الترابلة مزارعي الجزر والجروف هم من يرفدون المدن الكبيرة مثل العاصمة بالخضرالثمار والفاكهة . يغطي النيل الجزر وبعد انحسار الماء ينموا ما عرف بقش الجزاير ويصل طوله الى اكثر من نصف المتر. يقوم المزارع بحشه ويباع بعشرة الى 15 قرشا للرأس . وفي هذه الفترة ينخفض سعر البرسيم الى 15 قرش بدلا ع 20 ال25 قرشا بسبب منافسة قش الجزائر .

بعد جفاف البرجوبة تتم زراعة الارض بدون الحاجة الى الري . بعد فترة وتشقق الارض الطينية يتم رفع الارض من المترة بانبرو ويعرف بالشادوف كذلك . عبارة عن عمودين رأسيين وعود ثالث افقي يربط العمودين . يأتي عود طويل يثبت على العمود الافقي ويزود بوزن ثقيل وحبل على راسه مزود بدلو او صفيحة . يسحب الحبل الى الاسفل لغراق الدلو في الماء ثم افلات الدلويقوم الثقل في الرأس الاخار برفع الماءوالدلو . يسكب الماء في الجدول الذي يأخذ الماء الى الزرع .
هذه العملية متعبة جدا. من يقوم بها يجب أن يتمتع بقوة جسدية . ولهاذا يوصف الاقوياء ب ،، عب النبرو ،،. ما هو اسوأ من النبرو هو الجوز . الجوز عبارة عن صفيحتين يحملهما المزارع بمرق او عود سميك خلف العنق ويرتكز على الكتفين سميك يتدلى منه حبلان يربطان الصفيحتين . ينزل المزار الى الماء وبعد ملئ الصفيحتين يصعد المزارع او التربال الى الزرف ويسكبالماء في الحيضان ويكر العملية التي هى شاقة ومضنية . وقد يستمر العمل طيلة اليوم من فترات قصيرة للاكل الشرب والراحة . لقد مارست هذه الملية لفترةكنوء من التعلم من الدنيا . هذا لاشيئ مقارنة بمن يقومون بهذا كل حياتهم ..... ارجو أن تتذكرو التربال مزارع الجزر والجروف عدما تلهطون الخضار والفاكهة .
الريح قلب والموج فات الدير
وصلني ايميل كريم من حفيد استاذي واخي مبارك بسطاوي في توتي طيب الله ثراه . للحفيد الشكر ولآل بسطاوي احر التعازي . فلقد حمل الايميل خبر انتقال صلاح مبارك بسطاوي الي جوار ربه .
آل بسطاوي اهلي الذين شرفتني الدنيا بالانتساب اليهم باواصر الصداقة والحب . لقد قلت الكلام المذكور ادناه ، عند انتقال مبارك الي جوار ربه ، وفي عدة مناسبات . كان ذلك زمنا جميلا .
الريح قلب والموج فات الدير
والقريه ميلت وانقطعو العياير
مبارك ود بسطاوي وسط الفوارس امير
كنت بدور اشوفك لكن حكمو المقادير
وعرفت منك البجيبو الله خير في خير
والعمر عاريه ومابربطوه بي سير
واللدر العشاري يوما بياكلو الصير
ماطمعتا يوم في حاجه ومادرت حق الغير
مابتشكي ابدا انت والقليل تشوفو كتير
يالعواي والسماك المابداخلو هجير
يانسمه فجر وفي الفارغه ماك وكير
ساهل حلو وكريم صبرك يغلب العير
حليل سرتقنا داك والطوف وهيط وكبير
وبالنا دايما رايق برمهات ولا امشير
ثابت زي ام كبك والحال بدورلو نفير
نوم يافحل شبهك مابشتلوه كتير
الدير : هو حافة المركب
القريه: الصاري باللهجه السودانيه
العياير: جمع عيار وهو الحبل الذي يشد القريه
اللدر: التمساح
العشاري :مايبلغ طوله عشر ازرع
العواي والسماك: اثنان من آخر منازل المطر
برمهات: شهر الربيع والريح الطيب في السودان
أمشير: شهر البرد ورياح النو
ام كبك: شبكه تثبت بصخور ضخمه في القاع
مبارك بسطاوي كان من اهالي توتي حلوا بسيطا هادئا وهو اكبر مدرس في حياتي لازمته لسنتين ونصف لم يعكر صفوها اي شئ. كان يزرع الجزيرة الهلاليه بين الموردة وجزيرة توتي الكبيره تقابلنا وانا في السابعه عشر من عمري وعمره ضعف ذلك وقتها كان له خمسه من الاطفال اثنين من البنات وثلاثه من الاولاد مرغني وعمر وصلاح. كان يزرع في الراس الطيني في شمال الجزيره التي عرفت بالساري وام كيعان وهي اسماء بعض السواقي القديمه في توتي كنا نزرع البازنجان والباميه والسلج والطماطم دخن الجزائر الذي هو عشب لعرش البيوت وفي الطرح او المنطقه الرمليه كانت لنا مقا شرقيه وغربيه نزرع فيهم البطيخ والعجور والكورجيجه(بتعطيش الجيم) وتعرف للعامه بقرع كوسه ولان والده كان صاحب عطاء تشغيل معدية توتي ومعديتين صغيرتين بين توتي وبحري فلقد تعلمت علي يد الريس مرغني الذي يحمل شلوخ الشايقيه وهو من ود راوه تشغيل المعديه وعندما صرت في الثامنه عشر كنت ادير المعديه لوحدي في بعض الاحيان عندما يكون الريس مرتاحا في القيلوله او كنت اساعد الريس عندما يبلط الريح لجر المركب محملا بالدواب والبشر الي برابوالبتول منطقه البرلمان السوداني الآن ثم التجديف بقوة الي المشرع .
وهياني هذا للاختلاط بالحواته والنواته وصرت وكاني احدهم .
اتصور مبارك وهو مكبا علي عمله بجد ماسكا المسحه وهي طوريه عريضه لحفر كونيه في الرمل وهي حفره تملاء بالماروق وهي المخلفات البشريه ونبذر فيها البذور .
مبارك بسطاوي, الحاج, شرف حريقه, خوجلي رجلان وابودبوره والحواته العم الغول , قرض وحجير هم البسطاء الذين صنعوا ويصنعون الوطن بدون جعجعه. كرماء احرار كالسمك في النهر او الطير في السماء رزقهم في رحم الغيب الا انهم شجعان لايساومون صادقون مع نفسهم ومع الاخرين لا يسالون كثيرا .
مبارك بسطاوي تقبلني بدون ان يسالني من انا ومن اين اتيت ولماذا اتواجد معه وتقبلني الاخرون وصار لنا سرتق اومركب حراز صغير بقماش ابيض نظيف وقبلها كان لنا طوف كبير من الطرور نستعمله في رمي الصريمه وهي مئات السنارات مربوطه في خيط قوي.
المني ان اسمع خبر موت مبارك بسطاوي قبل ايام فعندما حضر الهادي من كوبنهاجن لقضاء نهايه الاسبوع وفي محطة القطار قابل الاخ ابي وهو من توتي ويحضر الان في جامعه غوتنبوري وطلب منه ان يبلغني ان مبارك قد غادرنا . لم اقابل ابي وقتها ولكن كنت قد افردت فصلا في كتاب حكاوي ام درمان لمبارك بسطاوي واهل توتي
رحم الله مبارك
شوقي بدري
اقتباس

نحن الترابلة .. بقلم: شوقي بدري
عندما عدت للاستقرار فى السودان فى أيام الديمقراطية الأخيرة ، لاحظت ان الأطفال وحتى الكبار ، قد انفصلوا عن الواقع السودانى . أهل المدن كانوا يأكلون الخضار والصلطات والطبيخ بدون أن يفكروا من أين أتى كل هذا . وليس هنالك من يهتم بمن يزرع ما نأكله ونلتهمه بنهم . قطف الباميه الذى يحدث كل يومين كان يجعل المساحه بين السبابه والابهام فى اليد ، فى شكل مبرد خشابى بسبب ( الشرا ) . وهو فى باميه الفرك اصعب من باميه الطبيخ الصغيره وإن كانت باميه الفرك ارخص بعشرين فى المائه او خمسه وعشرين فى المائه من باميه الطبيخ . ونحن نلتهم الباميه مفروكه وطبيخ ولا نفكر فى معاناة المزارع او التربال . فالناس يظنون ان الخضار يأتي من كوكب آخر. ولان القطف يحدث فى المساء فكنا نسرع فى العمل قبل المغرب . ونعمل باليدين الاثنين وتصير اليدان خشنتين . وعندما نسلم على الآخرين تلاحظ استغرابهم .
أستاذى مبارك بسطاوى طيب الله ثراه ، كان يقول لى ( يا شوقى شغل التربال ما بيخلص . تصحى من الفجر للمغرب ، وبكرة تجى تانى . ويوم تلقط ويوم تودى السوق . ) فلقد كنا نخلص بعد مغيب الشمس . الا أنها كانت أجمل فترة فى حياتى . ولقد كنت أجتر هذه الذكريات مع الابن عمر بسطاوى عندما أتى الى السويد ليحضر دراسات عليا . مبارك رحمة الله عليه والذى كان مزارعا وريس المعدية وجزارا مع والده فى بعض الأحيان يستعمل كلمة تربال وهى تعنى من يعمل فى الأرض كالساقية أو النبرو أو الجروف . وأظنها تأتى من التراب اوالتربة .
الشكر والتحية لأستاذى مبارك بسطاوى رحمة الله عليه وكل أهل توتى. وبعد الأحيان أتخاطب مع الفنان عزيز خطاب في هولاند، والابن هزاع الرجل الجنتلمان والذى يسكن الآن فى الدنمارك ..
العيد يقترب الآن وأتذكر هذا الموضوع الذى كتبته قبل بضع سنوات
فى يوم العيد وقبل أربعين سنه بالظبط وانا على بعد خطوات من العشرين قضيت اليوم من الصبح الى المساء مرتدياً سروالاً عارى الصدر فى منتزه المقرن ابيع البطيخ مساعداً مبارك بسطاوى برفقه صديقى الحبيب الميكانيكى من المورده عثمان ناصر بلال وبعد ان بعنا مركباً كاملاً رجعنا بمركبنا الى الجزيره لنأكل أول وجبه بشهيه عارمه عباره عن كسره بي مويه . ونحن سعداء لبيع كل البطيخ .
وهذا العيد يمر ومبارك قد فارقنا . ستكون ذكراه العاطره معى لبقيه حياتى . أحد ابناء مبارك يسوق البنطون بين توتى والخرطوم ويقال انه يشبه والده . لم اقابل مبارك منذ ظهر الخميس يوم 17 شهر 9 سنه 1964 . جزاه الله خيراً على الدروس التى علمنى لها.
كان لمبارك طيب الله ثراه حمارا قميئا ، استبدله بحمار قوي. الا ان بطن الحمار انتفخت بصورة مزعجة وصار ركوبه متعبا. فاقترحت علي مبارك بيعة . فرفض ان يبلي شخص آخر بمشكلته . واقترحوا علينا تغطيس الحمار في النهر للتخلص من الغازات . فاخذناه لكونية , والكونية هي الحفرة التي تكونها الامواج في الرمل . وكنت انا اضغط علي ظهر الحمار ومبارك يحاول تغطيس راسه . وكان الحمار يعض يد مبارك الذي كان يقاوم الالم بدون صوت . واخير اطعمنا الحمار ثمار الحنظل بعد ان جوعناه . واخرج الحماركثيرا من الديدان . وتعافي . وتعلمت ان لا ابيع شيئا معطوبا . وان افكر في الآخرين .
كان لمبارك نعجة ولها حملين . اراد مشتري ان يشتريها . قال له مبارك ، ان ,, ضهرا مسوس ,, وتعني انها تأكل كثيرا وتعطي لبنا قليلا . وقبل المشتري باربعة جنيهات وشكر مبارك علي امانته .
خضار السلج يعتبر خدار افرنجي . وهو اقرب الي الورق في طعمه . وله قرون تشبه الفاصوليل الخضراء الا انها ارق حجما . كنا نقطفها مرة واحدة بعد كل اسبوعين . وهي غالية الثمن . اخذنا جوز لسوق امدرمان . وقابلنا تاجر خضار في وش السوق وعرض علينا جنيهين ، وجوز البامية كان بنصف جنيه يبيعة الخضرجي باكثر من ضعف ثمنه . ورفضت انا ، متوقعا سعرا اكبر . ولكن فشلنا لان ذلك الشخص كان متخصصا في الخضار الافرنجي . واضطررنا للقبول بسعر اقل . وكنت متألما . وقال لي مبارك ,, اوعك تندم علي حاجة مافي خسارة الا الموت . وعمرك ما تعاين لي ورا عاين طوالي لي قدام ,, وهذه فلسفة مبارك رحمة الله عليه والتي اطبقها. .
اردنا شراء طوف من زريبة الحطب . وكنا نحتاج للطوف لرمي الصريمة , وهي خيط سميك بمئات السنارات وحجر ضخم . وحاججت البائع لانه طلب اكثر من جنيهين . وكنت اقول له انه لن يجد مشتري في كل امدرمان خلافنا . وحاصرت الرجل وحاججته وتابعته الي بوفيه الزريبة . واخيرا تنازل بعد ان عرف انني رباطابي مثله . وبعد ان وضعنا الطوف الكبير علي ظهر الحمار . كان مبارك يحذرني من التشدد في الشراء والبيع . لان التجارة يجب ان تكون مرضية للطرفين . وان لا يتراجع الانسان من اتفاق حتي اذا وجد سعرا مضاعفا من مشتري جديد والراجل بمسكوه من لسانو .
تلك الفترة اكسبتني خبرة عظيمة . زكتبت رواية الحنق التي تعالج مشاكل المسحوقين . وتدور حول النوتية وصائدي السمك . وهي اول رواية سياسية .والفضل لمبارك طيب الله ثراه
وعندما كانت اعقد صفقات عالمية كنت اقول للخواجات . ان استغلال ظروف الآخرين غير اخلاقي . وان اي صفقة يجب ان تكون برضاءالطرفين ، والا تعتبر عملية سطو . وكنت اتذكر نصائح مبارك . وكنت احترم وعدي . وان كان الآخرون لا يلتزمون . ومبارك طيب الله ثراه يقول كان الناس بقت كعبة ، انحنا ما بنبقي زيها .
كان يقول لي انت ياشوقي راجل تمام بس كان خليت عوتك مافي زيك , والي الان لم استطع ان اتخلص من حدتي . ولكن عندما اتذكر نصيحة مبارك اتراجع واعتذر . لقد استمعت للكثير من البروفسيرات بلغات مختلفة ولكن يبقي مبارك بسطاوي بروفسيري الاعظم ؟ امثال مبارك هم ابطال السودان الحقيقيون . وان كان المترفون والمتعلمون والمتحذلقون هم من يجد الاهتمام والاحترام ورغد العيش . وهم قد لايستحقونه . والي الآن تختلف موجة ارسالي معهم . .
شوقي بدري

shawgibadri@hotmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: طیب الله ثراه بعد ان

إقرأ أيضاً:

دكتور عطية محمد عطية في الخالدين

بسم الله الرحمن الرحيم
د. قاسم نسيم

قبل فترة،هي طويلة بحساب الشوق، قليلة بحساب الزمن، ترقى العلامة الموسوعي عبد الله حمدنا الله إلى مراقي الخلود، هو آية الحفظ والحضور في كل علوم العربية، وما اعتلق بالسودان من أدب، فصيحه ودارجه، ما فشا منه وما خفى، ينثره علينا ويضن ببعضه على التوثيق، ومفردة أخرى من مفرداته إلا وهي أغاني بناته، يستخرج من أنساقها مفاهيم مجتمعها الثقافية المستترة، بخرقة المحافظة الغليظة عندهم، المتخرمة عنده بثاقب لحظه، وكنت قد رثيته رثاءً يليق بألمعيته، متاح في الأسافير، وكيف لا وقد كان زميلي وسلوتي، ونديم خلوتي بجامعة إفريقيا العالمية، كلية اللغة العربية، فأعظم بجامعة يسعى بين جنباتها ناثر للعلم مثله.
ثم ادلهمت الحرب علينا من بعد، بهامش غير بعيد، لم يطبب علينا تقرحات الرحيل، ولم يفطم فينا رضاعة العلم من ثديه المدرار، والحرب تضربنا في موجاتها الأُول العاتيات، يرتقي مرتفقًا بصاحبه وزميله، العلامة اللغوي الفهامة الضليع، وأحد حراس العربية في بلادنا بل أفرسهم، الأب والشيخ والصديق والزميل البروفسور عمر شاع الدين، عليه رحمات الله متواليات متزاحمات، تتلوه وتسبقه ببرٍ قدمه في حياته، وعلمٍ وثَّقه في ما ناف عن الثلاثين كتابًا، وكنت قد رثيته أيضًا بكلمة وقصيدة متاحتا في الأسافير، تنما عن ألمٍ ممض لفراقٍ دون وداع أرغمتنا على اصطبار لأوائه هذه الحرب.
وها نحن ذا في خواتيمها، نستفتح نصرًا مؤزًا يقضي عليها،وفي خواتيم الشهر الفضيل، نفجع برحيل عالم النحو والصرف، وإمام وخطيب منابر الجمع، وأستاذ الفقه في بيوت الله الدكتور عطية محمد عطية، نعم لكلٍ من اسمه نصيب، فقد كان دكتور عطية، عطية من عطايا الله على خلقه، في كل وجه، ففي سوح العلم، كان مستظهرًا لفنون النحو والصرف استظهارًا قلَّ نظيره، حافظًا لمتونه، هاضمًا لشروحه، آيةً فيها حجةً ثبتًا، وكنت كثيرًا ما أسأله بالهاتف، إن استشكلت عليَّ مسألة، أو استغلق عليَّ أمرـ فيجيبني توًا بالإجابة متنًا، تتلوه الشروح والأقوال المزدحمة في المسألة، بلا تلكؤ، ولا تحمحم ولا تلعثم، كأنَّه يقرأ من كتاب، فيهدر بما لا يحويه كتاب، بل علمٌ منثور في المراجع والمظان، يستقصيه ويستحصيه ويستجليه،، فلا تندُّ عنه شاردة، ولا يشذ عنه رأي، فيركمه جميعًا أمامك،لسانه يسابق جنانه، فيطرب من فعله العالم، ويعجب طالب العلم الشادي، ويصعق من جوابه المفتقر، ويضجر من جوابه الكسول، ... بلى... كان آية من آيات الله، وعطيَّة من عطاياه ما كذب أبوه حين سماه باسمه، بل أجرى الله ذا الاسم على لسانه فكانه.
وكنت أُسائله مهاتفًا ومكافحًا، قائمًا وقاعدًا، ماشيا أو واقفًا... وعلى درج السلم، أو في ممرات الكلية، أو ربما جالسًا على كرسيه، فلا تَفْصر إجابته أو تختصر، وإنما ذاك الهدر حتى تفتأ نقول ليته سكت، رحمة بأنفسنا خوفًا من تكاثر المعارف فلا نوعبها، ، وتخالف آراء المدارس فلا نثبتها، فحديثه ما يجاريه قلم فيُكْتب، ولا يتقارحه فهم فيوثق، ثم لا يزال لسانه يرتفع وينخفض، كأنَّما فرَّ لسانه عن جنانه، وابتسامة حلوى مطبوعة في وجهه، لا تفارقه أبدًا، في حالتي الصمت والكلام، كالشامة في خدِّ الحسناء، والثفنة في وجه المصلي.
هذه البسمة علامته الكبرى المتولدة عن ضحكته الرابضة خلفها، تطلُّ انسراباتها وتخنس، هي علامته الكبرى وصفته العظمى، فما باشر إنسانًا قط إلا مبتسمًا ضاحكًا، وما قابل سائلًا قط إلا مبتسما ضاحكًا، رغم أنف زهير بن أبي سلمى وممدوحه، فذاك تراه متهللًا إذا زرته، وهذا متهللًا مبتسمًا ضاحكًا، إن زرته أو زارك، إن عرفته أو جهلته، كان يبتسم ويضحك حتى ينحني ويقصر، فتنخفض وترتفع ركبتاه في تردد وسرعة كالياي، فيضحك حتى تضحك لابتسامته وضحكه، فكأنَّه لما رأى الرحمن ما به من تلازم ابتسام وضحك، أجرى على لسانه النكتة الحلوة، يصطنعها في أي موقف، بكلِّ سهولة ويسر، وحرَّم على نفسه الغضب وعلى وجهه العبوس،، فلا ينطاع له وإن أراد اصطناعه.رسمه الله كبسمة، فإن قيل لأحدهم ارسم لنا بسمه لرسمه،
كان لا يلبس إلا الجلابية والعمة، كما يلبس الأزهريون الجبة والعمامة، وكان زاهدًا يصطنعها من أرخص الثياب، ، زاهدًا في كل شيء، حتى في أكله، وكان يفرُّ من المناصب فرارنا إليها، فقد فُوجئ بتعيينه عميدًا لكلية اللغة العربية بالجامعة، فتجهم واهتم، ثم صار كالمجنون، فكان يتحدث إلينا وإلى نفسه، ويتساءل؟ من ذا الذي وشى به إلى مدير الجامعة ليضعه في هذا الموضع، وظلَّ يتوسل الناس الإقالة، فكان القدر يأبى إلا أن يبقيه، حتى خرج من هذه الفانية وهو متقلدٌ عمادتها، لكن كانت أيامه من أخصب الأيام ، سعد فيها زملاؤه الأساتذة، وهَنِئ فيها الطلاب، فلا رهب المكاتب يعتريهم، ولا عنت الإجراءات، فلا حجاب يحجبهم عنه ولا موانع.
سيفقده طلابه الذين ما وجدوا عميدًا ألين عريكة منه، سيفقده زملاؤه فاكهة لمجالسهم ونورًا لمعارفهم، ، سيفقده العلم رجلاً من رجاله.
واليوم يرتقي دكتور عطيه؛ ليلحق بزميليه الحجتين ، عبد الله حمدنا الله وعمر شاع الدين، كان أدنانا إليهم لحاقًا، لأنه أدناهم منا علمًا، قيا مرحى له، فَلِمَ البقاء، في بلاد عجما، صرنا صمًا خرسًا، لا نعي ما يقولون، ولا يعون ما نقول، فَلِمَ البقاء إذن، فأرحم بنا أن نلحق بهداتنا، نأنس إليهم ويأنسون إلينا، نعي ما يقولون ويعون ما نقول، وتكفينا اللمحة،ونفترش البيان،ونتخذ من الخطب زرابي، ومن مسارح الشعر روابي، ألا فأسرع أيها الموت بنا إليهم، وعلى رماح عبقر يكون الركوب، وفي مستقر الرحمات فيها الوثوب، وما تأخَّر بنا يومنا، إلا لقلة علم، أو دَخَن إيمان..
خَبَرْهم أيها الراقي إلى الآباء أنَّهم دهمونا، وأنَّ الله أظهرنا عليهم، خبرهم أن جندنا مزقهم شر ممزق، وأن الطبول تضرب الآن بهجة وفرحة، خبرهم ألا قرآن بعد اليوم يخيف الأطفال، ويزعزع القلوب، ولا إلهاً عاريَّاً سيمد لمخلوقه أسباب الحياة، خبرهم أنَّا حرقنا لاهوتهم المخيف وإلههم العاري ، وأحرقنا جثته وركزنا مصحفنا فوق قلوب أطفالنا وفوق البنود، وكان الله أكبر منه فينا ومعنا، نعبده كما كنت تدرس المصلين صفاته وأسماءه.
عجبت لآساس هذه الجامعة ومن مروا على إدارتها، كيف اجتمع لهم كل هؤلاء الفحول العلماء في هذه الجامعة، فغير ما ذكرت فقد ترقى إلى الخلود قبل فترة عالم من علمائها، مر موته سريعًا فذهلت كيف فاتني نعيه إنه العلامة أبو نظيفة، فقد سمعنا من أشياخنا أنه في يوم نقاشه لرسالة الدكتوراه في جامعة الأزهر - إن لم تخني الذاكرة- قال أشياخ الأزهر: اليوم ولد لكم عالم

gasim1969@gmail.com

   

مقالات مشابهة

  • ودعنا رمضان.. وعيدكم مبارك
  • أجمل ما قيل عن شهر شوال
  • توتي يدفع مليون يورو عن التزوير الضريبي
  • بيتكوفيتش: “عيد مبارك لكل الشعب الجزائري”
  • عيد مبارك بكل اللغات... شبكة يورونيوز تتقدم لكم بأسمى التهاني بمناسبة عيد الفطر
  • في حُب وإحترام أهل الشمالية
  • عبدالله بن زايد: عيدكم مبارك
  • دكتور عطية محمد عطية في الخالدين
  • الكَمَلة والأنصاف
  • محافظ مبارك الكبير يهنئ القيادة السياسية بحلول عيد الفطر السعيد