وابنته سلمى، المرأة ومقتلها الغامض هي السر المكتوم في الفيلم، ابنها عمر كل ليلة ينام في حضن أخته الكبرى، متخيلا والدته تنام على سحابة بعيدة في السماء، يراقب أباه يوميا أثناء تنظيف وتعمير بندقيته، محاولا أكثر من مرة خطفها منه، دون أن يتبين لنا السبب المباشر لذلك، حتى نجاح اختطافه البندقية في مشهد سينمائي أخاذ، يوجّه فيه عمر البندقية إلى صدر أبيه طالبا منه فك لغز اختفاء أمه، تكون الفرصة مؤاتية آنذاك للأب للاعتراف لابنه وابنته أن الأم قد توفيت برصاصة طائشة أثناء معارك الجبل، دون أن يحدد من أي طرف جاءت الرصاصة، ذكاء مزنة يوقف التجربة برمتها أمام تقييم جديد يكشفه التاريخ في مستقبل الأيام، والوقت ما زال باكرا لإدانة طرف ضد آخر، فقط الخوف من عودة الحرب ثانية، هي النمر الذي يستعد دبلان يوميا لمواجهته. وأخيرا لتعليم ابنه طريقة استخدام البندقية لقتل النمر وحش الحرب قبل وصوله إلى الجبال.
مصدر إيحاء غيوم هي مجموعة من الصور الوثائقية التقطها والدها الفنان موسى المسافر، الذي دون شك عاصر مرارة تلك الأحداث، تكشف لنا جانبا مهما من حياة أبناء الجبل في ظفار أثناء الحرب وبعد انتهائها. من تلك الصور الوثائقية استمدت مزنة هذا الإلهام المتدفق، وصاغت سيناريو فيلم غيوم، الذي يأتي ليس لإدانة طرف دون آخر، بل لإدانة الحروب البشرية برمتها، ذلك لأنها نظرت لنتائجها الوخيمة في عيني دبلان رب العائلة الذي مع خروجه حيا منها إلا أنه خرج مهزوما فاقد القدرة على الحياة، معذبا بالماضي الذي قدمته مزنة كنمر يفترس كل ما أمامه دون تمييز ورحمة.
مزنة تعي جيدا آثار الحروب على تغيير العلاقات الاجتماعية بين البشر، العلاقة بين دبلان وشيخ القبيلة بعد الحرب، ليست هي العلاقة إياها قبل الحرب، يتقدم شيخ القبيلة المتقدم في العمر لخطبة سلمى صبية دبلان، المرتبطة بعلاقة عاطفية مع سالم الصبي الجبلي من جيلها. يقف دبلان وهو راعي الإبل الجبلي موقفا متقدما عندما يرفض تزويج ابنته شيخ القبيلة الثري، مزوجا إياها الصبي الفقير مع مباركة الأب له بحبات من شجرة اللبان الأسطورية والتي تصل محبة أبناء الجبل لها إلى درجة التقديس، نظرا لارتباط استخدامها بطقوس دينية في معابد الأديان الهندية بل وفي معابد الأديان السماوية قديما.
الفيلم ناطق بالشحرية لغة رعاة الجبال بظفار، كان ذلك ضروريا، هذا ما أدركته مزنة، منذ بداية اشتغالها على المشهد السينمائي العماني، بما يحمله من تنوع عرقي وثقافي أخاذ منذ قديم الزمان. قبلها قدمت فيلم شولو الناطق بالسواحيلية وفيلم بشك الوثائقي الناطق بالبلوشية. هي السينمائية التي لا تعترف بفوارق وهمية بين أبناء الوطن الواحد، القادرة على اكتشاف النسيج الاجتماعي المخفي، الرابط أبناءه روحيا على أرض واحدة، وتحت سماء واحدة.
فيلم تشولو، تناقش مُزنة فيه تجربة الانتماء الوطني والحنين إلى الجذور البعيدة خلف البحار، تدور أحداثه في زنجبار، موطن أساسي لهجرة العمانيين عبر التاريخ لقرون مضت، يستقبل تشولو الصبي أخاه عبدالله القادم من عُمان، يعيشان معا توافق البحث عن جذورهم المشتركة، يتعرضان للاعتداء من رجال أفارقة بسبب انتماء عبدالله العربي الواضح في لونه، تتراءى عمان وطنا بعيدا مجهولا لتشولو، أرضا سحرية لن يعود إليها أبدا، يعود عبدالله مع أبيه ويظل تشولو ينظر إلى البحر، إلى السفن وهي تبحر عائدة إلى عمان التي لن يراها أبدا، هكذا تتكرر تجربة الماضي الساكن كقيد يرتبط به المرؤ. ولكن بشكل إيجابي في تشولو عنه في غيوم، مزنة تتجاوز تجربة الحنين النوستالجي إلى الماضي، في الفيلمين تنظر إلى الماضي كقيد يجب علينا كسره والانطلاق إلى المستقبل دون الالتفات إليه. خاصة في مرارة أحداثه كما هو في فيلم غيوم، حيث يبقى الدم الأفريقي العماني المشترك، تجربة حضارة مشتركة أيضا، تغذي النسيج الاجتماعي العماني بخصوبة العطاء في فيلم تشولو، أي أنها تنطلق من الإيجابي في ثراء الوجود العماني بشرق إفريقيا، الثراء الذي دفع بالأفارقة إلى ما هو مثمر، حيث حمل العمانيون معهم الأساليب الحديثة في الزراعة، وارتياد آفاق العمل التجاري، ونشر الدين الإسلامي وغيرها من الدلائل الحضارية المهمة، التي تؤكد إيجابية وجودهم المبكر في شرق إفريقيا. وحش الماضي الذي يصوب له دبلان وابنه عمر البندقية لمواجهته، يحتفظ له تشولو وأخيه عبدالله بمئة قطعة من المندازي الذي خبزته لهما جدتهم الإفريقية، يحشوان فم النمر المفترس بها حتى لا يكون قادرا على افتراسهما معا. ذلك دون شك مشهد طفولي ساحر يؤكد وحدة الأخوين ضد وحش الحرب المأساوية بين العمانيين والأفارقة، أي من المحبة المشتركة بينهما نخلق إمكانية التعايش المشترك والوحش الذي يطعمه الطفلان العماني والأفريقي المندازي، هي الحرب التي خلقت روح الكراهية بينهما، وآن لنا جميعا طي صفحاتها الدموية، نحو خلق عالم أجمل لأجيالنا القادمة.
مُزنة التي جاءت بعد ستين عاما على مأساة خروج العمانيين من شرق إفريقيا بطريقة مأساوية فقد فيها العمانيون الآلاف من أبنائهم ثم أنها جاءت بعد خمسين عاما أيضا بعد نهاية حرب الجبل بظفار، تنصت إلى أوراق التاريخ التي تحفظ لنا ما فقد وتم نسيانه، مؤهلة حقا للذهاب أبعد مستقبلا، نحو تقديم تجارب العطاء العماني المتدفق عبر التاريخ، ورفد السينما العمانية الناشئة بلغة شاعرية متميزة، ذلك حقا جوهر الفن الطليعي الجاد، يضيء كالنجوم ترشد المسافرين في ليل البحار إلى المجهول.
فيلم غيوم /روائي قصير /ناطق بالشحرية/ جائزة أفضل فيلم روائي قصير /المهرجان السينمائي الخليجي ٢٠٢٤م. إخراج مزنة المسافر.
فيلم تشولو/ روائي قصير/ ناطق بالسواحيلية /جائزة أفضل سيناريو /مهرجان أبوظبي السينمائي ٢٠١٤ م. إخراج مزنة المسافر.
سماء عيسى شاعر عُماني