الجزيرة:
2025-03-31@19:14:01 GMT

غزة بلا حماس.. حين تحل الكارثة

تاريخ النشر: 29th, March 2025 GMT

غزة بلا حماس.. حين تحل الكارثة

شهدت منصات التواصل الاجتماعي، خلال الأيام الماضية حراكًا نشطًا ومنظّمًا من حيث كثافة النشر بالتوازي مع مظاهرات محدودة في قطاع غزة، ركّزت في مضمونها على مطالبة حركة حماس والمقاومة الفلسطينية بالخروج من قطاع غزة، بداعي وقف إسرائيل المحتلة عدوانها على غزة، ومن ثم رفع الحصار وإشاعة الهدوء وبدء الإعمار، في إشارة غير مباشرة لتبرئة الاحتلال الإسرائيلي من الإبادة والكارثة الإنسانية التي صنعها عن قصد وتعمّد، كما ورد لسان مسؤوليه.

لسان عربي أم عبري؟

يُلاحظ أن النشاط الإعلامي، المحرّض على حركة حماس والمقاومة الفلسطينية، قد جاء بلسان عربي من داخل فلسطين وخارجها، وتقاطع مع دعوات مشابهة جاءت على لسان وزير الحرب الصهيوني يسرائيل كاتس، وتزامن مع دعوات إسرائيلية ناطقة بالعربية، وموجّهة للفلسطينيين، وهي أصوات معروفة لأمثال؛ الناطق باسم جيش الاحتلال المدعو أفيخاي أدرعي الذي غرّد على منصة إكس؛ "برّا برّا حماس تطلع برّا"، واصفًا حماس بالإرهابية، ولأمثال إيدي كوهين، الذي وجّه نداءً إلى سكان غزة، على منصّة إكس، بقوله؛ "انتفضوا ضد إرهاب حماس.. الاحتجاجات لازم تكون في كل شارع، في كل حي، بكل زاوية من غزة، خلّوهم يسمعوا صوتكم..، وجودكم بالشارع هو الرد الحقيقي على الإبادة"، وتلك الدعوات واكبها أيضًا إسقاط جيش الاحتلال منشورات من الجو على المدنيين في قطاع غزة، تحرّضهم على الخروج ضد حركة حماس والمقاومة.

إعلان

من المعلوم أن واشنطن وتل أبيب والعديد من المسؤولين الإسرائيليين والأميركيين ولا سيّما الرئيس ترامب يرون في التهجير حلًا "مثاليًا" لإنهاء الكارثة التي صنعها الاحتلال في قطاع غزة، وهذا ما لم يلقَ قبولًا فلسطينيًا ولا عربيًا ولا دوليًا، ما حدّ من إمكانية تنفيذ هذا المخطط الكارثي على الفلسطينيين والقضية الفلسطينيّة.

لكن الخطورة في الحملة الإعلامية التي يقودها البعض بالتعاون أو التساوق مع إسرائيل المحتلة، بقصد أو بغير قصد، أنّها تروّج لوقف الكارثة بكارثة أخرى أشد تنكيلًا.

قد يتراءى للبعض أن خروج المقاومة من قطاع غزة فيه خلاص من الكارثة الإنسانية التي صنعها ويرتكبها الاحتلال الإسرائيلي، وبأن الأمر لا علاقة له بالتهجير أو استدامة الكارثة والإبادة الجماعية.

بإمعان النظر في الموضوع، يمكن رصد مجموعة من الملاحظات المساعدة على كشف المآلات المحتملة لخروج المقاومة المفترض، ومنها:

اعتماد سياسة سحب الذرائع مع الاحتلال الإسرائيلي، سياسة خاطئة وكارثية، فالاحتلال الإسرائيلي عندما قام على أرض فلسطين التاريخية لم يحتَجْ إلى ذريعة، فالشعب الفلسطيني لم يعتدِ على اليهود ولم يقتلهم، ولم يرتكب المجازر بحقهم، ولم يكن سببًا لمحرقتهم في أوروبا على يد النازية، ومع ذلك قامت إسرائيل كمشروع استعماري إحلالي لاهوتي على أرض فلسطين، ما تسبّب في تهجير ثلثي الشعب الفلسطيني، وتدمير أكثر من 500 بلدة وقرية فلسطينية؛ بقصد مسح الذاكرة التاريخية الحضارية للشعب الفلسطيني.

وفي ذات السياق، الاستيطان ما زال يتمدّد في عموم الضفة الغربية، دون ذريعة مسبّبة له سوى أنه تعبير عن مشروع استيطاني إحلالي لاهوتي في العقل الصهيوني، على اعتبار أن الضفة هي يهودا والسامرة التي قامت فيها مملكتا أبناء سليمان في القدس ونابلس حسب الرواية الصهيونية.

وعلى ذات المنوال، تقوم إسرائيل المحتلة بالعدوان المستمر على سوريا واحتلال أراضيها جنوب دمشق، تعبيرًا عن أطماع استعمارية أفصح عنها وزير المالية سموتريتش، ووزير الاتصالات شلومو كرعي، بإشارتهما إلى أن حدود القدس تنتهي في دمشق.

إعلان

هذا التوجّه ينسجم أيضًا مع رؤية الرئيس ترامب لغزة فارغة من أهلها، وتحويلها إلى مشروع استثماري (ريفيرا الشرق)، ومع رؤيته لتوسيع حدود إسرائيل، عندما ألمح إلى أن إسرائيل دولة صغيرة على الخارطة.

خطورة سياسة نزع الذرائع، تعني الالتزام بشروط الاحتلال على الدوام، طلبًا للسلامة، وهذا يعني نزع عوامل القوّة لدى الشعب الفلسطيني، ما يعدّ خطيئة ترسّخ وجود الاحتلال واستدامته وغطرسته، ويغلق أبواب الأمل في التحرير والعودة وإقامة الدولة الفلسطينية.

تجربة منظمة التحرير الفلسطينية، اعتمدت طوال 35 سنة من المفاوضات على سياسة نزع الذرائع والاتكاء على القرارات الدولية، وعلى طلب الحماية من المجتمع الدولي، كما جاء على لسان الرئيس محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة بقوله؛ "احمونا".

هذه السياسة جرّت الكارثة على القضية الفلسطينية، حيث انتهت اتفاقية أوسلو، وتحوّلت السلطة من نواة للدولة الفلسطينية إلى إدارة مدنية تحت سقف الاحتلال والتعاون معه أمنيًا ضد النشطاء والفاعلين السياسيين، مقابل تغذية السلطة بالمال السياسي الذي يحافظ على ديمومتها دون هوية وطنية.

الدعوة لخروج المقاومة من قطاع غزة، فرضية تشجّع نتنياهو على المزيد من التعنّت في مفاوضات وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وتحفّزه على الاستمرار بانقلابه على ما تم الاتفاق عليه، ما دام أنه يرى شرائح من الفلسطينيين تحمّل حركة حماس والمقاومة الفلسطينية مسؤولية الكارثة التي صنعها الاحتلال، وتطالب بخروج المقاومة من قطاع غزة، كما يريد نتنياهو وحكومته المتطرفة، وهذا عمليًا يقع في خدمة الاحتلال من حيث يدري البعض أو لا يدري.

بالنظر إلى تداعيات تلك الفرضية (خروج المقاومة) على مستقبل قطاع غزّة بشكل مباشر، لا بدّ من الإشارة إلى أن الاحتلال يسعى ويجاهر بضرورة تهجير الفلسطينيين من القطاع، بدعم من إدارة الرئيس ترامب، وقد صادق مؤخّرًا على تشكيل إدارة في وزارة الحرب معنية بتهجير الفلسطينيين، ومن هنا يصبح خروجُ المقاومة وحركة حماس كقوّة مقاومة رافضة للاحتلال؛ عاملًا مساعدًا ومسهّلًا لتنفيذ الاحتلال مخططاته بتهجير الفلسطينيين المدنيين العزّل من قطاع غزة، بعد أن فشل في ذلك طوال سنة ونصفٍ مضت، بسبب صمود الشعب الفلسطيني الأسطوري، وشراسة المقاومة في الميدان.

إعلان ذاكرة دامية

التجربة الفلسطينية تؤكّد أن الاحتلال الإسرائيلي بطبعه وسياساته المعهودة، لا يحترم العهود والمواثيق والاتفاقيات، ولا يحترم القانون الدولي ولا القرارات الدولية، والشاهد السياسي القريب والحي هو مصير اتفاقيات أوسلو التي مضى عليها نحو 35 سنة، وواقع السلطة الفلسطينية التي تحوّلت من نواة للدولة الفلسطينية المفترضة، إلى مجرّد إدارة مدنية تحت الاحتلال المباشر، ولا تملك من أمرها شيئًا.

قانون القومية اليهودية الصادر عن الكنيست (البرلمان) لعام 2018، يرفض حق تقرير المصير لغير اليهود في أرض فلسطين التاريخية، ويشجّع ويدعم الاستيطان في الضفة الغربية كقيمة قومية لإسرائيل، ما يؤكّد انتهاك إسرائيل وتجاهلها القانون والقرارات الدولية التي قامت عليها اتفاقيات أوسلو التي أفضت إلى نزع سلاح المقاومة من يد الشعب الفلسطيني، وحوّلته إلى سلاح أجهزة أمنية تتعاون مع الاحتلال ضد النشطاء والمناضلين الفلسطينيين.

وقبل مسار أوسلو وفي ظل الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982، وحصار بيروت الشهير، تعالت الأصوات بخروج ياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية من لبنان كحل ضامن لحقن دماء المدنيين، حيث ضمنت الولايات المتحدة الأميركية، والأمم المتحدة، وقوى غربية حماية المخيمات الفلسطينية من الاستهداف.

بعد استجابة ياسر عرفات لتلك الدعوات، وخروج المقاتلين من لبنان بأسبوعين، وقعت مجزرة صبرا وشاتيلا المروّعة التي راح ضحيتها نحو 3 آلاف فلسطيني بمشاهد قاسية لم تستثنِ طفلًا أو امرأة أو مسنًا.

هذا وغيره في الذاكرة الفلسطينية المُرّة مع الاحتلال الإسرائيلي، يؤكّد أن التساوق مع شروط الاحتلال، والنزول عند رغباته يأخذان الفلسطينيين من سيّئ إلى أسوأ.

في المقابل، فإن المواجهة والعناد على الحق والتمسّك بالحقوق الوطنية التاريخية للشعب الفلسطيني، على عِظم تضحيات التمسّك بها، تعدّ أجدى وأقل خسارة إستراتيجيًا من الذهاب بعيدًا مع الاحتلال القائم على فكرة سلب الأرض والتخلّص من السكّان الأصليين قتلًا أو تهجيرًا.

إعلان

الدعوة إلى خروج المقاومة الفلسطينية من أرضها تعدّ توطئة لتهجير من تبقى من الشعب الفلسطيني في أرضه، ولذلك فإن واجب الوقت يُملي على الجميع الوحدة في مواجهة الاحتلال لإفشال مخططاته الاستعمارية والتهويدية لأرض فلسطين ومقدساتها الإسلامية والمسيحية.

الاحتلال لجأ إلى هذه الأساليب الملتوية، لأنه فشل في تحقيق أهدافه السياسية عبر المواجهة المباشرة مع الشعب الفلسطيني والمقاومة وحركة حماس.

مزيد من الثبات والصمود الذي لا بديل عنه، قادر على تفويت الفرصة على الاحتلال الذي يعاني بدوره من انقسامات داخلية اجتماعية وسياسية وهويّاتية بين الليبراليين والمتدينين المتطرفين، في وقت ترفض فيه أغلبية المجتمع الإسرائيلي استمرار الحرب على غزة، لما لها من تداعيات سلبية على ملف الأسرى والاقتصاد والأمن والتماسك المجتمعي.

لا شك في أن مصاب الشعب الفلسطيني كبير، والكارثة أكبر من أن توصف، والتضحيات أعظم من تعبّر عنها الكلمات، ولكن قدر الفلسطيني أن يواجه احتلالًا استئصاليًا.

فالمعركة تحوّلت من إدارة للصراع إلى صراع وجودي، الهزيمة فيه تبدأ بانكسار الإرادة وانهيار العزيمة، لأن معايير القوّة المادية عادة تكون لصالح الاحتلال، والمعيار المادي لا يُقاس عليه في قضايا تحرّر الشعوب وخلاصها، ويبقى الصبر والصمود والمقاومة والتمسّك بقوّة الحق هي مفتاح الفرج بإذن الله، ولنا في حركات التحرر الوطني عبر التاريخ لعبرة.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات والمقاومة الفلسطینیة الاحتلال الإسرائیلی المقاومة الفلسطینیة حرکة حماس والمقاومة الشعب الفلسطینی خروج المقاومة المقاومة من مع الاحتلال فی قطاع غزة من قطاع غزة التی صنعها

إقرأ أيضاً:

كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟

عندما تقرِّر الأنظمة "الديمقراطية الحرّة" المكلّلة بالشعارات القيمية المجيدة أن تدعم سياسات جائرة أو وحشية تُمارَس بحقّ آخرين في مكان ما؛ فإنها تتخيّر تغليف مسلكها الشائن هذا قيميًا وأخلاقيًا إنْ عجزت عن توريته عن أنظار شعوبها والعالم.

هذا ما جرى على وجه التعيين مع حرب الإبادة الجماعية والتطهير العرقي التي استهدفت الشعب الفلسطيني في قطاع غزة منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2023. أعلنت عواصم غربية مع بدء الحرب دعمها الاستباقي الصريح لحملة الاحتلال الإسرائيلي على القطاع؛ رغم نوايا قادة الاحتلال المعلنة لممارسة إبادة جماعية وتهجير قسري واقتراف جرائم حرب.

لم تتورّع بعض تلك العواصم عن تقديم إسناد سياسي ودبلوماسي وعسكري واقتصادي ودعائي جادت به بسخاء على قيادة الاحتلال الفاشية في حربها تلك، المبثوثة مباشرة إلى العالم أجمع.

تبيّن في الشقّ الدعائي تحديدًا أنّ الخطابات الرسمية الغربية إيّاها اغترفت من مراوغات صريحة وإيحائية تصم الضحية الفلسطيني باللؤم وتحمله مسؤولية ما يُصبّ عليه من ألوان العذاب، وتصور المحتلّ المعتدي في رداء الحِملان وتستدر بكائية مديدة عليه تسوِّغ له ضمنًا الإتيان بموبقات العصر دون مساءلة أو تأنيب، وتوفير ذرائع نمطية لجرائم الحرب التي يقترفها جيشه، وإن تراجعت وتيرة ذلك نسبيًا مع تدفقات الإحصائيات الصادمة والمشاهد المروِّعة من الميدان الغزِّي.

إعلان

ليس خافيًا أنّ المنصّات السياسية الرسمية في عواصم النفوذ الغربي تداولت مقولات نمطية محبوكة، موظّفة أساسًا لشرعنة الإبادة الجماعية ومن شأنها تسويغ كلّ الأساليب الوحشية التي تشتمل عليها؛ قصفًا وقتلًا وتدميرًا وترويعًا وتشريدًا وتجويعًا وإفقارًا.

تبدو هذه المقولات، كما يتبيّن عند تمحيصها، مؤهّلة لتبرير سياسات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وجرائم الحرب في أي مكان على ظهر الكوكب، لكنّ التقاليد الرسمية الغربية في هذا الشأن حافظت على ديباجات إنسانوية وأخلاقوية ظلّت تأتي بها لتغليف سياساتها ومواقفها الراعية للوحشية أو الداعمة لها.

من حِيَل التغليف الإنساني إظهار الانشغال المتواصل بالأوضاع الإنسانية في قطاع غزة مع الامتناع عن تحميل الاحتلال الإسرائيلي أيّ مسؤولية صريحة عن سياسة القتل الجماعي والحصار الخانق التي يتّبعها.

علاوة على إبداء حرص شكلي على "ضمان دخول المساعدات الإنسانية" وتمكين المؤسسات الإغاثية الدولية من العمل، وربّما افتعال مشاهد مصوّرة مع شحنات إنسانية يُفترض أنها تستعدّ لدخول القطاع المُحاصر، كما فعل وزير الخارجية الأميركي حينها أنتوني بلينكن أو الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أو مثل الحال التي ظهر فيها مسؤولون غربيون لدى إعلانهم في مارس/ آذار 2024 من قبرص عن مشروعهم الواعد المتمثِّل بالممرّ البحري إلى غزة، الذي تبيّن لاحقًا أنه كان فقاعة دعائية لا أكثر.

كان حديث العواصم الداعمة للإبادة عن الأوضاع الإنسانية في قطاع غزة وإبداء الحرص على إدخال المساعدات تغليفًا مثاليًا لسياساتهم الداعمة في جوهرها لفظائع الإبادة والحصار الوحشي، فقد ابتغت من هذه الحيلة التنصّل من صورة الضلوع في جرائم حرب مشهودة، وإظهار رفعة أخلاقية مزيّفة يطلبها سياسيون وسياسيات حرصوا على الظهور الأنيق على منصّات الحديث في هيئة إنسانية مُرهَفة الحسّ تلائم السردية القيمية التي تعتمدها أممهم بصفة مجرّدة عن الواقع أحيانًا.

إعلان

جرى ذلك خلال موسم الإبادة المديد في عواصم واقعة على جانبَي الأطلسي، عندما كان جو بايدن هو رئيس الولايات المتحدة. ثمّ خرج بايدن في نهاية ولايته من البيت الأبيض ولعنات المتظاهرين تطارده بصفة "جو الإبادة" التي ظلّ في مقدِّمة رعاتها ولم يَقُم بكبْحها رغم مراوغات إدارته اللفظية.

ثمّ برز دونالد ترامب في المشهد من جديد ليطيح بتقاليد المواقف والخطابات المعتمدة حتى مع حلفاء الولايات المتحدة المقرَّبين.

تقوم إطلالات ترامب على منطق آخر تمامًا، فالرئيس الآتي من خارج الجوقة السياسية التقليدية يطيب له الحديث المباشر المسدّد نحو وجهته دون مراوغات لفظية، ويتصرّف كحامل هراوة غليظة يهدِّد بها الخصوم والحلفاء، وينجح في إثارة ذهول العالم ودهشته خلال إطلالاته الإعلامية اليومية.

قد لا يبدو لبعضهم أنّ ترامب يكترث بانتقاء مفرداته، رغم أنّه يحرص كلّ الحرص على الظهور في هيئة خشنة شكلًا ومضمونًا لأجل ترهيب الأصدقاء قبل الأعداء وكي "يجعل أميركا عظيمة مجدّدًا"!.

مع إدارة دونالد ترامب، تراجع الالتزام بالأعراف الدبلوماسية والاتفاقات الدولية، إذ فضّلت الإدارة الأميركية آنذاك اعتماد خطاب مباشر وصدامي، واتباع نهج يتجاوز التقاليد السياسية المتّبعة حتى مع الحلفاء المقرّبين. وقد تجلّى هذا التحوّل في التعامل مع الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي، الذي كان حتى وقت قريب يحظى بدعم واسع في واشنطن والعواصم الغربية، قبل أن تنقلب المعادلة، ويظهر خروجه من البيت الأبيض في مشهد حمل دلالات رمزية على تغيّر السياسة الأميركية تجاه شركائها.

اختار ترامب خطاب القوة الصريحة، مع إظهار التفوّق الأميركي بوصفه أداة ضغط على الخصوم والحلفاء على حد سواء، ما عكس توجّهًا جديدًا في السياسة الخارجية يقوم على فرض الإملاءات بدل التفاهمات، وإعادة تعريف العلاقات الدولية من منظور أحادي الجانب.

إعلان

إنّها قيادة جديدة للولايات المتحدة، قائدة القاطرة الغربية، تحرص كلّ الحرص على إظهار السطوة ولا تُلقي بالًا للقوّة الناعمة ومسعى "كسب العقول والقلوب" الذي استثمرت فيه واشنطن أموالًا طائلة وجهودًا مضنية وكرّست له مشروعات وبرامج ومبادرات وخبرات وحملات منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

انتفت الحاجة مع النهج الأميركي الجديد إلى ذلك التغليف الإنساني النمطي للسياسات الجائرة والوحشية، حتى إنّ متحدِّثي المنصّات الرسمية الجُدُد في واشنطن العاصمة ما عادوا يتكلّفون مثل سابقيهم إقحام قيَم نبيلة ومبادئ سامية في مرافعات دعم الإبادة الجماعية والتطهير العرقي في قطاع غزة. وبرز من الصياغات الجديدة المعتمدة، مثلًا، ذلك التهديد العلني المُتكرِّر بـ"فتح أبواب الجحيم".

على عكس الحذر البالغ الذي أبدته إدارة بايدن في أن تظهر في هيئة داعمة علنًا لنوايا تهجير الشعب الفلسطيني من قطاع غزة خلال حملة التطهير العرقي التي مارسها الاحتلال في سياق حرب الإبادة؛ فإنّ ترامب عَقَد ألسنة العالم دهشة وعجبًا وهو يروِّج لذلك التطهير العرقي ويزيد عليه من رشفة الأحلام الاستعمارية البائدة؛ بأن يصير قطاع غزة ملكية أميركية مكرّسة لمشروعات عقارية وسياحية أخّاذة ستجعل منه ريفيرا مجرّدة من الشعب الفلسطيني، و"كَمْ يبدو ذلك رائعًا" كما كان يقول!.

لم تتغيّر السياسة الأميركية تقريبًا في فحواها المجرّد رغم بعض الفوارق الملحوظة التي يمكن رصدها، فما تغيّر أساسًا هو التغليف الذي نزعته إدارة ترامب لأنّها تفضِّل إظهار سياساتها ومواقفها ونواياها في هيئة خشنة.

ما حاجة القيادة الأميركية الجديدة بأن تتذرّع بقيم ومبادئ ومواثيق وهي التي تتباهى بإسقاط القانون الدولي حرفيًا والإجهاز على تقاليد العلاقات بين الأمم وتتبنّى نهجًا توسعيًا غريباً مع الحلفاء المقرّبين في الجغرافيا بإعلان الرغبة في ضمّ بلادهم إلى الولايات المتحدة طوعًا أو كرهًا أو الاستحواذ على ثرواتهم الدفينة ومعادنهم النادرة؟!

إعلان

أسقطت إدارة ترامب في زمن قياسي التزام واشنطن بمعاهدات ومواثيق دولية وإقليمية، وأعلنت حربًا على هيئات ووكالات تابعة لها، وخنقت هيئة المعونة الأميركية "يو إس إيد" التي تُعدّ من أذرع نفوذها وحضورها في العالم، ودأبت على الإيحاء بأنّها قد تلجأ إلى خيارات تصعيدية لم يتخيّلها أصدقاء أميركا قبل أعدائها.

قد يكون العالم مدينًا لترامب بأنّه تحديدًا من أقدم على إنهاء الحفل الخيري المزعوم ونزَع الغلاف الإنسانوي والأخلاقوي الزاهي عن سياسات جائرة ووحشية وغير إنسانية؛ يتجلّى مثالها الأوضح للعيان في حملة الإبادة الجماعية والتطهير العرقي وسياسات التجويع والتعطيش الفظيعة التي تستهدف الشعب الفلسطيني في قطاع غزة.

ذلك أنّ حبكة ترامب في فرض الإملاءات تقتضي الظهور في هيئة مستعدّة للضغط السياسي على مَن لا يرضخون له، بصرف النظر عن نيّته الحقيقية المُضمَرة، على نحو يقتضي التخلِّي عن كلّ أشكال اللباقة والتذاكي التي التزمها القادة والمتحدثون الرسميون في الولايات المتحدة ودول غربية دعمت الاحتلال والإبادة وجرائم الحرب.

أقضّت أميركا الجديدة مضاجع حلفائها وشركائها الغربيين وأربكت خطاباتهم، ولا يبدو أنّ معظم العواصم الأوروبية والغربية مستعدّة للتخلِّي عن الهيئة القيمية التي حرصت عليها في تسويق سياساتها وترويج مواقفها.

يحاول عدد من العواصم الأوروبية إظهار التمايُز عن مسلك أميركا الجديد المُحرِج لسياسات دعم الاحتلال والاستيطان والإبادة والتجويع والتهجير والتوسّع، ما اقتضى إطلاق تصريحات وبلاغات متعدِّدة تبدو حتى حينه أكثر جرأة في نقد سياسات الاحتلال في القتل الجماعي للمدنيين وتشديد الحصار الخانق على قطاع غزة، واستهداف المخيمات في الضفة الغربية وفي توسّع الاحتلال في الجنوب السوري؛ حتى من جانب لندن وبرلين اللتيْن برزتا في صدارة داعمي الإبادة وتبريرها خلال عهد بايدن.

إعلان

لعلّ أحد الاختبارات التي تواجه عواصم القرار الغربي الأخرى هو مدى الجدِّية في مواقفها تلك، المتمايزة عن واشنطن، وهل يتعلّق الأمر بالحرص المعهود على التغليف الذي نزعه ترامب؛ أم أنّ ثمة فحوى جديدة حقًّا قابلة لأن تُحدث فارقًا في السياسات ذات الصلة على المسرح الدولي؟

من المؤكّد على أي حال أنّ غزة التي تكتوي بفظائع الإبادة الوحشية وتتهدّدها نوايا قيادة الاحتلال الفاشية ستكون اختبارًا مرئيًا لتمحيص السياسات ومدى التزامها بالديباجات الأخلاقية والإنسانية التي تتكلّل بها، وأنّ السياسات الجائرة والعدوانية والوحشية صارت مؤهّلة لأن تظهر للعيان في هيئتها الصريحة كما لم يحدث مِن قبْل.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

مقالات مشابهة

  • من أوكرانيا إلى فلسطين.. العدالة التي تغيب تحت عباءة السياسة العربية
  • حركة حماس تحيي صمود أبناء الشعب الفلسطيني في غزة
  • في أول أيام العيد.. 17 شهيدًا بقصف عنيف للاحتلال على غزة
  • معاريف: حكومة نتنياهو تشتبه في أن التظاهرات التي خرجت في غزة حيلة من حماس
  • معاريف: حكومة نتنياهو تشتبه أن التظاهرات التي خرجت في غزة حيلة من حماس
  • حماس تعلن موافقتها على مقترح جديد لهدنة في غزة... وتؤكد أن "سلاح المقاومة خط أحمر"
  • رئيس حركة حماس في غزة: سلاح المقاومة خط أحمر
  • حماس تعلن من قطاع غزة أن سلاحها خط أحمر
  • كيف نزع ترامب القناع عن عملية التغليف التي يقوم بها الغرب في غزة؟