عيد بأي حال عُدت يا عيد؟
تاريخ النشر: 30th, March 2025 GMT
د. ابرهيم بن سالم السيابي
العيد، الذي يُفترض أن يكون فرحةً للمسلمين، يأتي هذا العام مثقلًا بأوجاع غزة؛ حيث تتصاعد ألسنة اللهب بدلًا من أضواء الفرح، وتعلو أصوات القصف بدلًا من تكبيرات العيد. غزة، التي عانت طويلًا من الحصار، تجد نفسها اليوم في قلب حرب إبادة، لا تميز بين طفل وامرأة، ولا بين شيخ وشاب.
ومع كل هذا، تقف الأمة العربية والإسلامية عاجزة، مكتفية ببيانات الشجب والاستنكار، بينما يواصل العالم صمته المخزي، مدعيًا الدفاع عن حقوق الإنسان، لكن فقط عندما يكون الجاني غير إسرائيل، دولة الاحتلال والجرائم المستمرة.
عيدٌ بأيّ حالٍ عُدتَ يا عيد؟ سؤال يطرحه كل قلب موجوع، وكل عين جفت دموعها من هول المشاهد القادمة من غزة، فأي عيد هذا الذي يطرق الأبواب، وليس في البيوت إلا الحداد؟ كيف يجد الفرح طريقه إلى أمهاتٍ فقدن أبناءهن تحت الركام، أو آباءٍ يعجزون عن تأمين كسرة خبز لأطفال جائعين، بينما يفرض الاحتلال حصارًا خانقًا، يمنع حتى دخول الغذاء والدواء؟ كيف تُرفع تكبيرات العيد، وأصوات القصف والغارات تحجب كل صوت، وتغطي على كل مظاهر الحياة؟ أهو عيد حقًا، أم جنازة جماعية لأمة فقدت ضميرها؟
في غزة، لا شيء جديد سوى أن الألم يزداد، والمأساة تتفاقم. أكثر من عام مضى على هذا الحصار القاتل وحرب إبادة يومية والقتلى بالمئات كل يوم، وجرحى بلا علاج، ومشردون بلا مأوى، ومستشفيات خرجت عن الخدمة، إما بسبب القصف المباشر أو بفقدان أبسط مقومات العمل.
وفي رمضان، بينما كان المسلمون في أنحاء العالم ينتظرون موعد الإفطار، كان أهل غزة ينتظرون موعد القصف التالي، فلا أحد هناك يسأل عن زينة العيد، أو ملابس الأطفال الجديدة، أو كعك العيد؛ بل يتساءلون: هل سنعيش حتى صباح العيد؟ هل ستتوقف الغارات قليلًا لنتمكن من دفن شهدائنا؟
رمضان، شهر الرحمة والمغفرة، لم يكن كذلك في عيون دولة الاحتلال لم تحترم إسرائيل حرمة الشهر الفضيل، ولم تتردد في استهداف المساجد وهي تضج بالمصلين؛ بل إنها تعمدت ارتكاب المجازر وقت السحور، ليكون طعام الصائمين وجبتهم الأخيرة. ولم يشفع للأطفال صيامهم، ولم تحمِ النساء دموع دعائهن؛ فالموت كان أسرع إليهم من أي شيء آخر.
العيد في غزة ليس كغيره من الأعياد، اللباس الجديد صار كفنًا، والبيوت التي كانت تزين لاستقباله، تحولت إلى أنقاض، فلا زيارات عائلية؛ لأن العائلات نفسها لم تعد موجودة؛ بيوت بأكملها أُبيدت، وأسر قُصفت دفعة واحدة، ولم يبقَ منها إلا أسماءٌ في سجل الشهداء، ولا صلاة عيد في الساحات، لأن المساجد قد دمرت ، لا ضحكات أطفال، لأن الأطفال أنفسهم صاروا أهدافًا للقتل، فمن نجا من القصف، لم ينجُ من الجوع والحصار.
لكن وسط هذا الخراب، يظل في غزة شيء لا يموت: الصمود، تحت القصف، وسط الأنقاض، وبين مشاهد الدمار، هناك إرادة ترفض الانكسار، وأمل يولد من رحم المأساة. أهل غزة لا يستسلمون؛ بل يحولون الألم إلى قوة، واليأس إلى مقاومة، رغم كل الجراح، سيصلّون بين الركام، ويبتسمون رغم كل شيء، لأنهم يدركون أن الاحتلال قد يحتل الأرض ويدنس المقدسات، لكنه لن يسلبهم العزة والشرف والكرامة.
أما في أمتنا العربية والإسلامية؛ فالحياة تمضي كأن شيئًا لم يكن؛ فالأسواق مزدحمة، والاستعدادات للعيد قائمة، وكأن غزة ليست جزءًا من هذه الأمة، بينما بيانات الشجب والإدانة تصدر بعباراتها المكررة، وهي لا تتجاوز أروقة المجالس. وفي يوم العيد، سيتبادل المسلمون التهاني، ويرفعون أصواتهم بالتكبير، لكن تكبيراتهم لن تصل إلى غزة، ولن يسمعها طفل يبحث عن لقمة تبقيه على قيد الحياة.
عيد بأي حال عدت يا عيد؟ هل أتيت لتفضح صمتنا، أم لتذكرنا بعجزنا؟ أم لتقول لنا إنَّ غزة، رغم الألم، تحتفل بطريقتها الخاصة، بالصمود والبقاء؟ ربما يكون هذا هو العيد الوحيد الذي يحمل معنى في غزة: عيد المقاومة، عيد الإرادة التي لم تنكسر، عيد الصبر الذي لا ينفد، عيد الأمل الذي لا تمحوه قنابل الاحتلال. في غزة، العيد ليس مجرد يوم يُضاف إلى التقويم؛ بل هو كل لحظة يتحدى فيها أهلها الموت، ويرفضون الاستسلام ،ومهما اشتد الظلم، لا بد أن ينجلي و ستبقى غزة، رغم الجراح، رمزًا للصمود، وعنوانًا للحرية القادمة لا محالة فقد يطول ليل القهر، لكن فجر العدل لا بُد أن يبزغ.
في الختام.. ربما هذا العيد ليس كما نريده، لكنه عيد آخر يثبت أن غزة لا تنكسر، وأنها وإنْ نزفت، لن تموت وعلينا أن نرفع أكف الدعاء، ليس فقط من أجل أهل غزة، بل من أجل ضمير الأمة أن يستيقظ، ومن أجل أن يبدل الله حالهم من حالٍ الى حال.
اللهم ارفع عنهم الظلم والحصار، واكتب لشهدائهم الفردوس الأعلى، واشفِ جرحاهم، وكُن لهم وليًّا ونصيرًا. اللهم أبدل خوفهم أمنًا، وحزنهم فرحًا، وضعفهم قوة. اللهم اجعل عيدهم القادم عيد نصر وفرج، عيدًا بلا شهداء جُدد، بلا مجازر، بلا حصار، تحت سماء وأرض حرة بلا احتلال.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ليتني لم أعد..مأساة أبو العبد الذي فقد عائلته شمال غزة في لحظة
لم يكن أبو العبد يتخيل أن عودته إلى منزله المدمر في حي الزيتون شمال غزة، بعد رحلة نزوح شاقة، ستكون بداية لفصل جديد من المأساة التي يعيشها سكان القطاع في ظل الاعتداءات المتواصلة من جانب الاحتلال الإسرائيلي.
فقد كان يظن أن اتفاق وقف إطلاق النار سيمنحه فرصة لالتقاط أنفاسه بين أحبته، لكن سرعان ما عاد القصف ليحطم كل ما تبقى من حياته، ويحول عائلته إلى مجرد ذكريات.
يعيش أبو العبد اليوم في خيمة، تماما كما كان خلال النزوح، لكن الفرق كبير، ففي المرة الأولى كان يحمل أملا بالعودة إلى بيته، أما الآن فقد استشهدت ابنته وأحفاده في لحظة قاسية لم تمهله حتى لوداعهم.
أبو العبد، يعاني من مرض الكلى، ولم يكن بحاجة إلى مأساة جديدة فوق معاناته اليومية. كما يجد نفسه وحيدا، بعدما خسر كل من كان يشاركه الألم والحديث، قائلا إن "كان لي أخ أجلس معه وأفضفض عن همومي، لكنه استشهد أيضا.. الجميع رحلوا.. أصبحوا مجرد ذكرى".
ويختم أبو العبد كلماته بحسرة "ليتني لم أعد.. كنت في النزوح أعيش في خيمة، والآن أعيش في خيمة أخرى، لكنني فقدت كل شيء".